أصحاب الأخدود... عبر ودروس -10-



اصبري ... فإنك على الحق 




مركز نون للدراسات القرآنية/ فلسطين

( فأمر بالأخدود في أفواه السكك، فخدت وأضرم النيران، وقال من لم يرجع عن دينه فأحموه فيها أو قيل له اقتحم، ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها، فقال لها الغلام: يا أمه اصبري فإنك على الحق). 
لقد جن جنون الملك وفقد السيطرة نهائياً، حيث يأمر بالأخاديد أن تخد وتضرم فيها النيران، ثم يؤتى بالمؤمنين إلى الأخاديد المضطرمة الملتهبة يساومون بل يهددون بالقتل حرقاً إن لم يرجعوا عن دينهم فمن لم يرجع يلقيه الجنود في النار أو يأمروه بالاقتحام وهذه أشد على النفس من الأولى.
والملاحظة الأولى هي حالة الجنود الذين يرون كل هذه المشاهد والآيات ويظلون كأنهم مسلوبو الإرادة، أو أنهم لشدة ولائهم ومصالحهم مع النظام يفقدون إنسانيتهم وحريتهم وكرامتهم حتى لتراهم مستعدين دائماً للقيام بما لا ينبغي القيام به مهما بلغت درجة الجريمة وشدة القبح.
والأمر الثاني تكرر عبارة ( الرجوع عن الدين كشرط للبقاء على الحياة)، حيث لا تطيق الأنظمة الفرعونية من يتخذ إلها غير الحاكم الأعلى، وما يتضمنه ذلك من مشاعر انتقام عالية جداً لدى هذه الأنظمة، فهي من جهة لا تقبل ببقاء المؤمنين على قيد الحياة، وهي من جهة تختار لقتلهم أشد الطرق إيلاماً وبشاعة ولاإنسانية من مثل الشق بالمنشار والتحريق وتذبيح الأطفال، ومن جهة ثالثة لا يضيرها أن يكون هؤلاء الذين تقتلهم أفراداً أو شعوباً، آحاداً أو ألوفاً أو ملايين، ورابعاً التلذذ الذي يصاحب التقتيل والتحريق حيث يكونون شهوداً على تلك الجرائم فيستمتعون بمشاهد المؤمنين يتلظون بالنيران وبأصوات الصراخ والألم، ورائحة اللحوم المحترقة للآدميين.
وثالثة الملاحظات أن تخيير المؤمنين بين ترك الإيمان أو إلقاء أنفسهم في النار، هو عذاب فوق العذاب، والأهون على المؤمن أن يلقيه عدوه فيها حتى لا يكون كأنه هو الذي يقتل نفسه.
وحين يختار النبي صلى الله عليه وسلم لختام القصة تلك المرأة وابنها، فكأنه يقول لنا إن هذا الإيمان الجماعي، ومن بعده تلك التضحية والبطولة الجماعيتان، لم تكن فعل جماعة من الرجال فقط، بل كان فعل مجتمع مؤمن برجاله ونسائه وأطفاله.  
وحين يختار النبي صلى الله عليه وسلم هذا الختام، بما يسمى في الفن والأدب: النهاية المفتوحة، فإنه أولاً يؤكد للسامعين والقراء أن المعركة لم تنته بالتحريق في الأخاديد، وأن الذي وقع للمؤمنين هو انتصار مؤزر أدركه حتى ذلك الغلام، وأن النهاية ليست هي التي أرادها الملك بإنهاء الإيمان، إن المعركة الحقيقية ليست بقاء المؤمنين على الحياة أو موتهم، بل هي ثباتهم على الإيمان أو رجوعهم عنه، وحيث قد ثبتوا على إيمانهم وهو الحق، ولم ينصاعوا للملك بالرجوع عنه، فإنهم هم المنتصرون وهو الذي حاقت به الهزيمة.
 وفي سورة البروج ما يوحي بأن هناك من تاب حتى من أعوان الملك وجنوده، وذلك في قوله تعالى: )إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق(، فالآية من جهة تخبر عن حدث ماض فيه جماعة فتنت المؤمنين، ثم هي تتوعد الذين لم يتوبوا منهم، ما يشي بوجود قسم من التائبين، وهذا أمر متوقع، فأولاً إن مشهد البطولة الجماعي يحرك القلوب والمشاعر ويوقظ العقول، ثم إن الضغوط لا تبقى بالشدة نفسها ولا بالثقل ذاته على هؤلاء الأشخاص فإذا بهم يتحينون الفرصة كي يتخلصوا من عذابات الضمير، ويكفروا عن جريمتهم.
وفي رواية الإمام أحمد (فجاءت امرأة بابنٍ لها ترضعه)، وهو ما لم يرد في رواية الصحيح، ويخالف حديثاً آخر للرسول عليه السلام أنه لم يتكلم في المهد غير ثلاثة، ليس منهم صبي قصة الأخدود، فإننا نرى القول بأن الغلام كان مميزاً، ولعل ما أورده الإمام أحمد كان إدراجاً من أحد الرواة، ولا داعي للظن بأن مثل هذا القول من الصغار لا يكون إلا بمعجزة خارقة، فإن الأحداث الجسام التي تمر بالأمم والتحديات العظام التي تواجهها، تنضج الصغار وتنطقهم وتجعلهم أحكم من الحكماء وأفصح من كبار القادة العظماء، ويكون لهم مواقف وسلوكت يعجز عنها الكبار والأبطال.
 واللافت أن الرسول عليه السلام قد استخدم في وصف الصغير لفظ ( صبي) ثم لفظ (غلام)، والغلام أكبر وهو الذي قارب البلوغ، والصبي أصغر منه، وكأن الرسول عليه السلام بعدما أشار إلى صغر عمره أراد أن يلفت إلى أن كلامه كلام الكبار، وقد رأى الناس في فلسطين، على سبيل المثال، للصغار خلال انتفاضة 1987، وانتفاضة الأقصى وغيرهما الكثير من الأمثلة، المؤكدة لما نقول.
" إن الناس إذا تجردوا لله وعرفوا الحق وأرادوا أن يثبتوا عليه فإن الله يثبتهم بأشياء من عنده ليست من عندهم، يمدهم الله بطاقات جديدة، هذه المرأة ما كانت تتوقع أن ينطق الغلام بهذه العبارة المثبتة ( يا أمه! اصبري فإنك على الحق )" ، ولنا أن نتخيل العديد من الخواطر والإيحاءات والمشاهد والرؤى والمواقف التي أدت إلى تثبيت تلك الجموع المؤمنة في تلك الظروف العصيبة.
لقد بدأت القصة بملك يريد أن يستمر حكمه الفرعوني القائم على القهر والزيف والخداع، وانتهت بغلام يقول لأمه: اصبري، وكأن الملك هو الماضي الآفل، والدين وأهله هم المستقبل القادم.  













 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين