أسلوب المزج في القرآن

من أساليب القرآن التي تبيّن للإنسان علوّ هذا البيان وكونه كلام الله خالق الإنسان أسلوب "المزج"، إذ يمزج بين الموضوعات المختلفة في السياق الواحد، فلا نجده مرتّبا على الموضوعات كما يفعل المؤلّفون، بل تختلط فيه مسائل العقائد بالشرائع، والقصص القديم باللحظات الراهنة، والترغيب بالترهيب وغير ذلك من موضوعات تمتزج في الآية الواحدة والسياق الواحد والسورة الواحدة.

ومن أجمل ما قرأت في بيان حكمة هذا المزاج ما ذكره الحكيم الترمذي في شرحه لحديث ورد فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلّم مر ببلال يقرأ من هذه السورة ومن تلك، أي يمزج بين آيات من سور مختلفة، وحين سأله عن ذلك قال: "أخلطُ الطيب بالطيب"، فأمره أن يقرأ السورة على نحوها، أي أن يُتمّها ولا يخلط بين آيات السور. يقول الحكيم الترمذي عن بلال: "فكان يقصد من القرآن لما طيّب نفسه، فأمره أن يقرأ السورة على نحوها كما جاءت ممزوجة، والله أعلم بدواء العباد وحاجتهم فلو شاء لصنفهم أصنافا، كل صنف على حدة، ولكنه مزجها؛ ليعمل على القلوب على المزاج، فنظامه لا يوصف، ولا يفهم نظامه إلا الأنبياء والأولياء". وقال في موضع آخر: "فكان بلال رضي الله عنه يقصد لما تطيب النفوس به من آيات الرحمة، فأمره أن يقرأ على نظام رب العالمين، فهو أعلم بالشفاء؛ فإنه سماه: شفاء لما في الصدور؛ فإنّ في الصدور والنفوس داء وهي الشهوات، فإذا جاءت مواعظ الله جاءت بالشفاء معها، فذهبت بالداء، ثم مَثّلَ شأن بلال بالنحلة بقدر تغدو فتأكل حلوًا ومُرّا، ثم يمسي كله حلوًا. معناه: أن المؤمن يتلو آية الوعد فيبشر قلبه ويسره، ثم يتلو آية الوعيد فينكسر قلبه ويسوؤه ذلك، فهو بين خوف ورجاء، فهذا حلو ومرّ، ثم يطمئن إلى رحمة الله وإلى معرفته بربه، فيصير حلوًا كله. وقد ذكر في تنزيله فقال تعالى: {تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله}. فإنما اقشعرت الجلود من أهل خشيته من هول الوعيد الذي حل بقلوبهم، فهذه مرارة، ثم اطمأنت قلوبهم وجلودهم إلى ذكر الله لمّا عرفوه كريما رحيما ودودا سمحا جوادا رؤوفا، فطابت نفوسهم، ولانت جلودهم، وقلوبهم مطمئنة إلى ذكر الله". انتهى كلام الترمذي.

أما المعلّم حميد الدين الفراهي فمن روائع تدبّراته القرآنية ما ذكره في كتابه "حجج القرآن" عن أسلوب المزج هذا حيث ذكر مزج القرآن للبراهين المختلفة في الأنفس والآفاق وغير ذلك، ومزجه مسائل الألوهية بمسائل الآخرة بمسائل الرسالة، ومزجه العقائد بالأحوال والأعمال، ثم قال: "وذلك لأنّ النفسَ وما تصادفه كلاهما في حالة التركيب، فالتدبير في تعليمها هو رعاية جميع ذلك معًا، كما أنّ الطبيب يُراعي إصلاح أعضاء المريض ويركّب الدواء بحسبها". انتهى كلام الفراهي.

وهنا تفهم قيمة هذا الكتاب الذي يظنّه بعض الجهلاء من الطاعنين بدائيّا في ترتيبه لا ينطوي على نظام، بل هو نظام ربّ العالمين الأعلى الذي يعلم خصائص النفس التي خلقها، ويستهدف إصلاحها بالخطاب، ولأنّ هذه النفس تواجه العالَم الواقعي مركّبًا غير مصنّف إلى موضوعات كما يفعل المناطقة في كتبهم، فخاطبها بما ينفعها في مواجهة العالَم وتدبيره، لا بما يترتّب في تصوّرات الأذهان ولا يستقرّ في القلوب والإرادات.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين