أسرارُ الحديث في سنن الأفراد

هي ثلاث، ولا تقبل الاجتثاث، وسمتها الثبات، وبيانها في أسطرٍ معدودات:

1- لا ملجأ منك إلا إليك:

جعل الله جلَّ وعلا كونه منتظمًا بِنَسَقٍ ثابتٍ مَعلوم، وأناط به راحة العبد من الهموم والغموم، فَإِنْ خَالَفَهُ دَاهمتْهُ المَتَاعِبُ، وَسَربَلَتْهُ المَصاعِبُ، وأنا أَعِي جَيِّدًا أنَّ أُمَّتَنَا تَمُرُّ الآنَ بِغُربةٍ طالت جُلَّ الأحكام الشرعية، فكيف لو عَلِمْتَ ما صَرَّحَ بِهِ أبو الدرداء رضي الله عنه في زمن الفَضلِ والخيريَّةِ بقوله:

مَا أَعْرِفُ شَيْئًا مِمَّا كُنَّا عَلَيْهِ اليَوْمَ إِلَّا القِبْلَة؟! ابن الجوزي / صيد الخاطر ص (107). وقد عقب عليها ابن الجوزي بقوله: فقلت: واعجبًا كيف لو رآنا اليوم وما معنا من الشريعة إلا الرسم؟!

فَدَخَلَت أُمَّتُنَا بذلك مرحلة التِّيه؛ لِيَختَلِطَ العاقلُ بالسفيه، حتى استحيا المُحِقُّون من الجهر بمَعَالم شريعتهم، وَتَصَدَّى المُبطِلُون لِبَثِّ دَسائسهم، بعد أن أحسنوا تلبيسَ باطلهم ثوبَ الحق، وإيصاله إلى حيث ينبغي أن يَصِلَ الحَقُّ؛ لِيَستحكِمَ الدَّاء، وَيَعظُمَ البلاء، وَيشكُو العَبدُ مرارة الأشجان، وَحَميم الآلام والأحزان!

فَإلى متى نُعَادي أَنفُسَنَا؟! وَنُعَارك قُلوبَنَا؟! وننتقم من ذَواتِنَا؟! وَنُدَمِّر أركَاننا؟!

ألم يَأْنِ لَنَا أن نَخْرُجَ من مرحلة التِّيه والأَنِين؟! وَنجْأَرَ إلى ربِّ العالَمِين، مُتَبَتِّلِين مُنقَادِين قَائلين:

رَبَّنَـا! رَبَّنَـا.. لا مَلجَأَ وَلا مَنْجَى مِنْكَ إلا إِلَيك!

وقد أُعجِبتُ بِمَا وَفَّقَ الله سيد قطب أن ينطق به بقوله:

إنَّ البشرية لا تَفتَحُ مَغاليق فطرتها إلا بِمَفَاتيح مِن صُنعِ الله، ولا تُعالِجُ أسقامها إلا بِأَدويةٍ من عند الله، وقد جعل الله تعالى في منهجه مَفاتيح كل مُغَلَّق؛ فقال: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]، وَجَعلَ فيهِ الشفاء من كل داء فقال: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82]!

لكنَّ البشرية بِجَهالتها أَبَتْ رَدَّ القُفْل إلى صانِعِه، والمريض إلى مبدعه، مع أنها تستدعِي لإصلاحِ أدنى جهازٍ إلكتروني مهندسًا خبيرًا به، ولا تُطَبِّق ذات القاعدة على الإنسان نفسه، فتعود مُسْتَفْتِيَةً من أنشأه؛ ذلك أنه لا يعلم أسراره إلا الذي أبدعه؛ فَإِنَّهُ عليمٌ بذات الصدور، {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]!

ولذا؛ فَإِنَّ العبدَ لن يَِخرُجَ من شَقاوَتِه، ومتاعبه ومهانته، إلا إن رَدَّ فطرته إلى صانعها الكبير، كما يرد الجهاز الزهيد إلى صانعه الصغير! سيد قطب / في ظلال القرآن (1/15).

وقد ضرب الشيخُ سعيد بن مسفر مثالًا توضيحيًا بقوله:

هَبْ أَنَّكَ ذهبت بالراديو إلى النَجَّارِ لِيصلحه، فَتَنَاول مسمارًا، وفيهِ غَرَسَه، أَلا يَتَعَطَّل؟! ذلك أَنَّك لم تَعُد بِه إلى صَاحِبه الخَبير به، ومن هنا أَدْرِكْ أنَّ معرفة ماهية المخلوق لا تكونُ إلا بالرجوع إلى خَالقه؛ فَإِنَّهُ أدرى منَّا بِصَنعَتِه!

2- التناغم مع النسق الكوني، سبيل الراحة من العناء البشري:

يقول سيد قطب:

إنَّ العبد بِرُجوعه إلى الله؛ لَيَتَنَاسق مع النَّظْمِ الكوني كله، فَإِنْ تَصَادَمَ مَعهُ تَمَزَّقَ وانسَحَق؛ ذلك أَنَّه فَقَد أسرار الانتفاع به، بل إنه لَيَصطَدم مع فطرته التي بين جَنْبَيه، فَإِنَّ الإنسانَ وَصَل اليوم إلى انتصاراتٍ عِلميةٍ مُذهلةٍ، وتسهيلاتٍ حَضاريةٍ مُدهشة، لكنه ما زال يعيشُ في خواء رُوحي؛ لأنَّه فَقَدَ المنهج الذي يُنَسِّق بينه وبين حركة الكون الذي يعيش فيه!

وعليه فإنَّ انحراف الفطرة اندفاعٌ مع النَّكسَة، وانقطاعٌ عن النفخة الإلهية، فَلَيسَ لَهَا من سبيلٍ إلا العَود لِِقِيمةِ الإيمان الذي هو كَحَبْلٍ ممدودٍ بينها وبين بارئِها، فيكشف لها مواقع خطاها في المرتقى الصاعد إلى حياة الخالدين، فإنِ انقطع الحبل طُفِئَ نُورُ العبد؛ لِيَرتَكِسَ فِي المُنحَدَرِ الهَابطِ إلى أسفلِ سافلين!

ولك أسوة بعموم الكائنات:

فإنَّ الله جلَّ وعلا جَعل كونه يُسَبِّح بِحَمدِه، ويقدس له، دون أن يُخالف ذلك أكثرُ المخلوقات؛ كَالحَيَوانات والنباتات والجمادات، التي لم تُؤْتَ عقلًا يُُفَكِّر، أو لُبًا يُدَبِّر، لكنها بِخَشيَتِهَا من ربها لم تَخْرُج عن مسارِ الكون العظيم الذي أراده الله تعالى!

وقد أمتعنا القرآن الكريم بِحَديثِه عن الإخاء الإيماني بيننا وبين النَّظمِ الكَوني؛ فَحَدَّثَنا عن الملائكةِ التي تَستَغفر للمؤمنين مِنَّا، وتدعو الله لنا، ولِمَن صَلح من آبائنا وأزواجنا وذرياتنا؛ بِأَدعية قلَّ أن ندعو بها لذواتنا [والدعاء بطوله في أوائل سورة غافر، الآيات (7-9)، وقد استجابه الله في سورة الرعد (23-24)، فمثلًا: من منا دعا لذريته التي لم يرها بعد؟!]، وكيف قَاتَلَت يوم بدر معَنَا، وعن الرُّعْبِ كيف احتل قُلُوبَ عَدُوِّنَا، وهذا المطر الذي انهَمَر علينا يوم بَدْرٍ رحمةً من الله بِنَا، وتهذيبًا لأرضِنَا، وهَلَكةً لِعَدُوِّنَا، وكذا النُّعاس الذي أُنزِلَ علينا؛ أَمَنَةً من ربنا، فضلًا عن رِيحِ يوم الأحزاب التي داهمت عدوَّنَا دُونَنَا؛ فَصَيَّرت نتيجة الحَرب لِصَالِحِنَا!

وقد أتحفتنا السُنَّةُ شارحةً كتاب ربنا؛ بأنَّ غيرَنا من الكائنات يُحِبُّنَا، فهذا النبي صلى الله عليه وسلم لما آبَ قافلًا من غزوة تبوك، وأشرف على المدينة، نظر لِجَبلِ أُحُدٍ، وقال: " هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ " [صحيح البخاري، رقم الحديث: (2889)، (2/37)، وصحيح مسلم، رقم الحديث: (3378)، (4/114)، والحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه.]، فلما صعد هو وأبو بكر وعمر وعثمان عليه، ارتَجَفَ فرحًا بمن عليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " اثْبُتْ أُحُدُ؛ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدَانِ " [صحيح البخاري، رقم الحديث: (3675)، (2/210) والحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه]!

وهذا جَمَلٌ منعَ أهلَهُ ظهرَه، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أقبل نحوَه، حتَّى سجَدَ بين يديه، كما أنَّ جِذْعَ المسجد قد بكى حنينًا له، ولا عجب عندئذٍ أن تَبْكِيَ السماءُ والأرض علينا يوم موتنا، بِخِلافِ أعدائِنَا؛ {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} [الدخان: 29]!

وَمَن لَم تَبْكِ الدُّنيَا عَلَيهِ، لَم تَضْحَكِ الآخِرَةُ إِلَيهِ!

3- النجاة من الشذوذ عن الكون:

قال الله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2]

تباينت أقوال المفسرين في عدد العالمين، وهاك ألمعَ الأقوال فيها:

ذهب بعض العلماء إلى أنَّ عددها [1000عالَم]، وقال وهب بن منبه: هي [18000]، وقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: هي [40000]، وقال مقاتل: هي [80000] تفسير القرطبي (1/138)، وأنا يهمني العظة المستفادة من عدد العالمين بغض الطرف عن الترجيح بينها؛ إذ الأرقام الواردة لا برهان عليها، وهناك من توقف وقال: الله أعلم بعددها!

فهب أنها أوسط الأقوال [40000]، وقد سبق علمك بما أنزله رَبُّكَ  على نَبِيِّك صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44]؛ لِتُدرِكَ بهذا أنَّ الكَونَ كلَّهُ يَتَّجِهُ في مسيرةِ الوحدانية والطاعة المُطْلَقَةِ لله رب العالمين!

ولا يشذُّ عن هذه المسيرة الكونية، ويتجرأ بمعصيته على رب البرية؛ إلا عَالَمَا الإنس والجن، وَهُمَا العقلاء من الخلق؛ لِحِكَمٍ أَرادَها الحَقُّ عز وجل، وعلى هذا فَتَكُون المعصيةُ شُذُوذًا في مَسَارِ الكون، كَمَن سَار بِعَكسِ مسيرةٍ بشريةٍ تعدادها [40000 مشارك] فإنه يَشُقُّ طريقَهُ بِعَكسِ المَسَارِ الواجب، بل نظراتُ المَعتَبَةِ تُحِيطُ بِهِ من كُلِّ جَانب، فَثَبتَ بِذَلك أَنَّ العقلَ كلَّ العقلِ في الأَوبةِ السعيدة إلى مسار المخلوقات كُلِّهَا فِي الفرار إلى الله تعالى وحده!

أَمْـــرٌ مَعِيــــب:

قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [الرعد: 15]

رسالة الآية:

أَفَاد قتادة أن كُلَّ مخلوق يسجدُ لله طوعًا أو كرهًا؛ فأما المؤمن فيسجد طائعًا، وأما الكافر فيسجد كارهًا، وقال مقاتل ومجاهد في قوله {وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ}: إِنَّهُ ظِلُّ الكافر يُصَلِّي، وهو لا يُصَلِّي!

وقال الحسن البصري: ألا ترى إلى الكافر؟ فَإِنَّ ظِلالَهُ جَسَدُهُ كله، فأعضاؤه مطيعة لله، وقلبه كافرٌ شاردٌ عن طاعة الله تعالى [تفسير الطبري (16/403-404)، تفسير ابن كثير (4/446)، السيوطي / الدر المنثور (4/630).]

فاصطلحْ مع نفسك، وانسجمْ مع الكون من حولك، وَأْتِ رَبَّكَ طَوعًا، قبل أن تُسَاق إليه كرهًا، فمن عمل صالحًا فَلِنَفسِه، ومن ضَلَّ فإنما يَضِلُّ عَليهَا!

مُصارحـةٌ عَلَنِيَّــة

أخي عديم الصبر:

إن عارًا عظيمًا يلحقك، وخسرانًا مبينًا ينتظرك، ذلك أنَّ الله تعالى رَزقَكَ جَنَّةً أنتَ فِيهَا من الخالدين، لا يَمَسُّكَ فيها نَصَبٌ، وما أنت منها من المُخْرَجِين، ثم آتاك الله فيهَا شرابًا طهورًا، وَرِزْقًا مَمْدُودًا، ومنَّ عليك بِنَسَبٍ ذَهبيٍّ نَفيس، فيه آدم وإدريس، ونوح وإبراهيم وإسحاق ويعقوب، وهارون وموسى، وزكريا ويحيى وعيسى، ومحمدٌ وصَحْبُه، ثم تَعجزُ أن تَصبِرَ ساعة!

أَيُرضِيك أن تشتري الغواية بالهداية؟! سقوطًا عند شهوةٍ أو زيف دنيا؟! أتستبدل في ساحة القيامة المرسلين بالشياطين، والصحابة بِلُعَابة، والأخيار بالفجار؟! فَعُدِ الآن إلى ربك قبل مرور لحظتك هذه؛ ففي لحظة واحدة قد أَفْلَح السَّحَرَة عندما أُلقوا ساجدين قائلين: آمنا برب موسى وهارون!!

المجنون الحقيقي:

وتأسيسًا على مَا مَرَّ بِنَا؛ فَإِنَّ الذي يَهجر السُّنَنَ الإلهية، ويعصي ربَّ البرية؛ لهو مجنونٌ مجنون!

فإذا كان المَجنون في لغة الفقهاء الذي غاب عقله؛ فإن المجنون في عُرْفِ كتابنا من عَرَف سبيلَ السَّعدِ، وأدرك مَسَار الرُّشْدِ، وَبَات على مَقرُبَةٍ من الوصول لِرَبِّه، ثم ألقى بالسنن وراءه ظِهرِيًّا، وَقَبِلَ بِحَياةِ الذُلِّ والضَنَكِ والفتن والمحن خَيارًا أبديًا، فأخبرنِي بالله عليك، أيُّ عَقلٍ في فُؤادِ هذا؟!

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين