أسباب وحِكمة موافقة النبي صلى الله عليه وسلم ومخالفته  اليهود في صيام عاشوراء

أولا : حكمة الموافقة فى صيامه  صلى الله عليه وسلم ليوم العاشر من المحرم مراعاة لحقوق الأخوة بينه وبين موسي عليه السلام عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المَدِينَةَ وَجَدَ اليَهُودَ يَصُومُونَ عَاشُورَاءَ، فَسُئِلُوا عَنْ ذَلِكَ، فَقَالُوا: هَذَا اليَوْمُ الَّذِي أَظْفَرَ اللَّهُ فِيهِ مُوسَى، وَبَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى فِرْعَوْنَ، وَنَحْنُ نَصُومُهُ تَعْظِيمًا لَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَحْنُ أَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ، ثُمَّ أَمَرَ بِصَوْمِهِ»[1]-

وهذه أي صيام الرسول صلوات الله وسلامه عليه - يوم عاشوراء مراعاة لحقوق الأخوة بينه وبين موسي الرسول عليه السلام - لها أخت أخرى يوم أن أمكنه الله تعالى من عفريت ليلا وأراد أن يربطه بعمود من أعمدة المسجد فتذكر دعوة أخيه سليمان عليه السلام "رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ * فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ* وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ * هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ"[2] فلهذا أطلق سراحه ، عن أَبى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ فَصَلَّى صَلَاةَ الصُّبْحِ، وَهُوَ خَلْفَهُ، فَقَرَأَ، فَالْتَبَسَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ: " لَوْ رَأَيْتُمُونِي وَإِبْلِيسَ، فَأَهْوَيْتُ بِيَدِي، فَمَا زِلْتُ أَخْنُقُهُ حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ لُعَابِهِ بَيْنَ إِصْبَعَيَّ هَاتَيْنِ - الْإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا - وَلَوْلَا دَعْوَةُ أَخِي سُلَيْمَانَ، لَأَصْبَحَ مَرْبُوطًا بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، يَتَلَاعَبُ بِهِ صِبْيَانُ الْمَدِينَةِ"[3] من هذين النموذجين يتعلم المسلم فى حياته مراعاة حقوق أخوة الإيمان - ومنها شكر الله على نعمه على أخيك وإن تباعد بينكما الزمان والمكان والفضل ، ومراعاة الخصوصية وعدم تمنى ما فضل الله به بعضكم على بعض - وإن اختلف الزمان والمكان فكم بين محمد وموسي وسليمان عليهم الصلاة والسلام من الزمان والمكان والدرجات ؟؟ وهو درس بليغ مراعاة، من معلم البشرية الأول الذي بُعث ليتمم مكارم الأخلاق ، ولهذا يشكر المسلم ربه صباح مساء على نعمه عليه وعلى إخوانه" عبد الله بن غنام البياضي - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَنْ قال حين يُصبحُ: اللَّهمَّ ما أصبحَ بي من نعْمَةٍ، أو بأحدٍ من خَلْقِكَ، فَإِنَّها مِنْكَ وحدَكَ، لا شَريكَ لَكَ، لَكَ الحمدُ، ولك الشُّكْرُ، فقد أدَّى شُكْرَ يَوْمِهِ، وَمَنْ قال مِثلَ ذلك حين يُمسْي، فقد أدَّى شُكْرَ لَيلَتِهِ»[4]

 

ثانيا : حِكْمة مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم اليهود فى صيام عاشوراء بصيام اليومين قبله وبعده مع العاشر أو أحد اليومين معه ؛  لقد قصد النبي صلى الله عليه وسلم مخالفة اليهود والمشركين وغيرهم قصداً كما ورد عنه عليه الصلاة والسلام: (خالفوا المشركين) في رواية البخاري لأسباب كثيرة، وحكم عظيمة منها :

 

1-حتى لا تكون الموافقة الدائمة مدخلاً لإثارة اليهود وغيرهم الشبهات، فإنهم قد يقولون: إن المسلمين إنما فعلوا ذلك موافقة لنا، ومتابعة لنا، وليس عندهم شيء، وما جاءوا به إنما هو من آثار ديننا وكتابنا، بلبلةً للعقول والأفكار، وترويجا للشبهات، فذلك ديدنهم، كما حدث فى تحويل القبلة فقد استقبل النبي صلى الله عليه وسلم بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا ، ثم تحول إلى الكعبة  فاتخذ اليهود هذا التحوُّل ذريعة للتشويش على المسلمين، وإدخال البلبلة والاضطراب على معتقدهم ، فأذاعوا أن محمدا صلوات الله وسلامه عليه إنما فعل ذلك على حساب عقيدته ، وأن بيت المقدس هو قبلة الأنبياء جميعا، فكيف استباح محمد لنفسه أن يخرج على شريعة الأنبياء وهو الذي يدعو إلى الإيمان بهم جميعا؟ فإذا كان دينه من عند الله، فهذا الذي فعله هو إبطال لهذا الدين ، وأما إذا كان ما يدعو إليه من دين هو من عنده وعمله، فإن له أن يغيّر فيه ويبدّل كيف يشاء، لكن على ألا يتحكك بالأديان السماوية، وألا يعقد صلة بينه وبين الأنبياء.! بمثل هذه التخرصات قابل اليهود المسلمين وألقوا على ألسنة المنافقين ومن فى قلوبهم مرض حتى لقد وقع عند بعض المسلمين أن صلاتهم التي اتجهوا بها إلى بيت المقدس لم تكن قائمة على وجهها الصحيح، ولهذا أمرهم الله بالتحول إلى البيت الحرام! فتولى  الله عز وجل الرد عليهم بأن ذلك عن أمره وهذا حكمه، واختباره لصدق الأتباع فى الاتِّباع وجعل ذلك سبيلا للتميز والتفرد لأمة الإسلام. "سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ"[5]  وأن صلاتهم إلى بيت  المقدس لن تضيع " ..وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ"[6]

 

2- منها : منع تسرب الأثر السيئ للموافقة؛ لأن طبيعة النفوس إذا وافقت في أمر وآخر وثالث فإنها تميل بعد ذلك إلى موافقة عامة فقطع النبي صلى الله عليه وسلم دابر ذلك ، فكانت الدعوة إلى المخالفة بصيام اليومين قبله وبعده معه ، أو أحدهما معه ، وليست المخالفة في هذا الوجه فحسب، بل لها نظائر كثيرة لمن تأمل وتدبر ، فعن شداد بن أوس عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: («خَالِفُوا الْيَهُودَ فَإِنَّهُمْ لَا يُصَلُّونَ فِي نِعَالِهِمْ، وَلَا خِفَافِهِمْ)[7]..وعند مسلم (خالفوا المجوس، أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى)، فقصد المخالفة لبيان التميز والتفرد فى الآذان عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ حِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ يَجْتَمِعُونَ فَيَتَحَيَّنُونَ الصَّلَوَاتِ، وَلَيْسَ يُنَادِي بِهَا أَحَدٌ، فَتَكَلَّمُوا يَوْمًا فِي ذَلِكَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: اتَّخِذُوا نَاقُوسًا مِثْلَ نَاقُوسِ النَّصَارَى، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَرْنًا مِثْلَ قَرْنِ الْيَهُودِ، فَقَالَ عُمَرُ أَوَلَا تَبْعَثُونَ رَجُلًا يُنَادِي بِالصَّلَاةِ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا بِلَالُ قُمْ فَنَادِ بِالصَّلَاةِ»[8] ومن ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة:104] لم تبدل كلمة مكان كلمة وإنما نهى الله تعالى المؤمنين أن يتشبهوا بالكافرين في مقالهم وفعالهم ، لأن اليهود كانوا إذا أرادوا أن يقولوا: اسمع لنا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: راعنا، يُورُّون بالرعونة، يقولون: راعنا، ويقصدون الرعونة والطيش والخفة، ينتقصون بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويستهزئون به، ويُحرِّفون الكلم عن مواضعه، ويلوون ألسنتهم بذلك طعناً في الدين، فنهى الله عز وجل عن ذلك. وهناك أمثلة كثيرة من أراد المزيد منها فليطالع كتاب اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم

 

3- منها كذلك: بيان زيادة الفضل والمثوبة والأجر لأمة الإسلام بزيادة العمل الصالح ، فهذا العمل الصالح تتحقق فيه أكثر من نية صالحة فضلا عن الاقتداء والتأسي بالمصطفى صلوات الله وسلامه عليه ، شكرا لله تعالى على إغراق عدو الله ، فما يُصيب العدو من مضرَّة يُدخل على القلب المسرَّة ، ونجاة نبيه موسي عليه السلام ، وكفارة لذنوبنا ، أضف إلى ذلك التباعد عن النار سبعين خريفا. وسائر فضائل ومنافع الصيام. هذا وبالله التوفيق ومنه وحده العصمة من الزلل والخطأ والخلل فى القول والعمل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]  صحيح البخاري كتاب مناقب الأنصار بَابُ إِتْيَانِ اليَهُودِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ قَدِمَ المَدِينَةَ

[2] ص: 35- 39

[3] مسند الإمام أحمد بن حنبل

[4] سنن أبى داود في الأدب، باب ما يقول إذا أصبح

[5] البقرة :(142)

[6] البقرة : (143)

[7] صحيح سنن أبى داود كِتَاب الصَّلَاةِ بَابُ الصَّلَاةِ فِي النَّعْلِ حديث رقم ( 652)

[8] صحيح البخاري كِتَابُ الأَذَانِ بَابُ بَدْءِ الأَذَانِمسلم في الصلاة باب بدء الأذان

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين