أسباب هلاك الأمم -1-


هذه خطبة قديمة للمشرف على الموقع قام الأستاذ طارق عبد الحميد قباوة شكر الله له بطباعتها ، وها نحن نجدد نشرها في 3 حلقات متتاليات

الشيخ: مجد مكي


من واجب الإنسان أن يكون دائم الاعتبار بالأمم الخالية، والأجيال الغابرة، يتفكَّر في أحوالهم، ويتَّعظ بما حلَّ بهم من العقاب والنكال، وليذهب في بقاع الأرض وأصقاعها لينظر حالهم ويتَّعظ بآثارهم وبقاياهم، وقد كان فيهم من هم أظلم وأطغى وأعتى من هذه الأمَّة، كما يقول تعالى: [وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى(50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى(51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى(52) وَالمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى(53)]. {النَّجم}.. [50 ـ 54] فهو سبحانه أهلك عاداً الأولى، قومَ هودٍ بريح صرصر، وأهلك ثمود، قومَ صالح بالصَّيْحة، فما أبقى منهم أحداً، وأهلك قوم نوح بالغرق من قبل إهلاكه عاداً وثمودَ؛ إنَّهم كانوا هم أعظم كفراً وأشد تمرُّداً من عاد وثمود، لطول دعوة نوح إيَّاهم، وعتوِّهم على الله بالمعصية والتكذيب، وقرى قوم لوط رفعها جبريل إلى السماء بأهلها المجرمين، ثم أهوى بها إلى الأرض، فنزل عليها من فوقها شيء عظيم مهولٌ سترها كلَّها، فدمّرها تدميراً شاملاً بالحجارة المنضودة المُسوَّمة.


وقد أهلك الله عزَّ وجل أمماً وأقواماً وقروناً وأجيالاً كانوا أشدَّ منا قوة، وأطول أعماراً، وأكثر أموالاً، فأستأصلهم وأبادهم ولم يبقَ لهم ذكر ولا أثر: وتركوا وراءهم قُصوراً مُشيَّدة، وآباراً مُعطَّلة، و أراضي خالية، ونعمة كانوا فيها فاكهين، وأورث الله كلَّ ذلك قوماً آخرين، فما بكت عليهم السماء الأرض وما كانوا مُنظَرين.


قال الله تعالى: [أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ] {الأنعام:6}.


أي: ألم يَرَ هؤلاء المُكذِّبون بآياتي أنا أهلكنا قَبْلهم أعداداً كثيرةً من الأمم الماضية المُقْتَرنة في زمنٍ واحد، أعطيْناهم في أرضهم من القوَّة والبسْطة في الأجسام والأموال ما لم نُعطكم يا أهلَ مكة، وأرسَلنا المطر عليهم غزيراً مُتَتَابعاً كثيراً في أوقات الحاجة؛ رحمةً منا وإنعاماً، وأجرَيْنا لهم المياه العَذْبة في الأنهار بعد إنزالها من السماء، تجري في مجاريها تحت مستوى سطح الأرض، فعاشوا في خصْب وسَعَة، ومع ذلك التمكين وهذه القوة أهلكناهم بسبب ذنوبهم وكفرهم، وأنشأنا بسُنَّة التكامل المُتدرِّج من بعد هلاكهم قوماً آخرين بدلاً منهم، أفلا يعتبر أهل مكة بذلك فلا يستمرُّوا في كفرهم وعنادهم!


وقال سبحانه:[وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا] {الطَّلاق:8}. [8، 9 ـ] أي: وكثيرٌ من أهل مُجمَّعات سكنية عَصَوْا وطَغَوْا عن أمر ربِّهم، وأمر رسله، فحاسبناهم حساباً شديداً بالتدقيق والاستقصاء لكلِّ ذنوبهم، فلم نغادر منه شيئاً، وعذَّبناهم عذاباً مُنكراً فظيعاً،


وقال تعالى:[فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ] {الحج:45}.أي: إن عددا كثيرا من المجمَّعات السكنية، أهلكها الله تعالى بعذاب شامل ، استأصلهم جميعا، وأهلُ هذه المجمَّعات السكنية ظالمون بكفرهم ومقاومتهم لدعوة الحق الربانية ، فهي فارغة لا ساكن فيها، ساقطة جدرانها على سقوفها، وكم من بئر متروكة لا يستقي منها الواردون لهلاك أهلها ؟؟!! وكم من قصر رفيع طويل عالٍ أخليناه من ساكنيه بإهلاكهم ؟!!


أنواع الهلاك :
وعذاب الله تعالى وعقابه للأمم مُتنوِّع مختلف، فقد يكون صاعقة، أو غرقاً، أو فيضاناً، أو ريحاً، أو خَسْفاً، أو قحطاً ومجاعة، أو فتناً بين الناس واختلافاً، أو مطراً بالحجارة، أو رجفة.


1 ـ يقول الله سبحانه في الصاعقة: [ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ] {الذاريات:44}. أي:، فأخذت أخذا شديدا أليما قبيلة «ثمود» قوم الرسول صالح صاعقةُ العذاب المُهْلكة لهم، وهم يَرَوْن ذلك العذاب عياناً.


2 ـ ويقول تعالى في الغرق بالبحر : [فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي اليَمِّ] {الأعراف:136}. [فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ] {الأنبياء:77}.


3 ـ ويقول في الفيضان والطوفان:[ فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ] {العنكبوت:14}. أخذ قوم نوح الماء الكثير الذي طاف بهم وعلاهم، أَخْذَ إهلاكٍ مُسْتأصلٍ، وكان إهلاكهم غرقاً في حال أنهم ظالمون كَفَرة مجرمون


4 ـ ويقول عزوجل في الصيحة الشديدة والريح العاتية:[وَأَمَّا ثمود فأهلكوا بالطاغية وأما عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ] {الحاقَّة:6}. أهلك الله تعالى ثمودَ قومَ صالح بالصَّيحة الشديدة المجاوزة الحد في القوة، وأمَّا عاد فأُهلكوا بريح باردةٍ شديدة الصوت، قاتلة مدمِّرة، متجاوزةٍ الحدَّ في شدَّتها، فلم يقدروا عليها مع شدَّتهم وقوَّتهم، أرسلها وسلَّطها عليهم بقضائه وقدره سبعَ ليال وثمانية أيام ذات برد وريح شديد، متتابعة متوالية في الشرِّ والتعذيب ليس لها فتور ولا انقطاع، لحسم مادتهم واستئصالهم، فترى القوم في تلك الليالي والأيام هَلكى مقتولين مرميُّون تبدو أسافلهم قد بليتْ حتى غدت أجوافها خالية، كأنهم أصول نخل خالية الأجواف، بالية لا شيء فيها، فهل ترى لهؤلاء القوم ـ أيُّها الباحث عنهم في أرضهم ـ من نفسٍ باقيةٍ دون هلاك؟


5 ـ ويقول سبحانه في عذاب الخسف:[فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ] {القصص:81} . فَأَتْبعنا استعراضَ قارون الكيديَّ التَّضليليَّ، بما يمحو آثارَهُ من نفوس الجمهور الأعظم من الإسرائيليين محواً كُليّاً، فَخَسفنا بقارون وبداره الأرض، فابتلعته هو وداره بما فيها من أموال وزينة، لقد غيَّبته الأرض، وغيَّبت داره وكنوزه في باطنها..


6 ـ ويقول سبحانه في القحط والمجاعات والابتلاء بالحسنات والسيئات:[ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ] {الأعراف:168}. اخْتبرالله بني إسرائيل جميعاً بالخِصب والعافية، والجدب والشدَّة؛ رغبةً في أن يرجعوا إلى طاعة ربِّهم ويتوبوا إليه.


7 ـ ويقول سبحانه في أنواع من العذاب منها الاختلاف والتشيع الذي يؤدي إلى اختلاط الحقائق والنزاعات والحروب المدمرة :[قُلْ هُوَ القَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ] {الأنعام:65} .أي: قل ـ يا رسول الله ـ لقومك: إنَّ الله هو القادر على أن يَبْعثَ عليكم وسائل تعذيب لكم، تُصبُّ عليكم من فوقكم كالرَّجْم والطُّوفان، أو من تحت أرجلكم كالخَسْفِ والرَّجفة، أو يَخلِطكم فيجعلكُم فِرَقاً مختلفين، وبذلك يذوق بعضكم بأس بعض، بالتسلُّط بالحروب المُدمِّرة للأفراد والأُسر والجماعات. انظُر ـ أيها الناظر المتفكر ـ كيف نُنوِّع دلائلَنا وحُجَجنا لهؤلاء المُكذِّبين، ونكرِّرها بأساليب مختلفة؛ رغبةً منا أن يفهموا حقائق الأمور، فيرجعوا عمَّا هم عليه من الكفر والتكذيب.


8 ـ ويقول تعالى في مسخ الصُّوَر:[فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ] {الأعراف:166}.فلمَّا تجاوز بنو إسرائيل حدودَ المعاصي مُستنكفينَ عن طاعة الله بترك ما نُهُوا عنه، من العدوان على حُرمة يوم السبت، قلنا لهم: كونوا قِرَدةً أذلاّء مَطْرودين مُبْعَدينَ عن كلِّ خير. فَمَسَخ الله صُوَر أجسادهم، فجعلها على صور أجساد القرود.


9 ـ ويقول تعالى في المطر بالحجارة:[فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ] {الحجر:74}، وقال سبحانه: [فلمَّا جاء أمرنا جعلنا عاليَها سافلَها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ] {هود:82-83}. فلمَّا جاء وقت تنفيذ أمْرِنا بتعذيب قوم لوط وإهلاكهم، رفعنا أرضهم التي عليها قُراهُم في الجوِّ، وقلبناها حتى صار أعلاها أسْفَلَها، وصار أسفلُها أعلاها، وأمْطَرنا على شُذَّاذها ـ بعد قَلْب قُراهم ـ حجارةً من طين مُتَصلِّب منضمٍّ بعضه إلى بعض باتِّساق وتراصُف مُنْتَظِم. حالة كونها مُعَلَّمةً عند ربِّك بعلامةٍ معروفة، تخصُّ مُجرمي قومِ لوطٍ، وما تلك الحجارة التي أمطرها الله على قوم لوط من كلِّ الظالمين الذين يستحقُّون الإهلاك بها بمكانٍ بعيد عنهم.


10 ـ ويقول تعالى في الرجفة، وهي التحرك والاضطراب:[فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي

دَارِهِمْ جَاثِمِينَ] {الأعراف:78}.

أهكت قومَ ثمود الصَّيْحة المصحوبة بالزلزلة الشَّديدة من تحتهم، فأصبحوا في موضعهم موتى لا يتحرَّكون، لاصقين بالأرض على رُكبهم ووجوههم، لم يفلت منهم أحد.


* * *

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين