أسباب الداء

 

إن أعدادا كبيرة من المتدينين تائهون في هذه الموضوعات.. وقد استقلت الباكستان من ثلث قرن.. ولكن الخلاف بين الأحناف وأهل الحديث، وبين التبليغيين ورجال الجماعة الإسلامية، وبين فرق أخرى نسيت أسماءها.. هذا الخلاف جعل الهند الوثنية تطفر وتستقر وتفجر الذرة. 

أما الدولة المسلمة فهي منتكثة الشمل داخل فنون من النزاع الطائش قصم ظهرها وهدد وجودها! إن هذا الدوخان في دوامة الرسوم والمظاهر، أو في دائرة هيئات العبادة وأقدارها نشأ عنه أمران خطيران.. كلاهما يهوى بالأمم من حالق، ويذهب بريحها. الأول ضعف الخلق.. فقد نرى الرجل دقيقا في التزام المندوبات الخفيفة.. فإذا كان تاجرا احتكر السلع دون مبالاة، وإذا كان موظفا تبلدت مشاعره في قضاء مصالح الجمهور، وإذا كان رئيسا وجدته سيئ الملكة، قاسى القلب، مكشوف الهوى. وقد ترى العابد من هؤلاء يضع يديه على صدره وهو قائم للصلاة ثم يعيد وضعهما بعد الرفع من الركوع، ويثير زوبعة على ضرورة ذلك.. فإذا كلفته بعمل ترقى به الأمة اختفي من الساحة!! وكم تفتقر أمتنا داخل البيوت، وأوساط الشوارع، وفي الدكاكين والدواوين، وفي الأسواق والمعاهد، وفي كل مكان، إلى الأخلاق الضابطة الصارمة كي تؤدى رسالتها الجليلة على نحو جدير بالاحترام.. ولكن الاكتراث بالمراسم غض من هذه الأخلاق. أما الأمر الثاني فهو العجز العجيب عن فقه الدنيا.. والاقتدار على تسخيرها لخدمة الدين.. إن الدين الحق تقوى تعمر القلوب، من العبادات لا يستغرق تعلمها زمانا. 

ثم مهارة في شئون الحياة تتحول مع صدق النية إلى وسائل لدعم الحق وسيادته. إن تعلم الصلاة ـ وهي الركن الأول في الإسلام ـ لا يستغرق دقائق معدودات.. ولكن التدرب على اقتياد دبابة أو طائرة أو غواصة يحتاج إلى زمان طويل.. فبأي فكر يطلع علينا القرن الخامس عشر وجمهورنا جاهل في فنون الجهاد، وبارع في الحديث حول تحية المسجد، ووضع اليدين في الصلاة؟ 

إن هناك علماء ـ هم في حقيقتهم عوام ـ لا شغل لهم إلا هذه الثرثرات والتقعرات، وقد أضاعوا أمتهم، وخلفوا أجيالاً من بعدهم لا هي في دنيا ولا هي في دين!! 

نجحوا وفشلنا. وقد تأذنت الأقدار بقيام إسرائيل على أرض فلسطين الإسلامية.. فهل مددنا أبصارنا لنعرف كيف يحيا القوم وكيف ينصرون اليهودية؟! لقد بنوا وجودهم على إقامة مجتمع صناعي متمرس بالعلوم المادية، خبير بأسرار الكون.. يستغل الهواء والشعاع لدعم إسرائيل وتبويئها الذروة...! 

المراوح تستخدم لاستخراج المياه الجوفية، والشمس تستغل لتسخين المياه...!! وجن سليمان ينظرون إلى العرب الذين ينشدون اللذة، أو العرب المشغولين بقشور العبادة.. على أنهم قطعان تسرح في أقطارها إلى حين..! 

لماذا جهلنا أسرار الحياة.. وعمينا عن قوى الكون.. ولدينا كتاب لا نظير له في لفت الأبصار إلى هذه وتلك؟! بم شغلنا؟ وما هي البحوث والقضايا التي حبست أفكار العامة والخاصة؟! إذا كان الآباء قد شغلهم الترف العقلي.. فإن الأبناء قد شغلهم السخف العقلي. في رسالة عن التقدم العلمي داخل إسرائيل قرأت هذه العبارات عن الدولة التي تبنى نفسها فوق أنقاضنا قال الكاتب: إن فشلها في الحصول على طاقة كهربائية رخيصة من المصادر المائية قد جعل معظم الأبحاث العلمية التطبيقية تتجه نحو إيجاد بديل للطاقة الكهربائية.. مثل الطاقة الهوائية والشمسية والذرية. 

وقال: نجح الجيولوجيون في إيجاد المياه اللازمة للمزارع القريبة من شاطئ المتوسط، ويعمل الخبراء في حفر عدد كبير من الآبار الارتوازية في منطقتي الجليل ويهودا.. 

كما أن خبراء الري قد استخدموا أحدث الطرق الفنية في شق القنوات لتحويل مياه الأردن إلى صحراء النقب. 

وأقيم في إيلات مصنع لفصل الملح عن الماء على هذا الأساس ينتج يوميا 24000 لتر من الماء العذب.

هكذا يبنى اليهود دولتهم في فلسطين تحت علم إسرائيل.. فماذا يصنع المسلمون في أقطارهم الفيحاء؟!

عندما شكا رئيس وزراء مصر السابق الدكتور مصطفى خليل من أن الدولة تدفع أربعة جنيهات ثمناً لعبوة أنبوبة (البوتاجاز) تساءلت: أين الطاقة الشمسية؟ ولماذا استغلت في فلسطين المسروقة، ولم تستغل في أراضينا الواسعة؟ لقد قال حافظ إبراهيم من خمسين سنة:

شمسهم غادة عليها حجاب= شمسنا غادة جلاها السفور

هل نحن مهرة في الغزل وحسب؟ وأين صراخ علماء الدين بإعداد ما نستطيع من قوة؟

لا صراخ ولا همس!.. لأن هناك شغلاً بقضايا وخلافات فرعية.

والصغار دائما يهتمون بالصغائر فإذا رأيت من يهتم اهتماماً هائلاً بقبض اليدين في الصلاة.. أهو فوق السرة أم أعلى الصدر.. ويستثير ذلك أعصابه أكثر مما يستثيره قتل عشرة آلاف مسلم في (تشاد) فاعلم أنك أمام مسخ من الخلق لا يؤمن على دين الله ولا دنيا الناس.. وهذا النفر من المتدينين عبء على الأرض والسماء.

والأمة التي تسلم زمامها إلى هذا الإنسان المخبول إنما تسلمه لجزار.

ودين الله أشرف من أن يتحدث فيه هؤلاء الحمقى.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر كتاب الفساد السياسي

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين