أساس الإسلام

الأستاذ : أحمد أمين بك

من أروع ما في الإسلام وصفه لله، فالله هو رب العالمين، عالم الجماد، وعالم النبات، وعالم الحيوان، وعالم الإنسان ،وعالم المجموعة الشمسيَّة، وعالم غير المجموعة الشمسيَّة مما نعلم وما لا نعلم، وهو واحد أحد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد.
هو الذي خلق الخلق أولا، ثم هو الذي يمده بالحياة دائماً، وهو الذي يدبِّر نظامه ويسيِّره إلى غايته، فعلاقته بمخلوقاته لا تنقطع، ولو انقطعت لحظة لفسدت السموات والأرض ومن فيهما ، وهذا هو الذي يميِّز العقيدة الإسلامية عما يعتقده الأوروبيون اليوم فهم يعتقدون أن الله خلق الخلق وتركه يدبِّر نفسه كما شاء ويدبِّرونه هم في دنياهم كما يشاءون، فهم الذين يقررون الفضائل والرذائل، وهم الذين يسنُّون قوانينهم وشرائعهم حسبما يتراءي لهم، فإذا ذكروا الله في أوقات الشدة ـ كأوقات الأزمات الحرجة في الحرب ـ فكل أمة تدَّعي أنه معها، وتستنجده في النصرة علي عدوها، كأنَّ الله تعالى خادمها لا المسيطر على العالم كله يصرِّفه ويقضي فيه حسب سنَّته التي رسمها.
فميزة العقيدة الإسلامية أنها تصفه بالخالق، وتصفه بأنه يرعى العالم دائماً ويهديه سبله دائماً، وتطلب من الإنسان أن يوثِّق علاقته بربِّه فيرعى أوامره ونواهيه في كل تصرفاته، ويطلب منه الهداية ويؤسس نظرته إلى الأخلاق على ما أمر الله به أو نهى عنه، ويشكل حياته الفردية والاجتماعية حسب تعاليمه ، ويجدّ في اكتشاف إرادة الله فيتبعها، ويدقق في فهم إشاراته فيعمل على وفقها، ويجعل صلته بالله أقوى صلة، وحبه لله أقوى حب، والخوف منه أكبر خوف، يؤمن أن لا شيء في الوجود يستطيع أن يبقى لحظة من غير إمداده، هو أول الخلق وآخره، بمعنى أنه السبب في خلقه، والغاية التي ينتهي إليها وجوده، وهو الذي وضع للناس القواعد الأخلاقية الأساسية لسيرهم، وربط الأمر والنهي بما ينفعهم وما يضرهم، فأمر بما ينفع، ونهى عمَّا يضر، وهو الذي يحاسبهم على تصرفاتهم في دنياهم يوم يلقون ربهم [فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ] {الزَّلزلة:8}  يقرب إليه المطيعين، ويبعد عنه العاصين، يريد من الإنسان أن يعمل لدنياه كما يعمل لآخرته، وأن يسعى ويجدّ في الحياة مراعياً أوامره ونواهيه، لا يترهب، ولكن يسعى ويعمل، ولا يغمض عينه عن الدنيا التي يعيش فيها، كالاً يغمض عينه عن الأخرى التي يرى فيها ربه.
وقد كتب الله على نفسه أن يمد بالمعونة من استعانه في شئونه ورعاه في حياته، وأن يخذل من صدَّ عنه، وعصى أمره، بيده الملك وهو علي كل شيء قدير.
هذه العقيدة عقيدة وحدانية الله وعظمته وقدرته على هذا النحو، من شأنها أن ترفع نفس معتنقها، فمن الذي يؤمن بإله هذه أوصافه، ثم يذل لمخلوق أو يتنزل إلى سفساف الأمور؟ ومن الذي يؤمن بإله هذه صفاته ثم لا يتحرى الفضيلة في حياته ويتجنَّب الرذيلة في سلوكه. إن عقيدة الوحدانية  تجعل الإنسان على أحسن صلة بالناس وبالحيوان وبكل الخلق، لأنه وإيَّاهم نتاج صانع واحد ومدبِّر واحد، فاتصاله بهم وبكل موجودات العالم اتصال أخوّة.
 تجعله لا يذلّ للغني ولا للحاكم، ولا لذي السلطان، لأنه لا سلطان إلا لله، والفروق بين الإنسان والإنسان فروق في العرض لا في الجوهر، وفي الأوصاف الزائلة للأشياء لا في الخالدة فيها، والله لا يقوّم الناس بغناهم وجاههم، ولكن بقلوبهم وأعمالهم.
تجعله لا يحتقر الفقير ولا الضعيف ولا المرءوس لأنه أخوه أيضا، وشريكه في الحياة، وشريكه في العبودية لله، فهو عزيز النفس في غير كبْر، أبيّ في غير عتوّ، متواضع في غير ضَعَة، ناظر إلى كل شيء نظرة عطف ورحمة، لا يرضى بالهوان، لأنه ينتسب إلى الله العظيم، ولا يرضى أن يظلم أو يظلم، لأنه ينتمي إلى الله العادل، يعمل ويكد في الحياة ويبتغي أن يكون في أعلي مقام، بفضل عقيدته في الله التي هي أحسن العقائد، ويحب أن تكون أمته خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله. يطيع الله فيما أمر به، وينتهي عمَّا نهي عنه، ويعمل عقله حيث لا أمر ولا نهي، لأن العقل منحة الله، والله أمر باستخدامه والاستهداء به.
إن كان هذا فما الذي جعل المسلمين في أنحاء العالم في الذيل لا في الصدر، وفي المؤخِّرة لا في المقدمة، وكان مقتضى العقل أن تجعلهم هذه العقيدة في طليعة أهل العالم، وحاملي لوائهم وهداتهم، والسابقين إلى الخيرات، والآمرين لا المؤتمرين، والقائدين الأعزة لا المقتادين الأذلة ؟
سؤال صعب. والجواب الصحيح: أن العقيدة الصحيحة تقوَّم بذاتها لا بمعتنقها فقد ينحرف أهلها عنها، أو يحتفظون بشكلها لا بجوهرها، ولو آمن بها أتباعها حقَّ الإيمان لصحَّ أن يكونوا مقياساً كما كان معتنقوها الأولون، ولكن مع الأسف فقد المسلمون روح العقيدة وحرارتها وحياتها، وتمسكوا بظاهرها، والظواهر لا عبرة بها ولا قيمة لها، والحق أن العالم الآن مسلمه ومسيحيَّه ويهوديَّه يعيش من غير عقيدة صحيحة، أو من غير توفيق بين العمل والعقيدة، أو بعبارة أخرى: هم يعملون من غير أن يكون الباعث على عملهم العقيدة، ومن غير أن ينظروا في أعمالهم: هل هي مطابقة لعقيدتهم أو لا؟! فالعالم صنفان: صنف من الأمم يعيش من غير دين، أو بدين يؤمن بإله، ولكن يجعل إلهه طرفة من الطرف من مكان مغلق يستمتع بالنظر إليه من حين إلى حين، ولكنه لا يدخله في حياته ولا في تصرفاته، وصنف يعتنق الدين بصفاته الصحيحة التي ذكرنا، ولكنه يعتنقه نظرياً لا عملياً، فالنظم الاجتماعيّة عند الجميع في العالم والنظم السياسية، قائمة علي نظرات آلية ميكانيكية ليس مبعثها الاعتقاد بالله، واتِّباع أوامره، بدليل أن السياسي المتدين والسياسي الملحد يتفاهمان كل الفهم على التصرف في الأمور، والاجتماعي المتدين والاجتماعي الملحد سواء في النظر إلى الأمور على وفق المصالح من غير نظر إلى روح الدين.
وقد فقد الدين والعقيدة في الله ساحة الحياة العملية، وأصبح المتدينون على اختلاف أديانهم لهم دين ميتافيزيقي يعيشون فيه أحياناً بتفكيرهم أو خيالهم، ولهم حياة عملية منفصلة عن الدين بتاتاً تسيِّرها الأغراض والمادة، ويخدم كل ذلك العقل، ولا يلاحظ فيها أي ملاحظة، خالق الخلق، وأوامره، وإشاراته، ولا ينبض فيها القلب بأي معني من معاني العطف والرحمة والطاعة.
والفرق بين المؤمن والكافر اليوم: أن المؤمن مؤمن نظريا كافر عملياً، والكافر كافر نظرياً وعملياً، ولذلك سيبقي العالم مضطرباً حائراً فاسداً حتى يجد روحه وقلبه، وقد تفوَّق العالم المسيحي على العالم الإسلامي اليوم لأنه كان أعرف بوسائل الأعمال ووسائل الحياة، وأكثر استكشافاً لقوانين التقدم المادي، وقوانين القوة المادية لا لأنه أرقى ديناً وأعظم روحاً، فالعالم كله اليوم مخطئ إذا نحن نظرنا إليه نظرة روحية، وهو شقي بتقدمه المادي وتقدمه العقلي من غير أن تسندهما قوة الروح، وليس ينقص المسلمين إصلاح في عقيدتهم، ولا روحانية في دينهم، ولكن ينقصهم أمران:
الأول: أن يكون الدين روحا لا شكلاً، وقلباً لا جوارح، وحرارة لا مظهراً، ونبضاً لا جموداً، وأن تكون (لا اله إلا الله) و (الحمد لله رب العالمين) معنى لا لفظاً، وصادرة من أعماق القلب لا من طرف اللسان، وأن يكون معنى (لا إله إلا الله) أن ليس عرض من أعراض الدنيا إلهاً فالمال والجاه والسلطان ليست آلهة تعبد، ولا قوة يخضع لها، وإنما الخضوع للحق وحده لأن الله هو الحق، ومعنى أن الله رب العالمين: أن ليس في العالم رب يطاع وتسمع أوامره ونواهيه إلا هو ـ جل شأنه ـ
والثاني: ارتباط عملهم بعقيدتهم، وإيجاد العلاقة الوثيقة بين ما يعملون وما يعتقدون، فليس للعقيدة من قيمة إذا حفظت في خزانة لا تفتح، أو قدِّست وأهملت، أو لفَّت في ثياب من حرير، ثم تركت، فكما أن لا قيمة للمال إلا ما انتفع به ولا لأي عرض من أعراض الحياة إلا إذا استغل للمصلحة، فأهم من ذلك كله العقيدة: إذا لم يبنَ عليها العمل كانت نجما جميلاً في السماء، أو لوحة جميلة في المعرض أو خيالا بديعاً من أخيلة الشعراء، أو صورة فنية من صور الأدباء، إنما العقيدة الصالحة هي العقيدة يتبعها العمل، وتبعث النور في طريق الحياة ، وتهدي إلى الصراط المستقيم.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
المصدر: مجلة رسالة الإسلام: السنة الأولى ، جمادى الآخرة 1368 ، العدد الثاني .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين