أزمة وسائل أم أزمة أهداف

 

الحمد لله رب العالمين والصَّلاة والسَّلام على نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين وبعدُ:

فإنَّه ما اجتمع لفيفٌ من المهتمِّين بالدَّعوة، والغيُّورين على صلاح النَّاس - إلَّا دارت بينهم أحاديث ومجادلاتٌ وشكاياتٌ، حول عجز الدُّعاة عن امتلاك الوسائل الدَّعوية التي يتمكنون من خلالها من نشر أفكارهم، وتعميم مبادئهم ومقولاتهم.

تخلُّف الوسائل الدَّعويَّة

ونحن لا نملُّ من المقارنة بين تخلُّف وسائلنا وتقدُّم وسائل الآخرين من منافسين ومعادين، ولسنا في ذلك - في كثيرٍ من الأحيان - مخطئين أو مبالغين؛ إذ مـمَّا لا شكَّ فيه أنَّ العمل الدَّعوي يعاني نقصًا ظاهرًا في الوسائل التي يمكن أن تُستخدم في تبليغ رسالة الإسلام؛ حيث إنَّك لا تكاد تجد فضائيَّةً إسلاميَّةً ذات تميُّزٍ واضحٍ وجاذبيَّةٍ عاليةٍ، كما أنَّك لا تجد شيئًا من ذلك في مجال البثِّ الإذاعيِّ أو في مجال الإعلام المقروء، فالمجلَّات والجرائد الإسلاميَّة قليلة العدد نسبيًّا، ومستوى معظمها على المستوى المهني يتردَّد بين المتوسط والضَّعيف، ولا يختلف الشَّأن في (خطبة الجمعة)؛ حيثُ إنَّ الخطباء القادرين على تشخيص الحالة الإسلاميَّة ووصف العلاج لها قليلون جدًّا، لكن مع هذا فالمهمُّ دائمًا أن ندرك الأسباب الجوهريَّة لما نرى من ظواهر ووقائع ومشكلاتٍ، ولما نشكو منه من قصورٍ ومنغِّصاتٍ وأزماتٍ.

ومع أنَّ تخلُّف المسلمين وضعف مؤسساتهم المختلفة سينعكس ولا ريب على كلِّ الوسائل التي بين أيديهم في كلِّ شؤون الحياة، إلَّا أن ذلك ليس هو السَّبب الجوهريُّ في تخلُّف الوسائل الدَّعويَّة، وإنَّما يكمن السَّبب الأساسيُّ في أن معظم الدُّعاة لا يملكون الأهداف الواضحة لحركتهم الدَّائبة.

الهدف الجيِّد الواضح والمدروس

الهدف الجيِّد الواضح والمدروس؛ يجعل من نفسه أداةً لتحريض الذين بلوروه على إيجاد الأساليب والوسائل التي تبلِّغهم إيِّاه، وإنَّ كثيرًا من الأهداف الدَّعويَّة لا يفعل ذلك؛ لأنَّه لا تتوفر فيه سمات الهدف الجيِّد، ومن ثمَّ فإنَّه يُدرَك بطريقةٍ مبتذَلةٍ أو بطريقةٍ غامضةٍ، مـمَّا يفقده سمة التَّحريض التي أشرنا إليها.

أزمتنا الأساسيَّة إذن في فقد الهدف الجيِّد، وليست في الافتقار إلى الوسيلة النَّاجحة، وأزمة الهدف الجيِّد هي نتيجة قصورٍ بُنيويٍّ يعانيه العمل الدَّعوي منذ مدَّةٍ ليست بالقصيرة، وذلك القصور يتمثَّل في ضعف فهم نوعيَّة الحركة المطلوبة لهواية النَّاس وإصلاح شؤونهم، ونوعيَّة الخطاب الذي تجب صياغته في كلِّ ذلك، وهذا يترتَّب عليه عدم القدرة على تحديد الأولويَّات التي يجب أن توجَّه إليها معظم الجهود والإمكانات، مـمَّا يدفع النَّاس إلى أن يعلّوا في كلِّ اتجاه، وأن يهتَّموا بكلِّ شيءٍ، ولكن دون تحقيق اختراقات جيِّدةٍ في أيِّ مجالٍ من المجالات.

إنَّنا إذا امتلكنا الهدف الجيِّد؛ فقد نتمكَّن من امتلاك الوسيلة المناسبة، وقد لا نتمكَّن، لكن إذا لم نمتلكه فإنَّنا قطعًا لن نعرف الوسيلة المطلوبة، ولن نصل بالتَّالي إليها.

لو تأملنا في سِيَر المصلحين العظام الذين عدَّلوا في اتجاه التَّاريخ الإسلاميِّ؛ لوجدنا أن أكثرهم - إن لم نقل جميعهم - لم يكونوا يملكون أيَّ إمكانيَّةٍ جيِّدةٍ أو وسيلةٍ فعَّالةٍ لنشر أفكارهم وإصلاح الأوضاع العامَّة عند انطلاقتهم الأولى، لكن نجد أنَّهم كانوا –  على مستوياتٍ مختلفةٍ - يعرفون ماذا يريدون، وكانت الأشياء التي يعملون من أجل الوصول إليها تلوح أمامهم في الأفق، ولا يختلف وضع مُصلحي الأمم الأخرى عن وضع مُصلحينا، فاليهود الذين اجتمعوا في سويسرا في أواخر القرن التَّاسع عشر – كانوا يعانون من عُزلةٍ عالميَّةٍ، ومن شيء من الاضطهاد في بعض البلدان؛ وفي ذلك الوقت توصَّلوا إلى أنَّهم يستهدفون إقامة دولة لهم على أرض فلسطين بعد خمسين سنةٍ، والذي ينظر إلى ضآلة ما بين أيديهم من إمكانات وإلى تحقيق ذلك الهدف في ظلِّ الحكومة العثمانيَّة، يستغرب من ذلك الطُّموح، لكن العمل الشَّاق والمثابر نحو الهدف المحدَّد يوجد طبيعة الكثير من الظُّروف الملائمة، ويوفر الكثير من الإمكانات المطلوبة، وهذا ما حدث.

أزمةٌ لا بدَّ من الخروج منها

بعض الذين يشتغلون بالدَّعوة إلى الله تعالى يغلب عليهم قصر النَّظر، فهم لا ينظرون إلى بعيدٍ، ولا يستطيعون التَّأمل في مآلات الأشياء، وهذا يحرمهم من رؤية ما هو كامنٌ من إمكاناتٍ ومعطياتٍ وعقباتٍ، وهم لهذا مشغولون بما هو ناجزٌ؛ ظانِّين دوامه واستمراره، مع أن التَّقدم العلميَّ والتِّقنيَّ الذي يحدث الآن يجعل ناموس الحياة الأساس في التَّغير والتَّبدُّل، وليس في الثَّبات والاستمرار.

وهناك ممن يشتغل بالدَّعوة مَنْ يغلب عليه الحسُّ العمليِّ، وينظر إلى التَّخطيط وبناء الاستراتيجيَّات وبلورة الأهداف على أنَّه مضيعةٌ للوقت، وليس هناك ما يدعو إليه، وهو في نظره قد يكون مَظهرًا من مظاهر الفرار من العمل وتحمُّل المسؤوليات الكبيرة، وهذه الشريحة واسعةٌ جدًّا، وإلى حدٍّ لا يُصدَّق!

ومن المؤسف أن فيمن يشنِّع على التَّخطيط الدَّعوي مَنْ لا يخطِّط وينظِّر، كما أنَّه في الوقت نفسه لا يعمل ولا ينتج، فهو في الحقيقة يعاني عطالةً شاملةً، ولو سئل عما قدَّمه للأمَّة خلال أسبوعٍ أو شهرٍ مضى؛ لم يجد شيئًا يتحدَّث عنه! وهناك من يعمل من غير رؤيةٍ راشدةٍ ولا أهداف واضحةٍ ولا فقهٍ للأولويَّات، وهؤلاء أسوأ حالًا من أولئك؛ لأنَّ حركتهم قد تفضي إلى حدوث كوارث!

الهدف الجيِّد يحتاج إلى أن نرسم خطةً لتنفيذه، وتلك الخطة يجب أن تشتمل على الإمكانات والأوقات المطلوبة، إضافةً إلى العقبات المتوقعة، وبذلك وحده نجد أنفسنا مضطرين إلى البحث عن الوسيلة الفعَّالة والملائمة.

لست ممن تتملَّكه الرَّغبة في إغراء الآخرين بالبحث عن المستحيل، وسلوك الطُّرق الوعرة لبلوغ الرَّغائب؛ لأنَّ مشكلتنا الأساسيَّة ليست مع المستحيل الذي نتمنَّاه، ولكن مع الممكن الذي ضيَّعناه!

فيا أيُّها الذين خنقهم الواقع بمعطياته الصَّعبة، فحرموا من رؤية الآفاق الممتدة التي تنتظرهم، ويا من أدمنوا الشَّكوى من ضعف الحيلة وانعدام الوسيلة - امنحوا أنفسكم الوقت الكافي للعثور على أفضل تحديدٍ ممكنٍ لما ترغبون في تحقيقه، وسوف تجدون أن ذلك سيجعل وسائلكم أكثر تقدمًا وفاعليَّةً، كما أنَّه سيجعلكم أكثر واقعيَّة، وستكون لكم من وراء هذا وذاك إدارةٌ أجود للإمكانات المحدودة التي بين أيديكم،، والله الهادي.

المصدر مجلة الحميدية العدد الثالث

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين