أركان الإسلام

 

 

أركانُ الإسلامِ لم تُشرعْ لشخصٍ واحدٍ يُقيمها إذا شاءَ ويهملها إذا شاء، بل شُرِعت لأمَّة من الناس تحيا عليها، وتتواصى بنُصرتها، وتستبطنُ الولاء لها، وتغرس في أرجاء الجماعة شاراتِها وشعائرَها، ويتوارث الأخلاف ذلك كله عن الأسلاف. خذ مثلاً الصلاة - وهي في لبابها مناجاة عبد لربه - إنَّ الإسلام لم يشرعها عملاً فردياً، بل نظاماً جَمَاعياً تتراصُّ الصفوف له وتشرف الدولة عليه! نعم؛ فالتعبير المختار في الكتاب والسنة لأداء الصلاة هو إقامة الصلاة. ولم يقل: صلوا، أو ائتوا الصلاة، أو افعلوا الصلاة، بل أقيموا الصلاة! وفي تفسير قوله تعالى: [هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ] {البقرة:3}، قال العلماء: يؤدونها في جماعة! لماذا؟ الجواب: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «سَوُّوا صُفُوفَكُمْ، فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصُّفُوفِ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلاَةِ» [أخرجه البخاري ومسلم].

والواقع أنَّ التجمُّع للصلاة جزءٌ من إقامتِها، والإقامة الكاملة تكون بتنظيمِ الإقبال عليها، وإشعار البيئة كلها بالمبادرة إليها، والمحافظة على أوقاتها، واحترام ركوعها وسجودها وقراءاتها وتسابيحها واستحياء معانيها بعد انقضائها: [فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا] {النساء:103}.

إنَّ الدينَ يَنشد أن يكون الخضوعُ لله ظاهرةً اجتماعية عامَّة لا مَسْلكاً فردياً خاصاً، وإقامة الصلاة من أبرز الأعمال لدعم هذه الغاية ودوام تحقُّقها، وفى سبيل ذلك أُعِدَّت المساجد لاستقبال النساء والأولاد والرجال كي يَنتظموا صُفوفاً وراءَ إمام يتلو القرآنَ، ويُكبِّر الرحمن.

وقبلَ كلِّ صلاة يشقُّ صوتُ المؤذن حجابَ الصمت السائد، أو يعلو صخبَ الحياة المعتادة مُهيباً بالناس أن يَدَعوا ما يُباشرون من أعمال ويستعدوا للمُثول بين يدي الله. إنَّ هذا الأذان العالي المتكرِّر المتصل مع اختلاف الليل والنهار، شعار أي شعار لكل مجتمع مسلم.

وعند اندلاع فتنة الردَّة أيام الخليفة الأول، كانت الوصاة للمُجاهدين أن يتسمَّعوا الأذان في أوقات الصلاة، فإذا حَملت إليهم الريحُ أصداءَ التكبير عرفوا أنهم بإزاء جماعة مُؤمنة، وإذا استمرَّ الصمت، ولم يرتفع النداء بذكر الله، عرفوا أنَّهم أمام قومٍ مُرتدِّين، فاستعدُّوا للقتال.

وإني لأعجب أشدَّ العجب لأقوامٍ يَضيقون اليوم بإذاعة أذانِ الفجر من مُكبِّرات الصوت، لقد جاءني - وأنا مدير للمساجد - من يُعلنون تأذِّيهم لذلك، مُحتجين بإزعاجِ المرضى أو التعكير على الهاجعين، لا أغمضَ الله لهم جفناً. وتردَّدت شكايات هؤلاء على ألسنة صحافيين ما يعرف أحدهم الفَرق بين طَهارةٍ وجَنابة، وصدرت الأوامر أن لا يُذاع من مُكبِّرات الصوت أذان الفجر كي تبقى القاهرة نائمةً لا يُعكِّر صفوها ذكر الله!.

إنَّ هذا بلا ريب أثر الجاهلية التي حملها الغرب إلينا، ولقَّنَ ألوفاً مؤلَّفة من الناس تعاليمها، والإسلام شيء غير هذا، إنَّه يُضفي على أرجاء أمَّته روح الخضوع لله ويجعل من رسالتها الإنسانية الكبرى - إذا مكنت في الأرض - أن تشرب الجماهير عاطفة الحبِّ للمسجد وإلفَ النداء المنبعث منه: [الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ] {الحج:41}.

أي: إنَّ من عمل الحكومة الإسلاميَّة أن تُحافظ على الأمن مثلاً برجال الشرطة، وأن تحافظ على الإيمان بإقامة الصلاة، وأن ترفعَ المستوى الاقتصادي بشتى المشروعات والجهود، وأن ترفع المستوى الروحي مع ذلك، وقبله، وبعده، بمختلف وسائل الإعلام التي تملكها.

ولا يحسبنَّ غَافلٌ أنَّ الإسلام يتوسَّل بالحكم لإكراه مخالفيه على الدخول فيه وإقامة شعائره، كلا، فليس في ديننا إكراه، لقد قال العلماء: إنَّ الزوج المسلم يُرسل زوجته إلى الكنيسة يوم الأحد إذا كانت نصرانيَّة، فلها دينها وله دينه!.

إنَّما المراد أن تقومَ الدولةُ في الإسلام بواجبها في رعاية حقوقِ الله، كما فَصَّلها الكتابُ والسُّنَّة بوصفها ممثِّلة لجمهورِ المسلمين، وحارسة على مثلهم الأعلى.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

(من كتاب: الجانب العاطفي من الإسلام، للعلامة: محمد الغزالي)

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين