أربعُ معجزاتٍ

عن يعلى بن مرةَ قال: لقد رأيت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثًا ما رآها أحدٌ قبلي، ولا يراها أحدٌ بعدي، لقد خرجتُ معه في سفرٍ حتى إذا كنَّا ببعض الطريق، مررنا بامرأةٍ جالسةٍ معها صبيٌّ لها، فقالت: يا رسول الله هذا صبيٌّ أصابه بلاءٌ، وأصابنا منه بلاءٌ، يؤخذ في اليوم لا أدري كمْ مرَّة، قال: «ناولنيه»، فحملته إليه فحمله بينه وبين واسطة الرحل، ثمَّ فغرَ فَاهُ ونفثَ فيه ثلاثًا.

وقال: «بسم الله أنا عبد الله، اخسأ عدو الله»، ثمَّ ناولها إيَّاه فقال: «القِينا في الرجعة في هذا المكان، فأخبرينا ما فعل»، قال: فذهبنا ورجعنا فوجدناها في هذا المكان معها شياهٌ ثلاثٌ، فقال: «ما فعل صبيُّك؟» فقالت: والذي بعثك بالحق ما حسسنا منه شيئًا حتى الساعة، فاجتزرْ هذه الغنم، قال: «انزل فخذ منها واحدة وردَّ البقيَّة».

قال: وخرجت معه ذاتَ يوم إلى الجنان حتى إذا أبرز قال: «انظر ويحك هل ترى شيئًا يواريني؟» قلت: ما أرى شيئًا يواريك إلَّا شجرةً ما أراها تواريك، قال: «فما قربها؟» قلت: شجرةٌ مثلُها أو قريبٌ منها، قال: «اذهب إليهما فقل لهما إنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأمرُكما أنْ تجتمعا بإذن الله»، قال: فاجتمعتا فبرز لحاجته، ثمَّ قال: «اذهب إليهما، فقل: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأمركما أنْ ترجع كل واحدةٍ منكما إلى مكانها» فرجعت.

قال: وكنت معه جالسًا ذاتَ يومٍ، إذ جاء جملٌ يُخبِّبُ حتى ضرب بجِرَانِه بين يديه، فذرفت عيناه، فقال: «ويحك انظر لمن هذا الجمل؟ إنَّ له لشأنًا»، فخرجت ألتمس صاحبَه فوجدتُه لرجلٍ من الأنصار، فدعوته إليه فقال: «ما شأن جملِك هذا؟» قال: لا أدري والله ما شأنه، عملنا عليه ونضحنا عليه حتى عجز عن السقاية، فائْتمرنا البارحة أنْ ننحره ونقسِّم لحمه. قال: «لا تفعل، هَبْهُ لي أو بعنِيه»، قال: بل هو لكَ يا رسول الله فوسمه بميسم الصَّدقة ثمَّ بعث به.

وفي روايةٍ عن يعلى – أيضًا - قال: إنِّي ما أظنُّ أحدًا رأى من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلَّا دونَ ما رأيتُ... فذكر نحوَه، وقال لصاحب البعير: «بعيرُك يشكُوك زعمَ أنَّك سنأْتَه حتَّى كبر، تريد أنْ تنحَرَهُ» قال: صدقت والذي بعثك بالحقِّ، قد أردت ذلك؛ والذي بعثك بالحقِّ لا أفعل.

وفي روايةٍ: ثمَّ سرنا ونزلنا منزلًا فنام النَّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم، فجاءت شجرةٌ تشقُّ الأرضَ حتَّى غشيته، ثمَّ رجعتْ إلى مكانها، فلمَّا استيقظ ذكرتُ له، فقال: «هي شجرةٌ استأذنت ربها عزَّ وجلَّ أنْ تُسلِّم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأذن لها».

رواه الإمام أحمد بإسنادين أحدهما صحيحٌ، ورواه الطبراني بنحوه، وفي روايته بعض الزِّيادة سنذكرها أثناء الكلام على الحديث.

الشرح: يَعلَى - بفتح الياء واللَّام - ابن مرة بن وهب، ويقال: يعلى بن سيَّابة - وهي أمه- الثقفي.

يُكنَّى أبا المَرَازِم - بفتح الميم والراء وكسر الزَّاي - صحابيٌّ فاضلٌ، شهد مع النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم الحُديبيَّة وخيبر والفتح وحنينًا والطائف، روى في فضل الحسين ابن علي رضي الله عنه حديث: «حُسينٌ مِنِّي وأنا من حُسين، أحبَّ الله من أحبَّ حُسينًا، حُسين سِبطٌ من الأسْباط». وهو حديثٌ حسنٌ رواه الترمذي وغيره.

«فَغَر فاه»: بفتح الفاء والغين، أي: فتح فمه.

«نفث»: إذا رمى من فمه بريق يسير خفيف.

«اجتزرْ هذه الغنم»: أي اذبحها، ومنه قيل للمشتغل بذبح الماشية: جزَّار؛ لأنَّه يجزُرها، أي: يذبحها.

ويقال له: قصاب – أيضًا -؛ لأنَّه يستخرج قصب الذبيحة، أي: أمعاءها.

«الجِنان»: بكسر الجيم جمع جَنة بفتحها، وهي الحديقة ذات الشَّجر أو ذات النَّخل.

«أبرز»: أي خرج إلى البراز – وهو الفضاء الواسع - لقضاء الحاجة، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد البراز انطلق حتى لا يراه أحدٌ، كما جاء في "سنن" أبي داود وابن ماجه عن جابر بن عبد الله.

 «خَبَّ الجمل يخُب»: بضم الخاء في المضارع، إذا عدا بخطوٍ فسيحٍ.

«جِران الجمل»: بكسر الجيم مقدَّم عنقِه، فإذا برك ومدَّ عنقَه قيل: ألقى بجِرانه، أو ألقى جرانَه بالأرض.

 «وَسَمَهُ بميسم الصدقة»: أي علَّمه بالكيِّ؛ لأنَّ إبل الزَّكاة كانت تعلَّم بالكَي لئلَّا تختلط بغيرها، والميسمُ: الحديدةُ التي يكوى بها.

المعنى: اشتمل هذا الحديث على آياتٍ بيناتٍ، ومعجزاتٍ باهراتٍ، تزيد المؤمنين إيمانًا، وتبعثٌ في قلوب الشَّاكين الحائرين هدىً وإيقانًا.

إحداها: شفاءُ الصَّبي مما ألمَّ به من مسِّ الجن وصَرَعِه، بكلامه صلى الله عليه وآله وسلم ونفثه، وفي قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «أنا عبد الله»، إشارة لطيفة إلى أنَّ العبوديَّة لله أشرفُ أوصافِ الإنسان، وبها يستحق العبد من مولاه المِنَّة والإحسان.

وانظر كيف شرَّف الله تعالى نبيَّه في أشرف المواطن بالعبوديَّة له، حيث قال جلَّ شأنه: ﴿سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِيٓ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ لَيۡلٗا مِّنَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ﴾ الآية [الإسراء: ١]. وقال سبحانه وتعالى: ﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى﴾ [النجم: 10].

 فمن كان عبدًا لله محضًا سخَّر الله له الطبيعة، وخرق لأجله نواميسَها، وسهَّل عليه الصِّعاب، وفتح له من الخيرات كلَّ بابٍ، وجعله من خاصَّة الأحباب.

ثانيتها: انضمام الشجرتَين بأمره فسترتاه حتى قضى حاجتَه، ثمَّ افتراقُهما بأمره أيضًا.

وحادثةُ انضمام الشَّجر وافتراقه بأمره عليه الصَّلاة والسَّلام، تكرَّرت في مواطن، ورواها جماعةٌ من الصَّحابة، منهم: عبد الله بن مسعود، وجابر بن عبدالله، ويعلى بن أُميَّة.

ثالثتها: التجاء الجمل إليه صلى الله عليه وآله وسلم وشكواه ممَّا لقي من أصحابه.

وحادثة شكوى الجمل تكرَّرت في مواطنَ – أيضًا - وذكرنا بعضها في غير هذه المواضع.

رابعتها: مجيءُ الشجرة إليه صلى الله عليه وآله وسلم شوقًا لزيارته، وتشرفًا بالمثول بين يديه، وتكرَّرت حادثة مجيء الأشجار وسجودها بين يديه صلى الله عليه وآله وسلم، وفيها يقول البوصيري رحمه الله تعالى:

جاءت لدعوته الأشجار ساجدةً = تسعى إليه على ساقٍ بلا قدمٍ

وفي "مسند أبي يعلى" بإسنادٍ صحيحٍ عن ابنِ عبَّاسٍ قال: جاء رجلٌ من بني عامر إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم كان يداوي ويعالج، فقال له: يا محمَّد إنَّك تقول أشياءَ، فهل لك أن أداويك؟ قال: فدعاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثمَّ قال له: «هل لك أنْ أداويك؟» قال: وعنده نخلٌ وشجرٌ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عِذْقًا منها فأقبل إليه وهو يسجد ويرفع ويسجد ويرفع حتى انتهى إليه، فقام بين يديه، ثمَّ قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ارجعْ إلى مكانِك» فرجع إلى مكانه، فقال: «والله لا أكذبك بشيءٍ تقوله بعدها أبدًا».

وقول يعلى: «لقد رأيت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثًا ما رآها أحدٌ قبلي، ولا يراها أحدٌ بعدي»، هذا بحسب ظنَّه كما قال في الرِّواية الثَّانية: «إنِّي ما أظنُّ أحدًا رأى من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلَّا دونَ ما رأيت»؛ لأنَّه رأى خوارقَ عظيمة، وحوادثَ جسيمة لم يشاهدْ ما هو أعظم منها، كانشقاقِ القمرِ، وحنين الجذعِ، ونبع الماء من الأصابع الشَّريفة، لا جَرَمَ أنْ استعظم ما رأى وحق له ذلك.

ما يستفاد من الحديث

يستفاد من الحديث أمور:

الأول: إثباتُ مسِّ الشَّيطان وإذايتِه للإنسان، وهذا ثابتٌ بالقرآن في قوله سبحانه وتعالى: ﴿ٱلَّذِينَ يَأۡكُلُونَ ٱلرِّبَوٰاْ لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ مِنَ ٱلۡمَسِّۚ﴾ [البقرة: ٢٧٥]، والأطباء يُنكرون المسَّ ولا يعترفون به؛ لجهلهم وانحصارهم في دائرة المادَّة الضيِّقة، وقد عرضت لكثير منهم حوادث مسٍّ وصرعٍ عجز الطب عن تشخيصها، بله معالجتها.

الثاني: جواز التداوي وطلب معالجة المريض، وهذا أمرٌ ثابتٌ معلومٌ لا ينكره إلَّا جاهلٌ، فقد كان النَّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم يتداوى ويصف الدواء لغيره، وقال: «تداوَوا فإنَّ الله لم يضع داءً إلَّا وضع له دواء، غير داءٍ واحد الهِرَم». وهو حديثٌ صحيحٌ.

وكانت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها عالمةً بالطب، لكثرة مزاولة الأَدوية التي كان النَّبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم يستعملُها في أمراضه، وقد ألَّف الحفَّاظ كُتبًا في الطبِّ النَّبوي كابن السنِّي، وأبي نُعَيم، والذَّهبي، وابن القيم، والسَّخاوي.

والتداوي لا ينافي التوكل متى اعتقد المريض أنَّه سبب عادي، وأنَّ الشِّفاء بيد الله سبحانه وتعالى.

نعمْ، من قوي يقينُه وقدر على التوكُّل المطلق بترك التداوي كان من جملة السَّبعين ألفًا الذين يدخلون الجنةَ بغير حساب، كما في الحديث الصَّحيح، وهذا مقامٌ خاصٌّ لا يناله كل أحدٍ، ولا ينبغي أن يُتَّخذ مبدءًا عامًا يُطبَّق على جميع النَّاس.

الثالث: إثبات الطب الرُّوحي، فإنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم عالج الصَّبي بالنفث والكلام، وكان يرقي نفسه وسبطيه الحسن والحسين رضي الله عنه بمعوذاتٍ من القرآن والدَّعوات.

وثبت في الصَّحيح أنَّ أبا سعيد الخدري رقى رجلًا لدغته عقربٌ بالفاتحةِ، فبريءَ في الحال، وكان لبعض الصحابة رُقىً يرقون بها عرضوها على النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم فأقرَّها.

وقال: «حصِّنوا أموالكم بالزَّكاة، وداووا مرضاكم بالصَّدقة، وأعدِّوا للبلاء والدعاء». رواه الطبراني وغيره، وله طرقٌ بيَّنها شقيقُنا الحافظ أبو الفيض السَّيد أحمد في رسالة "الزواجر المقلقة لمن أنكر التداوي بالصدقة".

ومن محاسن الدِّين الإسلامي: أنَّه جمع بين الماديَّات والروحيَّات، ولم يهمل واحدة منها، وإنْ غلَّب جانب الروحيَّات؛ لأنَّها أشملُ وأقوى وأهمُّ وأبقى، فأطباء العقاقير والحقن الذين ينكرون الطب الروحي جاهلون بمنافعه، غافلون عمَّا فيه من قوةٍ مستمدةٍ من قوة الله، والالتجاء إلى جانبه الأَقدس.

الرابع: جواز أخذ الأجرة على العلاج، فإنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم أخذ الشَّاة من المرأة نظير علاج ابنها.

وثبت في حديث أبي سعيد أنَّه وأصحابه أخذوا من اللَّديغ غنمًا في نظير الرقية بالفاتحة، وعرضوا الأمر على النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم فأقرَّهم، وقال: «اضربوا لي معكم بسهمٍ»؛ لأنَّ الفاتحة التي رقوا بها اللَّديغ عنه تلقَّوْها، ومن طريقه عرفُوها.

الخامس: استحباب الرِّفق بأهل المريض، وعدم إرهاقهم بأخذ أجرٍ كبيرٍ، ربما لا تحتمله حالتهم المالية؛ لأنَّ المرأة قدمت للنَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثَ شياهٍ فأخذ منها شاةً وترك لها اثنتين رفقًا بها وإحسانًا إليها، ولأنَّ العلاجَ ينبغي أنْ تغلب فيه الناحية الإنسانية على الناحية المادية، وقد كان عبد الملك بن أبجر الحافظ الثقة طبيبًا يعالج النَّاس بدون أجرٍ.

قال العجلي: كانت به قرحة لو كانت بالبعير ما أطاقها، فكانوا إذا سألوه عنها؟ قال: ما أرضاني عن الله عزَّ وجلَّ!

فأين هذا من أطباء اليوم الذين يشترطون في العلاج مبلغًا معينًا، لا ينتقل أحدهم من عيادته حتى يأخذه، ولو كان المريض في سياق الموت!؟

السادس: أنَّ المعجزة تحصل بطلب النَّبيِّ واختياره؛ لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم أمر يَعلَى أنْ يأمرَ الشَّجرتين بالاجتماع فاجتمعتا، ثم بالافتراق فافترقتا، وقد تحصل بغير طلبه ولا باختياره، كما حصل في الشَّجرة التي جاءت تُسلِّم عليه وهو نائمٌ.

وأما قوله سبحانه وتعالى: ﴿قُلۡ إِنَّمَا ٱلۡأٓيَٰتُ عِندَ ٱللَّهِۖ﴾ [الأنعام: ١٠٩]، فإنَّه نزل للردِّ على المشركين الذين طلبوا الآيات على سبيل العناد، فلم يشأ الله أنْ يسترسل النَّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم معهم فيما يطلبون؛ لأنَّهم لا يقصدون الإيمان، فقال: ﴿قُلۡ﴾ لهم﴿إِنَّمَا ٱلۡأٓيَٰتُ﴾ التي يطلبونها ﴿عِندَ ٱللَّهِۖ﴾ يبعثها الله حيث شاء وكيف شاء، لا على حسب رغبتكم، وإنما أنا نذيرٌ.

ولهذا عدَّد الله سبحانه وتعالى الآياتِ التي طلبوها، مخبرًا بأنَّه لو فعلها ما آمنوا، فقال عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ﴾ [الأنعام: 111] ولو أرسلَ الآيات كما اقترحوا ثمَّ لم يؤمنوا، لكان لا بُدَّ من إهلاكهم كما أهلك من قبلهم، حين كذَّبوا بعد الآيات: ﴿سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾ [الفتح: 23]، لكن سبق علم الله بإمهالهم فلهذا لم يرسل الآيات التي طلبوها، كما قال سبحانه وتعالى:﴿وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرۡسِلَ بِٱلۡأٓيَٰتِ﴾التي طلبها مشركو مكَّةَ، ﴿إِلَّآ أَن كَذَّبَ بِهَا ٱلۡأَوَّلُونَۚ﴾ [الإسراء: ٥٩]، فأهلكناهم ولو كذَّب بها هؤلاء لأهلكناهم – أيضًا -، لكن سبق علمنا بإمهالهم حتى يتمَّ أمرك، وهم كارهون، ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ [الصف: 9]، فتبيَّن من هذا أنَّ الذين يستدلون بالآيتين المذكورتين على عدمِ وقوع ِمعجزةٍ كونيةٍ من النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم، جهلةٌ مُلْحِدون.

السابع: أنَّ الجمادات والحيوانات تعرف أنَّه رسول الله؛ لأنَّ الشَّجرتين ائتمرتا بأمره، والشَّجرة الثالثة استأذنت ربَّها في زيارته، والجمل جاء يشكو إليه، وفي رواية الطبراني زيادة قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «ما من شيءٍ إلَّا يعلم أنِّي رسول الله، إلَّا كفرَة أو فَسَقة الجن والإنس»، وهذا يوافق قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِن مِّن شَيۡءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمۡدِهِۦ وَلَٰكِن لَّا تَفۡقَهُونَ تَسۡبِيحَهُمۡۚ﴾ [الإسراء: ٤٤]، فمن يتأتى منه التسبيح يتأتى منه العلم بالرسالة، وصرف الكلام عن ظاهره لا داعي إليه، لا سيما والعقل لا يحيل ذلك، وقدرة الله واسعةٌ.

الثامن: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم كان يعرف لغة الحيوانات؛ لأنَّه فهم من الجمل شكواه، ولا عجب في ذلك، فإنَّ الله تعالى أخبر في القرآن عن سليمان عليه السلام أنَّه قال: ﴿عُلِّمۡنَا مَنطِقَ ٱلطَّيۡرِ﴾ [النمل: ١٦]، وأنَّه فهم كلامَ النَّملة، ولا شكَّ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم أفضل من سليمان.

وقد نصَّ العلماءُ على أنَّه ما من نبيٍّ أوتي معجزة إلَّا أوتي نبيُّنا مثلها أو أكبر منها، وقد زاد نبيُّنا على سليمان عليهما الصَّلاة السَّلام بمعرفة لغة الجماد والنبات، فقد ثبت في الصَّحيح أنَّ حجرًا كان يُسلِّم على النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة في مكَّة، وثبت في الصَّحيح أنَّ شجرةً أعلمت النَّبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم بحضور الجن ليلةَ قرأ عليهم القرآنَ، وثبت في الصَّحيح - أيضًا - أنَّ الصَّحابة كانوا يأكلون مع النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم وهم يسمعون تسبيح الطَّعام، والله أعلم.

من كتابه" سمير الصالحين"

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين