أدب المسلم في اليوم والليلة (2)

واعلم أن للدِّين شطرين، أحدهما: ترك المناهي، والآخر: فعل الطاعات.

وترك المناهي هو الأشد؛ فإن الطاعات يقدر عليها كل واحد، وترك الشهوات لا يقدر عليه إلا الصّدّيقون؛ فلذلك قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ ».

واعلم أنك إنما تعصي الله بجوارحك، وهي نعمةٌ من الله عليك، وأمانةٌ لديك، فاستعانتك بنعمة الله على معصيته غاية الكفران، وخيانتك في أمانةٍ استودعها الله غاية الطغيان؛ فأعضاؤك رعاياك، فانظر كيف ترعاها.

واعلم أن جميع أعضائك ستشهد عليك في عرصات القيامة بلسان طلق، تفضحك به على رؤوس الخلائق، قال الله تعالى:﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النور: 24] ، فاحفظ جميع بدنك عن المعاصي، وخصوصًا أعضاءك السبعة؛ وهي: العين، والأذن، واللسان، والبطن، والفرج، واليد، والرجل.

فأمَّا العين: فإنما خلقت لك لتهتدي بها في الظلمات، وتستعين بها في الحاجات، وتنظر بها إلى عجائب ملكوت الأرض والسماوات، وتعتبر بما فيهما من الآيات، فاحفظها عن النظر إلى امرأةٍ غير محرمٍ لك، أو أن تنظر بها إلى العورات، أو إلى الصور والأفلام الماجنة، والمقاطع الفاضحة، أو أن تنظر إلى مسلمٍ بعين الاحتقار، أو أن تطّلع بها على عيب مسلمٍ، أو أن تنظر في بيت الغير بغير إذنه.

وأما الأذن: فاحفظها عن أن تصغي بها إلى البدعة، أو الغيبة، أو النميمة، أو الفحش، أو الخوض في الباطل، أو ذكر مساوئ الناس؛ أو الاستماع إلى حديث قومٍ أخفوه عنك، أو الاستماع إلى الأغاني، وآلات اللهو، كالرَّبابة، والعود، والمزمار، ونحوها، فإنما خلقت لك لتسمع بها كلام الله تعالى، وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وحكمة أوليائه، وما فيه نفعك، وفلاحك.

وأمَّا اللسان: فإنما خلق لتكثر به ذِكر الله تعالى، وتلاوة كتابه، وترشد به خلق الله تعالى إلى طريقه، وتظهر به ما في ضميرك من حاجات دِينك، ودنياك.

فإذا استعملته في غير ما خلق له، فقد كفرت نعمة الله تعالى فيه، وهو أغلب أعضائك عليك، وعلى سائر الخلق، ولا يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم، فاستظهر عليه بغاية قوّتك حتى لا يكبّك في قعر جهنم، واحفظ لسانك عن الكذب في الجد، والهزل، ولا تعوّد لسانك الكذب هزلًا، فيتداعى إلى الجد.

وإذا أردتَ أن تعرف قبحَ الكذب من نفسك، فانظر إلى كذب غيرك، وعلى نفرة نفسك عنه، واستحقارك لصاحبه، واستقباحك له، وكذلك فافعل في جميع عيوب نفسك؛ فإنك لا ترى قبح عيوبك من نفسك، بل من غيرك، فما استقبحته من غيرك يستقبحه غيرك منك لا محالة؛ فلا ترضَ لنفسك ذلك.

وإياك أن تعِد بشيءٍ ولا تفي به، بل ينبغي أن يكون إحسانك إلى الناس فعلًا بلا قول، فإن اضطررت إلى الوعد، فإياك أن تخلف إلا لعجزٍ، أو ضرورةٍ؛ فإن ذلك من أمارات النفاق، وخبائث الأخلاق.

واحفظ لسانك عن الغيبة، وهي أن تذكر إنسانًا بما يكرهه، ويكفيك زاجرًا عن الغيبة قوله تعالى: ﴿وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ﴾ [الحجرات: 12] ، ويمنعك عن الغيبة أمرٌ لو تفكرت فيه! وهو أن تنظر في نفسك، هل فيك عيبٌ ظاهرٌ أو باطنٌ؟ وهل أنت مقارفٌ معصيةً سرًّا أو جهرًا؟ فإذا عرفت ذلك من نفسك، فاعلم أن عجزه عن التنزه عما نسبته إليه، كعجزك، وعذره كعذرك، وكما تكره أن تفتَضح، وتُذكَر عيوبك، فهو أيضًا يكرهه؛ فإن سترته ستر الله عليك عيوبك، وإن فضحته سلّط الله عليك ألسنةً حدادًا، يمزِّقون عِرضك في الدينا، ثم يفضحك الله في الآخرة على رؤوس الخلائق.

وإن نظرت إلى ظاهرك، وباطنك، فلم تطّلع فيهما على عيبٍ، ونقصٍ في دينٍ، ولا دنيا، فاعلم أن جهلك بعيوب نفسك أقبح أنواع الحماقة، ولو أراد الله بك خيرًا لبصّرك بعيوب نفسك، فرؤيتك نفسك بعين الرضا غاية غباوتك، وجهلك.

واحذر المِراء، والجدال، وتزكية النفس، فقد قال الله تعالى: ﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾ [النجم: 32] ، فإياك أن تتعوّد ذلك، واعلم أن ذلك ينقص من قدرك عند الناس، ويوجب مقتك عند الله.

وإذا أردت أن تعرف أن ثناءك على نفسك لا يزيد في قدرك عند غيرك، فانظر إلى أقرانك إذا أثنوا على أنفسهم بالفضل، والجاه، والمال، كيف يستنكره قلبك عليهم، ويستثقله طبعك، وكيف تذمهم عليه إذا فارقتهم؛ فاعلم أنهم أيضًا في حال تزكيتك لنفسك يذمونك في قلوبهم ناجزًا، وبألسنتهم إذا فارقتهم.

وإياك أن تلعن شيئًا مما خلق الله تعالى من حيوانٍ، أو طعامٍ، أو إنسانٍ بعَينه.

ولا تقطع بشهادتك على أحدٍ من أهل القبلة بشركٍ، أو كفرٍ، أو نفاقٍ؛ فإن المطّلع على السرائر هو الله تعالى، فلا تدخل بين العباد وبين الله تعالى، واعلم أنك يوم القيامة لا يقال لك: لِمَ لَمْ تلعن فلانًا، ولِمَ سكتّ عنه؟ بل لو لم تعلن إبليس طول عمرك، ولم تشغل لسانك بذكره لم تُسأل عنه، ولم تطالب به يوم القيامة، وإذا لعنت أحدًا من خلق الله تعالى طولبت به.

ولا تذمَّنّ شيئًا مما خلق الله تعالى.

واحفظ لسانك عن الدعاء على أحدٍ من خلق الله تعالى، إلا إذا كنت مظلومًا فادعُ بقدر ظلامتك، وإن عفوت فهو أفضل.

واحفظ لسانك عن المزاح، والسخرية، والاستهزاء بالناس في الجد، والهزل؛ فإنه يُسقِط المهابة، ويُؤذِي القلوب، ويَغرِس الحقد في القلوب، وهو مبدأ الغضب، والتصارم.

واحذر اليمين الكاذبة، وسب الصحابة، أو أحدهم رضي الله عنهم وشهادة الزور، والشتم، وكل كلامٍ مؤذٍ للمسلمين، والفتوى بغير علم، وكل كلام يقدح في الدِّين، أو في أحدٍ من الأنبياء، أو العلماء، أو القرآن، أو شيءٍ من شعائر الله، واحذر السكوت عن الأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر، واحذر ترك رد السَّلام.

ولا يعينك على لسانك إلا ملازمة الصمت بقدر الضرورة؛ فقد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يشير إلى لسانه، ويقول: « هذا الذي أوردني الموارد »، فاحترز منه جهدك؛ فإنه أقوى أسباب هلاكك في الدنيا، والآخرة.

وأمَّا البطن: فاحفظه من تناول الحرام، والشبهة، واحرص على طلب الحلال، فإذا وجدته فاحرص على أن تقتصر منه على ما دون الشبع، فإن الشبع يقسِّي القلب، ويفسد الذهن، ويبطل الحفظ، ويثقل الأعضاء عن العبادة، والعلم، ويقوّي الشهوات.

واحذر أكل الربا، والرشوة، والغصب، والسرقة، وكل مأخوذٍ بمعاملةٍ حرّمها الشرع، واحذر شرب الخمر، وأكلَ كلِّ مسكرٍ، وكل نجسٍ ومستقذرٍ، وأكل مال اليتيم.

واعلم أنَّ معرفةَ الحلال وطلبه فريضة على كل مسلم، كالصلوات الخمس.

وأمَّا الفرج: فاحفظه عن كل ما حرم الله تعالى، وكن كما قال الله: ﴿وَٱلَّذِينَ هُمۡ لِفُرُوجِهِمۡ حَٰفِظُونَ٥ إِلَّا عَلَىٰٓ أَزۡوَٰجِهِمۡ أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُهُمۡ فَإِنَّهُمۡ غَيۡرُ مَلُومِينَ٦﴾ [المؤمنون: ٥ ـ ٦]، فاحفظه عن الزنا، واللواط، والسحاق، والاستمناء، والتكشُّفُ عند من يحرم نظره إليه، أو في الخلوة لغير غرضٍ.

ولا تصل إلى حفظ الفرج إلا بحفظ العين عن النظر، وحفظ القلب عن التفكر، وحفظ البطن عن الشبهة، وعن الشبع؛ فإن هذه محركات للشهوة، ومغارسها.

وأمَّا اليدان: فاحفظهما عن أن تضرب بهما مسلمًا، أو تتناول بهما مالًا حرامًا، أو تؤذي بهما أحدًا من الخلق، أو تخون بهما في أمانةٍ، أو وديعةٍ، أو تطفّف الكيل، والوزن، أو تسرق، أو تقتل، أو تضرب أحدًا بغير حق، أو تأخذ الرشوة، أو تعطيها، واحفظهما من إحراق الحيوان، والمثلة به، واللعب بالنرد، وكل ما فيه قمار، واللعب بآلات اللهو المحرمة، كالطنبور، والربابة، والمزمار، والأوتار، ولمس الأجنبية، واجتنب رسم كل ذي روحٍ، واحذر منع الزكاة، ومنع الأجير أجرته، واحفظ يديك عن أن تكتب بهما ما لا يجوز النطق به، فإن القلم أحد اللسانين، فاحفظ القلم عما يجب حفظ اللسان عنه.

وأما الرِّجْلان: فاحفظهما عن أن تمشي بهما إلى حرام، كالمشي في سعايةٍ بمسلمٍ؛ للإضرار به، واحذر التبختر في المشي، والمرور بين يدي المصلي، ومدّ الرجل إلى المصحف، وكل مشيٍ إلى محرمٍ، وتخلفٍ عن واجبٍ.

واحذر عقوق الوالدين، وقطيعة الرحم، وإيذاء الجار، ولو كافرًا، وخضْب الشعر بالسواد، وتشبه الرجال بما هو خاصٌّ بالنساء، وعكسه.

واحذر إسبال الثوب، ومحاكاة المؤمن استهزاءً به، والتجسس على عورات الناس، والوشم، والنمص، والوصل، وهجر المسلم فوق ثلاثٍ، إلا لعذرٍ شرعيٍّ.

واجتنب لبس الذهب، والفضة، والحرير إلا خاتم الفضة، واحذر استعمال أواني الذهب والفضة، واتخاذها.

واحذر الخلوة بالأجنبية، والإعانة على المعصية، واحذر ترك الفرائض، أو تأخيرها بغير عذرٍ، واتخاذ الحيوان غَرَضًا، واحذر التهاون بالحج بعد الاستطاعة، والاستدانة إن كنت لا ترجو وفاءً لدَينك، وبذل المال في معصيةٍ، والاستهانة بالمصحف، وبكل علمٍ شرعيٍّ، واستعمال اللُّقطة قبل التعريف، والجلوس مع مشاهدة المنكر، والسحر، والذهاب إلى السحرة، والعرّافين، والمنجمين، والخروج عن طاعة الإمام، وإيواء الظالم، ومنعه ممن يريد أخذ الحق منه، وترويع المسلمين، وعدم الوفاء بالنذر.

واعلم أن حركاتك، وسكناتك بأعضائك نعمةٌ من نعم الله تعالى عليك؛ فلا تحرِّك شيئًا منها في معصية الله تعالى، واستعملها في طاعة الله تعالى.

واعلم أنك إن قصّرت فعليك وَباله، وإن شمّرت فإليك تعود ثمرته، والله غنيٌّ عنك، وعن عملك، وإنما كل نفسٍ بما كسبت رهينةٌ، وإياك أن تقول: إن الله كريمٌ رحيمٌ يغفر الذنوب للعصاة؛ فإن هذه كلمة حقٍّ أريد بها باطلٌ، واعلم أن قولك هذا أيضًا هو قول من يريد أن يكون فقيهًا في علوم الدِّين من غير أن يدرس علمًا، واشَتَغل بالبطالة، وقال: إن الله كريٌم رحيمٌ قادرٌ على أن يفيض على قلبي من العلوم ما أفاضه على قلوب أنبيائه، وأوليائه من غير جهدٍ، وتكرارٍ، وتعلّمٍ، وهو كقول من يريد مالًا من غير أن يعمل، وقال: إن الله كريمٌ رحيمٌ، وله خزائن السماوات والأرض، وهو قادرٌ على أن يطلعني على كنزٍ من الكنوز أستغني به عن الكسب، فقد فعل ذلك لبعض عباده، فأنت إذا سمعت كلام هذين الرجلين استحمقتهما، وسخرت منهما، وإن كان ما وصفاه من كرم الله تعالى وقدرته صدقًا وحقًّا، فكذلك يضحك عليك أرباب البصائر في الدِّين إذا طلبت المغفرة بغير سعيٍ لها، والله وتعالى يقول: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ [النجم: 39] ، ويقول: ﴿إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [التحريم: 7] ، ويقول: ﴿إِنَّ ٱلۡأَبۡرَارَ لَفِي نَعِيمٖ١٣ وَإِنَّ ٱلۡفُجَّارَ لَفِي جَحِيم﴾ [الانفطار: ١٣ ـ ١٤].

فإذا لم تكن تترك السعي في طلب العلم، والمال اعتمادًا على كرمه، فكذلك لا تترك التزوّد للآخرة، ولا تفتر؛ فإن رب الدنيا، والآخرة واحدٌ، وهو فيهما كريمٌ رحيمٌ، وليس يزيد له كرمٌ بطاعتك، وإنما كرمه (سبحانه وتعالى) في أن ييسر لك طريق الوصول الى الملك المقيم، والنعيم الدائم المخلد، بالصبر على ترك الشهوات أيامًا قلائل، وهذا نهاية الكرم.

فلا تحدِّث نفسك بتهويسات البطالين، واقتدِ بأولى العزم والنُّهى من الأنبياء، والصالحين، ولا تطمع في أن تحصد ما لم تزرع، وليت من صام، وصلى، وجاهد، واتقى غُفِر له.

فهذه جملٌ مما ينبغي أن تحفظ عنه جوارحك الظاهرة، وأعمال هذه الجوارح إنما تترشّح من صفات القلب؛ فإن أردت حفظ الجوارح فعليك بتطهير القلب؛ فهو تقوى الباطن، والقلب هو المضغة التي إذا صلحت صلح بها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد بها سائر الجسد، فاشتغل بإصلاحه لتصلح به جوارحك، وصلاحه يكون بملازمة المراقبة.

واعلم أنَّ الصفات المذمومة في القلب كثيرةٌ، ومنها: الحسد، والرّياء، والعجب:

فالحسد هو حب زوال النعمة عن الآخرين، وإن لم يحصل له بذلك شيءٌ من تلك النعمة؛ وهذا منتهى الخبث؛ والحسود هو المعذَّب الذي لا يُرحَم، ولا يزال في عذابٍ دائمٍ في الدنيا إلى موته، ولا يصل العبد إلى حقيقة الإيمان ما لم يحب لسائر الناس ما يحب لنفسه.

والرياء هو الشرك الخفي، وهو طلب المنزلة في قلوب الخلق؛ ليُنال بها الجاهُ والحشمةُ.

وأمَّا العُجب، والكِبْر، والفخر فهو الداء العُضال، وهو نظر العبد إلى نفسه بعين العِزّ، والاستعظام، وإلى غيره بعين الاحتقار، والذل، ونتيجته على اللسان أن يقول: أنا، وأنا، كما قال إبليس: ﴿قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ [الأعراف: 12] ، وثمرته في المجالس الترفّع، والتقدّم، وطلب التصدّر فيها، وفي المحاورة الاستنكاف من أن يُرَد كلامه عليه.

وينبغي ألا تنظر إلى أحد إلا وترى أنه خير منك، وأن الفضل له على نفسك:

فإن رأيت صغيرًا قلت: هذا لم يعصِ الله، وأنا عصيته، فلا شك أنه خيرٌ مني.

وإن رأيت كبيرًا قلت: هذا قد عبد الله قبلي، فلا شك أنه خيرٌ مني.

وإن كان عالمًا قلت: هذا قد أُعطي ما لم أعطَ، وبلغ ما لم أبلغ، وعلم ما جهلت؛ فكيف أكون مثله؟!

وإن كان جاهلًا قلت: هذا قد عصى الله بجهلٍ، وأنا عصيته بعلمٍ؛ فحجة الله عليّ آكد، وما أدري بم يختم لي، وبم يختم له؟

واعلم أنَّ صاحبك الذي لا يفارقك في حضرك، وسفرك، ونومك، ويقظتك، بل في حياتك، وموتك، هو ربك، وسيدك، ومولاك، وخالقك، ومهما ذكرته فهو جليسك؛ ومهما انكسر قلبك حزنًا على تقصيرك في حق دِينك، فهو صاحبك، وملازمك، فلو عرفته حق معرفته لاتخذته صاحبًا، وتركت الناس جانبًا، فإن لم تقدر على ذلك في جميع أوقاتك، فإياك أن تخلي ليلك، ونهارك عن وقتٍ تخلو فيه بمولاك، وتتلذذ معه بمناجاتك له ـ وفقك الله لما فيه صلاحك، ورشدك ـ .

واحذر من جليس السوء، والزم الأخيار تفلح، وليكن جلساؤك الكتب، والنظر في سير السلف، ولا تشتغل بعلمٍ حتى تُحكِم ما قبله، وتلمَّح سير الكاملين في العلم، والعمل، ولا تقنع بالدُّون، فقد قال الشاعر:

وَلَمْ أَرَ فِي عُيوبِ النَّاسِ شَيْئًا=كَنَقْصِ الْقَادِرِينَ عَلَى التَّمَامِ

واجتهد في صيانة عِرْضك من التعرض لطلب الدنيا، والذل لأهلها، واقنع تُعَزّ، فقد قيل: من قنع بالخبز، والبقل لم يستعبده أحدٌ.

ومرّ أعرابي بالبصرة فقال: من سيد هذه البلدة؟ فقيل له: الحسن البصري، قال: وبم سادهم؟ قالوا: لأنه استغنى عن دنياهم، وافتقروا إلى علمه، ﴿وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مَخۡرَجٗا٢ وَيَرۡزُقۡهُ مِنۡ حَيۡثُ لَا يَحۡتَسِبُۚ﴾ [الطلاق: 2 ـ 3].

ومتى صحت التقوى رأيت كل خير، والمتّقي لا يُرائي الخلق، ولا يتعرض لما يؤذي دِينه، ومن حفظ حدود الله حفظه الله، كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لابن عباس (رضي الله عنهما) : « احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ ».

واعلم أن يونس (ع) لما كانت ذخيرته خيرًا نجا بها من الشدة، قال الله (عزّ وجلّ) : ﴿فَلَوۡلَآ أَنَّهُۥ كَانَ مِنَ ٱلۡمُسَبِّحِينَ١٤٣ لَلَبِثَ فِي بَطۡنِهِۦٓ إِلَىٰ يَوۡمِ يُبۡعَثُونَ﴾ [الصافات: 143 ـ 144]، وأمَّا فرعون فلما لم تكن له ذخيرة خير لم يجد في شدته مخلِّصًا، فقيل له: ﴿آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ [يونس: 91].

فاجعل لك ذخائر خيرٍ من التقوى تجدها في ساعات الشدة، ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ [يوسف: 22] ، وقال: ﴿قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [يوسف: 90].

وليكن لباسك وسطًا، بين لبس المترفين المتكبرين، واللبس الذي يزدرِي الناسُ صاحبه.

وحاسِب نفسك عند كل نظرةٍ، وكلمةٍ، وخطوةٍ، فإنك مسؤولٌ عن ذلك.

وكن حسن المدارة للخلق، مع شدة الاعتزال عنهم، فإن العزلة راحةٌ من خلطاء السوء، ومبقيةٌ للوقار، وقد قيل: «مداراة الناس نصف العقل»؛ فإذا اضطررت إلى مخالطة الناس، فخالطهم بالحلم عنهم، فإنك إن كشفت عن أخلاقهم لم تقدر على مداراتهم.

وأَدِّ الحقوق إلى أهلها، وأولى ذوي الحقوق بعد الله جل وعلا، ونبيه صلى الله عليه وآله وسلم ، والداك، وقرابتك الأدنى فالأدنى.

ولا تنسَ حق معلمك، وفضله عليك، فهو المعين لك على الخروج من ظلمات الجهل إلى نور العلم، ولولا المعلم لفشا الجهل في أمور الدِّين، والدنيا.

وانظر كل ساعةٍ من ساعاتك بماذا تذهب، فلا تُودعها إلا ما يسرك أن تلقى الله به.

ولا تهمل نفسك من تزكيتها، وعوِّدها أشرف ما يكون من العمل، وأحسنه، وابعث إلى صندوق القبر ما يسرك يوم الوصول إليه، كما قيل:

يَا مَنْ بِدُنْيَاهُ اشْتَغَلْ=وَغَرَّهُ طُولُ الْأَمَلْ

الْمَوتُ يَأْتِي بَغْتَةً=وَالْقَبْرُ صُنْدُوقُ الْعَمَلْ

وراع عواقب الأمور؛ ليهن عليك الصبر عن كل ما تشتهي، وما تكره.

وإن وجدت من نفسك غفلةً، فاذهب بها إلى المقابر، وذكِّرها قرب الرحيل.

ودبِّر أمرك في إنفاقك، من غير تبذير؛ لئلا تحتاج إلى الناس، فقد قال الحكماء: «الاقتصاد نصف المعيشة، وحفظ المال من أمارات العقل، والتبذير من دلائل السفه »، ولأن تخلِّف لورثتك خيرٌ من أن تحتاج إلى الناس.

واجعل التقوى زادك، وشعارك، فهو وسيلة الفلاح، والنجاح، قال تعالى: ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا﴾ [النبأ: 31] ، وهو خير أسباب تفريج الكربات، وزوال الهموم، وسعة الرزق، قال تعالى:﴿وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مَخۡرَجٗا٢ وَيَرۡزُقۡهُ مِنۡ حَيۡثُ لَا يَحۡتَسِبُۚ﴾ [الطلاق: 2 ـ 3]، وهو خيرُ وسيلةٍ لقضاء الحاجات، وتيسير الأمور، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾ [الطلاق: 4].

وكل ما كرهت أن يَظهر عليك فاجتنبه، وما علمت أن الناس يَعِيبونه في الملأ، فلا تأتِه في الخلوة.

وأوصيك بكتاب الله جل وعلا: تعاهدْ حفظه، وأتقِنْ تلاوته، وتدبر آياته، وقم به بين يدي مولاك تفزْ، وتسعد في الدارين.

وعليك بالسنة تمسكْ بها علمًا، وعملًا.

واقرأ السيرة ففيها العبرة، وفيها معرفة أحوال نبيك صلى الله عليه وآله وسلم في جميع أحواله.

واقرأ سير الصالحين؛ فإن سيرهم تزيد في الإيمان، وتثبت الجَنان على طاعة الرحمن.

واحفظ من الشعر أطيبه، ومن الكلام الفصيح، والحكم البالغة، والمعاني الشريفة أحسن ذلك وأجمله.

وخِتامًا ـ أيها الحبيب ـ أسأل الله جل وعلا بحوله، وقوته أن يرزقك علمًا نافعًا، وعملًا صالحًا، وقلبًا خاشعًا، ورزقًا واسعًا، وأن يجعل التقوى زادك، والأدب حليتك، والصحبة الصالحة بطانتك، ورضا الله أسمى غاياتك.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين