أدب اللذة

 

 

 

 

أحمد حسن الزيات
 

 
أسأل ويسأل معي كلُّ قارئ يُشفِق على حاضر الأدب ومستقبل الثقافة: إلى أي طريق يدفَع بنا أدبُ اللذَّة؟ والمُراد بأدب اللذة ما يُسميه الفرنسيون اليوم: وهو الأدب الذي يلذُّ ولا يُفيد، ويَسوغ ولا يُغذي، ويَشغل ولا ينبِّه، كالذي تقرأه في أغلب الصحف وفي بعض الكتب مِن غرائب الأخبار، وطرائف النوادر، وتوافه المعارِف، مما يَجذبكَ عَرضُه ويلذُّك تصويره، ويُلهيك موضوعه، فإذا فرغتَ مِن قراءته وصحوتَ مِن خِدره، لا تجد له أثرًا في نفسك، ولا حاصلاً في ذهنِك.
 
طغى هذا الأدب على أوربا مِن بعد الحرب، فهُزم الكتاب النافع، ونُفي البحث المفيد، فثارت ثائرة أقطاب الكُتَّاب، وأنحوا بالفِكر على مُعالِجيه ومروِّجيه، وحاولوا أن يفتَحوا أعيُنَ الناس على أخطاره بما نشَروا وأذاعوا؛ ولكن العلَّة كانت أفدح مما ظنُّوا؛ فإن الأعصاب التي أوهنتها الحرب بفظائعها وفواجعها لم تعدْ قادرة على معاناة الجسد واحتمال التقصي، فرجعوا يتحاوَرون ويتشاوَرون، ويَطلُب بعضُهم البعض أن يدسُّوا الفائدة في اللذة، ويَدوفوا المرارة بالحلاوة؛ تهوينًا على الأعصاب المُنهَكة، وتسكينًا للنفوس القَلِقَة ذلك هناك، أما هنا فالأمر مختلف، لا أعصابنا موهونة مِن حرب، ولا نفوسنا قَلِقة من ضيق؛ إنما هو الثقافة الخاوية، والأمية الفاشية، والتربية المُهملة، والصبر الفارغ، والطبع السؤوم، والهَوى المتنقِّل، والوقت المضيَّع، والحياة الهازلة! خير ما في المدرسة الألعابُ، وخير ما في المجلس النُّكت، وخير ما في الكتاب الأفاكيه، وخير ما في الصحيفة الصُّوَر، وخير ما في النُّزهة التهريج!
 
فإذا كان الناس في أوربا قد انصرفوا بعد الحرب إلى أدب اللذة، فإن ذلك وإن طال عرَضٌ سيَزول، وحالٌ ستَحول؛ لأن ثقافة النفس في الغرب أصيلة، وحبُّ المعرفة في أهلِه طبيعَة.
 
أما القراء في مصر فإنهم إنما يَعكفون على النوع مِن الأدب البَهرَج؛ لأنه رضا السطحية الغالِبة، وهوى العامية العريقة، وعلاج هذه الحال لا يكون بالتنبيه والتوجيه، وإنما يكون بتغيير العقلية وإصلاح التعليم، وإعداد المعلِّم، وتعميق الدرس، وتعويد القراءة، وتنشئة النفوس على استجلاء الغامض، واستكشاف المجهول، واستدناء القصيِّ واستشراف الكامل؛ وهو علاج يُراوِدنا اليأس مِن قربِ حُصوله، فلا بعضه في اليد، ولا كله في الأمل!
 
إن أدب اللذة عندنا هو الأصل، وما جاء على أصله لا يُسأل عن علَّته ولا يُتعجَّب مِن وجوده، وإن أدب المنفعة عندهم هو الأصل، وما خرج عن أصلِه تناصَرت كل القُوى على كفِّ ضلالِه وكَبحِ شُروده.
 
المصدر: مجلة الرسالة العدد: 882 سنة: 1950 (1: 596)


 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين