أدب الدعاء (تعقيب وتعقيب)

 

أرسل لي أحد المشايخ الفضلاء تعقيبا في غاية اللطف والأدب والحرص على التدقيق العلمي، يستشكل على هذه النافذة حديث السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب، والذين ورد وصفهم في البخاري وغيره بأنهم (لا يسترقون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون) وبعض الروايات أضافت (لا يرقون)، وقد فهم بعض الشرّاح أن هؤلاء مخصوصون لقوّة يقينهم، كما جاء في تحفة الأحوذي: (فهذه من صفة الأولياء المُعرضين عن أسباب الدنيا الذين لا يلتفتون إلى شيء من علائقها وتلك درجة الخواص لا يبلغها غيرهم).

الجواب:

1- ينبغي التفريق بين النص الذي هو وحي، وبين فهم الشارح، والفهوم تختلف وهذا أمر طبيعي، انظروا قول الإمام النووي في شرحه لهذا الحديث: ( بل المدح فى ترك الرقى المراد بها؛ الرقى التى هي من كلام الكفار والرقى المجهولة والتى بغير العربية ومالا يعرف معناها فهذه مذمومة لاحتمال أن معناها كفر أو قريب منه أو مكروه، وأما الرقى بآيات القرآن وبالأذكار المعروفة فلا نهى فيه بل هو سنة)، قلت: واقتران الرقية هنا بالتطيّر، يرجح تفسيرها بالرقية الجاهلية كما أبان النووي رحمه الله.

2- إن الرقية بآيات الله تعالى وأسمائه الحسنى (سنّة) قولية وفعلية، ونحن مأمورون بها، فكيف يكون اتباع السنّة سببا لنقص المكانة عند الله؟ والرقية هي دعاء (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم)، ولا فرق أن تدعو لنفسك أو تدعو لأخيك أو تطلب الدعاء منه، فكل هذا دعاء مشروع وهو عبادة كما في الحديث: (الدعاء هو العبادة)، والعبادة حقها الثواب والقربى وليس العكس.

3- إنه لا يوجد نبيّ ولا وليّ معفوّ من الأخذ بالأسباب، كيف والله تعالى يقول: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل)، بل جعل عدم إعداد العدة والأخذ بالأسباب من صفات المنافقين: (ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدّة)، مع أنه تعالى قال: (وما النصر إلا من عند الله)، فلماذا لم يفهم ولا واحد من الصحابة الكرام أن هذه الآية تعني أن أولياء الله لا يحتاجون إلى العدة والعتاد والأخذ بالأسباب؟ ومن اللطيف أني أسمع لأحد المشايخ الفضلاء تسجيلا بـ (المبايل) يؤكد فيه أن القلب الموصول بالله ينبغي أن يستعلي أو يتخلص من الأسباب!! ولو نظر إلى يده الممسكة بالمبايل طيلة التسجيل لعلم أنه قد أوصل رسالتين ضدّين، أراد ذلك أم لم يرد، وحقيقة فإني عاجز عن إدراك الغاية من هذا الوعظ الذي يناطح البديهيات ويجعل التوكل في كفة، والأسباب في الكفة المقابلة.

4- إن الأخذ بالأسباب قد يصل إلى الوجوب الشرعي، فيكون تركه محرما، فمن امتنع عن شرب الماء مثلا ومات بسبب هذا كان منتحرا، ومن وجب عليه الحج وجب عليه الأخذ بكل الأسباب الإدارية والمادية (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) ومن انتظر أن ييسر له الله ذلك دون أسباب، فمات مات آثما أيما إثم، والعياذ بالله.

5- أخيرا، فالعالم المسلم ليس مخيّرا أن ينتقي من الشروح ما يراه هو، بل هو مطالب أن ينظر في أقرب الشروح إلى نصوص الوحي، ومقاصد التشريع، وكذلك تأثير هذا الخيار على سلوك الناس وتصرفاتهم.

مع الشكر والتقدير لأخي الشيخ المحترم، ولكل ناصح ومتابع وداع بالخير.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين