أخذ العبر من سِيَر طالبي العلم في الكبر

طلب الحديث وغيره من العلوم الشريفة= منّة من اللّه تعالى ورزق من رزقه الذي قسمه بين عباده بأقدار يعلمها وجعل لذلك مواقيت بحسب مقتضى حكمته، فمن الناس من يقدر له التبكير في ذلك جداً وهو في أوائل الصبا، ومنهم من يتأخر طلبه لذلك حتى يمضي سن الفتوة وفورة الشباب ويناهز الكهولة أو الشيخوخة ومن هؤلاء من إذا تأمل حال النوع الذي قبله تحسر على نفسه وتأسف على ما فاته فيؤلم نفسه بذلك من غير جدوى إذ لا سبيل إلى تدارك الماضي، والأمر كله مقدور ومن ورائه حكمة الله تعالى، والمؤمن يعلم أنَّ ما يقسم له من رزق وما يجري عليه من أقدار جميعه من عند الله تعالى فيرضى ويسلَّم..

ومن الناس من إذا تأخر عن نيل بعض الفضائل كالعلم مثلاً يئس منها، أو تلاشت همته وقعد عن تدارك ذلك فيما يستقبله من عمره وهذا تفريط وجمع بين حرماني الماضي والمستقبل..

وقد ذكر لنا بعض فضلاء مشايخنا وهو يخطو إلى التسعين أنه تأخر في الطلب جداً لعله إلى سن الكهولة، ولكنه ذكر أنه قال لنفسه: لَأَن أصل متأخراً خيراً من أن لا أصل، ولَأن أحصِّل البعض أفضل من أن أُحرمَ الكُلَّ..

ذكر لنا هذا وهو يروي لنا «موطأ محمد بن الحسن» بعدما سمعه بنيف وعشرين سنة فقط، وكان عمره وقت سماعه في حدود الخمسين أو جاوزها.

وقد حدَّث به وبغيره مراراً في بلاد عديدة وحمل عنه المشايخ والفضلاء والطلبة، واغتبطوا بالأخذ عنه، ولهجوا بالدعاء له، وتأثروا بالعبرة البليغة التي ذكرها عن نفسه فإنهم شاهدوا ثمرتها بأعينهم.

ولهذا أمثلة كثيرة لعدد من أهل العلم والفضل الذين تأخر طلبهم للعلم وللحديث ثم فتح الله تعالى عليهم وبسط لهم فيه من موهبته ثم بارك لهم فيما أعطى..

وقد جمع كاتب هذه السطور من ذلك ما مر به أو وقف عليه كما جمع النمط الآخر وهم أصحاب التبكير، وجمع كل واحد من النوعين جماعة، ففي ذلك تقوية للعزائم و إنهاض الهمم، ومعتبر في لطيف ما جرى به القدر..

وفيما يلي أمثلة لبعض الأعلام المستدركين للطلب البالغين مع تأخرهم فيه أعلى الرتب..

من ذلك: الحافظ الجليل المعمر شمسُ الدّين، أَبُو الحَجّاج يوسف بْن خليل بْن قُرَاجا بْن عَبْد اللَّه الحافظُ الدّمشقيّ الأَدَميّ، نزيل حلب (555- 648) ـ رحمه الله تعالى ـ.

ذكر الحافظ الذهبي في ترجمته له من «تاريخ الإسلام»(14: 610) ما حاصله بلفظه: « وُلِدَ سنة خمسٍ وخمسين وخمسمائة بدمشق، وكان مشتغلا بصنعته إلى أن صار ابن نيّفٍ وثلاثين سنة، فأخذ يسمع الحديث... ثُمَّ طلب الحديث وكتب الطباق، ونسخ أجزاء، وتخرج عند الحافظ عَبْد الغنيّ، وسمع منه الكثير.

وكان شابًّا؛ فطِنًا، مليح الخطّ، فحسَّن لَهُ الحافظ الرّحلة وإدراك الأسانيد العراقيّة، فرحل إلى بغداد سنة سبع وثمانين، وسمع بِهَا الكثير... ورجع إلى بلده بحديث كثير، وقد فهم وحفظ، وصار من خيار الطَّلَبة، فبقي متطلّعًا إلى ما بأصبهان من العوالي فِي هذا الوقت، فرحل إليها فِي سنة إحدى وتسعين، وأدرك بِهَا إسنادًا فِي غاية العُلُوّ... وسمع الكثير من... خلْق.

وكتب الكُتُبَ الكِبار والأجزاء، وحسُن خطّه، واتّسع حِفْظه، وجلب إلى الشّام خيرًا كثيرًا.

قال الذهبي: " وتفرّد بأشياء كثيرة من حديث أصبهان لخرابها واستيلاء الهَلاك عليها، مَعَ أَنَّهُ ما رحل إليها حتّى مضى من عُمره عُنْفُوانُ الشّبيبة، وصار ابن ستٍّ وثلاثين سنة".

قال: ثُمَّ رحل إلى مصر وسمع من: البُوصِيريّ، وإسماعيل بْن ياسين، وَأَبِي الْجُود المقرئ، وفاطمة بِنْت سعد الخير، وجماعة.

قال: وقد خرّج لنفسه " معجمًا " سمعتُه من ابن الظاهري، و" عوالي " وفوائد " كثيرة سمعنا عامّتها.

قال: " روى عَنْهُ: جماعة منِ كبار الحفّاظ"، ونقل عن عُمَر ابن الحاجب: سَأَلت أَبَا إِسْحَاق الصريفِينيّ عَنْهُ، فَقَالَ: حافظ ثقة، عالِم بما يُقرأ عَلَيْهِ، لا يكاد يفوته اسمُ رَجُل.

قال ابن الحاجب: وسألت الضّياء عَنْهُ فَقَالَ: حافظ، سَمِعَ وحصّل الكثير، وهو صاحب رحلة وتَطْواف.

قَالَ ابن الحاجب: هُوَ أحد الرّحّالين بل واحدهم فضلًا، وأوسعهم رحلة، نقل بخطه المليح ما لا يدخل تحت الحصر، وهو طيّب الأخلاق، مرضي الطريقة، متقن، ثقة، حافظ.

قال العلامة النحوي المحدث التاج ابن مكتوم، وقد طلب الحديث ودار على المشايخ بعدما كبر وعلا سنُّه:

وعاب سماعي للأحاديث بعدما * كبرتُ أناس هم إلى العيب أقرب

وقالوا: إمام في علوم كثيرة * يروح ويغدو سامعاً يتطلب

فقلت مجيباً عن مقالتهم - وقد * غدوت لجهل منهمُ أتعجب -:

إذا استدرك الإنسان ما فات من علا*فللحزم يعزى لا إلى الجهل ينسب.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين