أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً

د. محمود نديم نحاس

وأنا أشاهد تتابع أحداث الأسبوع الماضي في بلاد الشام جال في خاطري السؤال التالي: لماذا يُبتلى أهل الحق? ولماذا تكون للباطل جولة? ثم رحت بذاكرتي إلى أحداث التاريخ، فوجدت أن الحكمة الإلهية اقتضت أن يملي للباطل، فيلجّ الباطل في الطغيان، ويزداد أهله إثماً، لكن بعد ذلك يأخذهم الله بغتة (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ)، وفي الآخرة سينالهم أشد العذاب. وفي المقابل فإن الله يبتلي أهل الحق, ليميز الخبيث من الطيب, ويعظم الأجر لمن يصبر ويثبت. ومن هنا نستطيع أن نفسر كيف تستقر قلوب المؤمنين, وتطمئن نفوسهم وهم واثقون من نصر الله.
نقرأ القرآن الكريم وهو يصف حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه، والأحداث التي مرت بهم، فنبدأ بالمقارنة بين سيرتهم وبين ما نراه من أحداث. فهذه سورة آل عمران تصف كثيراً من وقائع غزوة أحد، تلك المعركة المريرة التي أصاب المسلمين فيها ما أصابهم من جراح، فإذا بهم يستجيبون لنداء الرسول صلى الله عليه وسلم في اليوم التالي للمعركة حين دعاهم للخروج معه، لتعقُّب الأعداء، وليشعروا بأن ما أصابهم في المعركة لم يكن عن ضعف منهم، وليعلم أعداؤهم أنهم مازالوا أقوياء وبإمكانهم أن يمسكوا بزمام الأمور مرة أخرى إذا نفضوا عنهم الضعف والخوف واستجابوا لله ولرسوله، ليس لهم من هدف سوى إرضاء ربهم.
لقد خرجوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم وهم لا يبالون بتخويف الناس لهم من أن عدوهم قد جمع لهم الجيش مرة أخرى، بل ردّوا على التخويف بقولهم: حسبنا الله ونعم الوكيل. فما نالهم شيء من السوء، بل نالهم الرضى من الله، والنعمة والفضل، فهو صاحب الفضل الجزيل.
وهاكم هي الآيات تصف الموقف كاملاً: (الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ، لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ. الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ، فَزَادَهُمْ إِيمَانًا، وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ، وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ، وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ. إنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ).
وقد ذكرت الآية الأخيرة أن الشيطان يحاول أن يجعل أولياءه مصدر خوف وجزع وقوة وهيبة، فليفطن المؤمنون إلى هذا وليكسروا حاجز الخوف من أولياء الشيطان، فالله وحده ينبغي أن يخاف منه المؤمنون. فالشيطان يضخم من شأن أوليائه, ليوقع في قلوب الضعفاء أن لهم قدرة وبطشاً, ولينشر بهم الشر والفساد في الأرض, وليخضع لهم الرقاب، فلا يفكر أحد في الوقوف أمامهم، أو إيقاف شرهم وفسادهم. فيفعل أولياؤه في الأرض ما يريده منهم من نشر الباطل والضلال, ولا يجرؤ أحد على مناهضتهم، فينتشر الخوف في صدور الضعفاء الذين تنطلي عليهم وسوسة الشيطان. فجاءت هذه الآية تعرّف المؤمنين بهذه الحقيقة، وتوضح أن الله وحده أحق أن يخشاه المؤمنون، فإن فعلوا ذلك كانوا أقوى الأقوياء، وقادهم ذلك إلى النصر.
فما أجمل أن نفهم السنن الكونية، وأن نفهم حقيقة الطغيان وأهله، وعندها يسهل التغلب عليهم، ولكن لابد من الابتلاء بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات. والبشارة دوماً للصابرين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين