أَحْكِمُوا زُعَمَاءَكُمْ

إن الجهل والنَّزَق ليسا من صفات القادة والساسة، بل من شروط القادة والزعماء أن يتصفوا بالحكمة، وما سميت السياسة سياسة إلا لأنها فن ترويض الشعوب واستيعابهم على اختلاف مشاربهم وثقافاتهم، وما كان الناس يُسَوِّدون عليهم إلا كل حليم حكيم عالم بمآلات الأمور، قادر على اتخاذ أقل القرارات ضررا إن لم يكن أنفعها، بصير بطبائع النفوس، واختلاف ثقافات الناس، لذا قال الشاعر الجاهلي:

لَا يَصْلُحُ النَّاسُ فَوْضَى لَا سَرَاةَ لَهُمْ * وَلَا سَرَاةَ إِذَا جُهَّالُهُمْ سَادُوا

لكن العجب أن الجهل صار هو الصفة السائدة في أغلب القادة والزعماء اليوم، وكلما كان الشخص أكثر سفها كان أوسع زعامة وأكثر أتباعا.

وإن أول ما يقع على عاتق الساسة والقادة والزعماء هو إدارة التنوع المجتمعي، وصناعة لوحة فسيفسائية من هذا التنوع، وكبح جماح السفهاء والأخذ على أيديهم بسلطان القانون الذي يقف على مسافة واحدة من كل فئات المجتمع، لا على مستوى الدولة الواحدة، بل على مستوى المجتمع البشري كافة.

أما أن يكون الزعماء مساعير حرب، يقودهم السفه إلى سفك دماء الأبرياء، والتهجم على معتقداتهم؛ لكسب منصب سياسي، أو الفوز بانتخابات، بتأجيج الحماس الديني عند أتباع طوائفهم، فيَنْقَضُّون على جيرانهم ومواطنيهم من أتباع الأديان الأخرى، لا سيما المسلمين؛ فهو دليل على فشلهم، ونضوب فكرهم، وسوء سياستهم، وهي السياسة التي ينتهجها معظم الساسة اليوم من شرق العالم في الهند والصين، إلى غربه في أمريكا وفرنسا، مرورا بالأنظمة العلمانية العربية.

وإذا كان الرئيس الفرنسي ينطلق من حقد صليبي قد تربى ونشأ عليه في تهجمه على الإسلام، وتأليب مواطنيه على المسلمين، وإعادة نشر تلك الرسوم التي تنال من الرسول الأعظم صلوات الله وسلامه عليه، فالأعجب أن نجد من بين المسلمين من يرى أن ذلك ضرب من حرية الفكر والإبداع، وعلى المسلمين تقبل الأمر ومناهضته بالفكر والبرهان، ولهؤلاء ولغيرهم نقول:

أمَّا أن الفكر يناقش بالفكر، فصحيح، وأولى بهذا الكلام أن يقال لهؤلاء المعتدين السفلة، فالإسلام فكر، فناقشوه بالفكر والبرهان، لا بالسب والشتم والقذف، أما المسلم فليس في حاجة لمن يأمره بمناقشة الفكر بالفكر وهو الذي يدين بقول الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125].

ثم إن هناك فرقا بين الفن والإبداع وبين السب والقذف، فوظيفة الفنون الارتقاء بالذوق وتهذيب النفوس والأخلاق، وهذا يضاد السب الذي يدل على وضاعة الشاتم وسوء أخلاقه، وضعف حجته، وكما نهى الله تعالى المؤمنين عن سب عقائد الآخرين مع اعتقاد بطلانها، فقال: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]، فكذلك لا يقبل المسلم أن ينتقص من عقيدته، ويسب دينه، ويُسْتَهزأ برسوله صلى الله عليه وسلم.

وأولى بالدول التي تتشدق باحترام الحريات أن تسن من القوانين ما يكفل للمسلم الحرية في ممارسة شعائر دينه، وتغليظ العقوبات لمن يهدد السلام المجتمعي، حفظا للسلام والاستقرار المجتمعي بين أطياف الشعب، ولولا القوانين الرادعة لعاث الناس فسادًا، ولقام كل أحد بانتزاع حقه بيديه، وكم كان الشاعر القديم حكيما حين لخص تلك القضية فقال:

أَبَنِي حَلِيمَةَ أَحْكِمُوا سُفَهَاءَكُمْ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمُو أَنْ أَغْضَبَا

فإن لم يكن سلطان القبيلة والأمة والدولة كابحا سفه السفيه، أوشك الجهل والنزق أن يكونا هما الصفة الغالبة على أفراد المجتمع، فيسود قانون الغاب، وتكون الغلبة للأقوى، ويكون الحق غِلَابًا، ومن سبَّ ضُرِب، ومن ضَرَب قُتِل، ومن قَتَل قُتِلَت عشيرته بأجمعها، ويكون للكلمة الصغيرة القدرة على إشعال فتيل الحروب، فما بالك إن كان السفيه سيد القوم وزعيمهم، يدفعهم إلى أتون الفتن والتنازع والتعدي على الآخرين، مذكيا للحماس الديني لدى أتباعه ليرفع من رصيده الخاسر، كما فعل الرئيس الفرنسي، فهو جدير بأن يحاكم وأن يحاسب لعدم جدارته بالمنصب الذي يشغله، وإن تهجمه على الإسلام ووصفه بالإرهاب، لهو عمل من أعمال المجرمين السفهاء، لا القادة الزعماء، والتحرش بالمسلمين بإعادة نشر الرسوم المسيئة على المباني الحكومية الفرنسية، هو نوع من كيد العوالم، وعمل من أعمال اللصوص؛ يسرق به بعض التأييد لتوسيع قاعدته الجماهيرية، ولربما حسن أن نقول للشعوب التي تحب الخير وترعى حرمة الآخرين: "أَحْكِمُوا زُعَمَاءَكُمْ".

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين