أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قلَّ.

 

 

الفرائض مفروغ منها ولذا حديثنا عن النوافل من قيام ليل وتلاوة وتسبيح وتهليل وذكر واستغفار وصلوات الرسول - ألا إنها قربة لهم -، وغيرها في النصوص الآتية دليل على محبة الله للدوام علي هذه العبادات في مواسم الطاعات وفيما بينها قال تعالى :"وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً *وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً"[1] :" تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ"[2] ،:"أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ "[3]:" إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ* لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ"[4]:" وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ"[5].:" وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ"[6] ، وفي هاتين الآتين الأخيرتين جاء الحديث عن صورة من صور قيام الليل ولا سيما الثلث الأخير وذلك بالاستغفار ، وجاء التعبير مرة بالجملة الاسمية المفيدة للثبات والدوام ، كما في آية آل عمران  الأولى ، ومرة بالجملة الفعلية المفيدة للتجدد والحدوث كما في آية الذاريات الثانية، والشاهد أن الحديث عن هذه الطاعات جاء عاريا من قيد الزمان بموسم من مواسم الطاعات ، بل جاء بأسلوب المضارع المفيد للتجدد والحدوث ( يَبِيتُونَ ، تَتَجَافَى يَدْعُونَ يُنفِقُونَ يَحْذَرُ ، يَرْجُو، يَتْلُونَ  ، يَرْجُونَ) " مما يدل على الاستمرار والدوام ،

 

 وعن قيام الليل والتهجد فيه وحض الأهل على القيام ، في الصحيح عَن عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، أَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم طرقه وَفَاطِمَة لَيْلَة، فَقَالَ: " أَلا تصليان "[7]. طرقه: أَتَاهُ لَيْلًا، قال ابن بطال: فيه فضيلة صلاة الليل وإيقاظ النائمين من الأهل والقرابة لذلك. والاجتهاد والصبر على ذلك ، قال علي – رضي الله عنه –" دخل النبي صلى الله عليه وسلم على عليَّ وفاطمة من الليل فأيقظنا للصلاة، ثم رجع إلى بيته فصلى هُوياً من الليل فلم يسمع لنا حِسَّاً، فرجع إلينا فأيقظنا " قال الطبري: لولا ما علم النبي صلى الله عليه وسلم من عظم فضل الصلاة في الليل ما كان يُزعج ابنته وابن عمه في وقت جعله الله لخلقه سكناً، لكنه اختار لهما إحراز تلك الفضيلة على الدعة والسكون امتثالا لــــــ ( وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا[8])  الاصطبار على الأهل كما على النفس " ..فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ "[9] وفى الصحيح " مَا كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلاَ فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، .."[10]. وفى الصحيح "أَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى الله أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ".واقتدت به عَائِشَةُ – رضي الله عنها كما في الصحيح فكَانَتْ إِذَا عَمِلَتِ الْعَمَلَ لَزِمَتْهُ وجاء التوجيه النبوي بالحرص على ذلك ولو قليلا دفعا للملل والانقطاع في الصحيح "يَا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ[11]، فَإِنَّ الله لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا، وَإِنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى الله مَا دُووِمَ عَلَيْهِ وَإِنْ قَلَّ[12]". فخير العمل ما دام وإن قل. لأنَّه إذا حمَّل المرء نفسه ما لا يُطيق تَرَكَه أو بعضه بعد ذَلِكَ، وصار في صورة ناقض العهد، والراجع عن عادة جميلة ، واللائق بطالب الآخرة الترقي وإلا فالبقاء عَلَى حاله؛ ولأنه إِذَا اعتاد من الطاعة بما يمكنه الدوام عليه دخل فيها بانشراح واستلذاذ لها ونشاط، ولا يلحقه ملل ولا سآمة.

 

وقد ذم الله تعالى من اعتاد عبادة ثمَّ فرط فيها بقوله: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا}[13]  ولم يكن هذا لعائشة فحسب بل كَانَ آلُ مُحَمَّدٍ –عموما - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- إِذَا عَمِلُوا عَمَلاً أَثْبَتُوه"[14].. والحكمة في ذلك أيضا : أن المديم للعمل يلازم الخدمة فيكثر التردد إلى باب الطاعة كل وقت ليجازي بالبر لكثرة تردده، فليس هو كمن لازم الخدمة مثلا ثم انقطع. وأيضا فالعامل إذا ترك العمل صار كالمعرض بعد الوصل فيتعرض للذم والجفاء، ومن ثم ورد الوعيد في حق من حفظ القرآن ثم نسيه،

 

والمراد بالعمل هنا النوافل من قيام وصيام وغيرهما من العبادات.وفي الصحيح عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ رَأَيْتُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَنَّ بِيَدِي قِطْعَةَ إِسْتَبْرَقٍ فَكَأَنِّي لَا أُرِيدُ مَكَانًا مِنْ الْجَنَّةِ إِلَّا طَارَتْ إِلَيْهِ وَرَأَيْتُ كَأَنَّ اثْنَيْنِ أَتَيَانِي أَرَادَا أَنْ يَذْهَبَا بِي إِلَى النَّارِ فَتَلَقَّاهُمَا مَلَكٌ فَقَالَ لَمْ تُرَعْ خَلِّيَا عَنْهُ فَقَصَّتْ حَفْصَةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِحْدَى رُؤْيَايَ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ" [15] وهذا فيه أسلوب  حث وتشجيع وبث الحماسة للنهوض إلى الأعمال الصالحة  بأسلوب المدح مع أنها نافلة في الصحيح قَالَ سَالم عن أبيه: فَكَانَ عبد الله بعد ذَلِك لَا ينَام من اللَّيْل إِلَّا قَلِيلا."[16]

 

وهاهم الصحابة – رضي الله عنهم – فى الصحيح قال صلوات الله وسلامه عليه «يَا بِلَالُ حَدِّثْنِي بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ، عِنْدَكَ فِي الْإِسْلَامِ مَنْفَعَةً، فَإِنِّي سَمِعْتُ اللَّيْلَةَ خَشْفَ نَعْلَيْكَ بَيْنَ يَدَيَّ فِي الْجَنَّةِ» قَالَ بِلَالٌ: مَا عَمِلْتُ عَمَلًا فِي الْإِسْلَامِ أَرْجَى عِنْدِي مَنْفَعَةً، مِنْ أَنِّي لَا أَتَطَهَّرُ طُهُورًا تَامًّا، فِي سَاعَةٍ مِنْ لَيْلٍ وَلَا نَهَارٍ، إِلَّا صَلَّيْتُ بِذَلِكَ الطُّهُورِ، مَا كَتَبَ اللهُ لِي أَنْ أُصَلِّيَ"[17]

 

وهذان الزوجان المباركان عَلِيٌّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وفَاطِمَةٌ  - رضي الله عنهما – سألا النبي صلوات الله  وسلامه عليه خَادِمًا، فَقَالَ: «أَلاَ أُخْبِرُكِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَكِ مِنْهُ؟ تُسَبِّحِينَ اللَّهَ عِنْدَ مَنَامِكِ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ، وَتَحْمَدِينَ اللَّهَ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ، وَتُكَبِّرِينَ اللَّهَ أَرْبَعًا وَثَلاَثِينَ» ثُمَّ قَالَ سُفْيَانُ: إِحْدَاهُنَّ أَرْبَعٌ وَثَلاَثُونَ، فَمَا تَرَكْتُهَا بَعْدُ، قِيلَ: وَلاَ لَيْلَةَ صِفِّينَ؟ قَالَ: وَلاَ لَيْلَةَ صِفِّينَ"[18]

 

والبشارة لمن داوم على عمل صالح، ثم انقطع عنه بسبب مرض أو سفر أو نوم كتب له أجر ذلك العمل بفضل نيَّته المداومة والمحافظة على هذا العمل فى الصحيح: (إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً)[19]  و فى الصحيح  "ما من امرئ تكون له صلاة بليل فغلبه عليها نوم إلا كتب الله له أجر صلاته، وكان نومه صدقة عليه)[20]. بل فى الصحيح لو كان ذلك فى ليلة واحدة " مَنْ أَتَى فِرَاشَهُ وَهُوَ يَنْوِي أَنْ يَقُومَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ فَغَلَبَتْهُ عَيْنُهُ حَتَّى يُصْبِحَ كُتِبَ لَهُ مَا نَوَى وَكانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ"[21]

 

[1] الفرقان/64}

[2] السجدة/16

[3] الزمر/9}

[4] فاطر/29-30}

[5] آل عمران/17

[6] الذاريات/18

[7] صحيح البخاري، كتاب التهجد. باب تَحْرِيضِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى صَلَاةِ اللَّيْلِ وَالنَّوَافِلِ مِنْ غَيْرِ إِيجَابٍ. ‏صحيح مسلم  كتاب صلاة المسافرين وقصرها. باب الحثّ عَلَى صلاة الوقت وإن قلَّت

[8] طه : 132

[9] مريم : 65

[10] صحيح مسلم  كتاب صلاة المسافرين وقصرها.  باب صلاة اللَّيل وعدد ركعات النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ في اللَّيل، وأنَّ الوتر ركعة، وأنَّ الرّكعة صلاة صحيحة

[11]صحيح البخاري كِتَاب الرِّقَاقِ. باب الْقَصْدِ وَالْمُدَاوَمَةِ عَلَى الْعَمَلِ.

[12] صحيح البخاري، كِتَاب الرِّقَاقِ. باب الْقَصْدِ وَالْمُدَاوَمَةِ عَلَى الْعَمَلِ.

[13] [الحديد: 27]

[14] صحيح مسلم  كتاب صلاة المسافرين وقصرها.  باب فضيلة العمل الدَّائم من قيام اللَّيْل وغيره والأمر بالاقتصاد في العبادة وهو أن يأخذ منها ما يطيق الدَّوام عليه

[15] صحيح البخاري كتاب التهجد باب فَضْلِ مَنْ تَعَارَّ مِنْ اللَّيْلِ فَصَلَّى.

[16] صحيح البخاري كتاب التهجد. باب فَضْلِ قِيَامِ اللَّيْلِ.‏صحيح مسلم  كتاب فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم.  باب من فضائل عبد اللهِ بْن عمر رضي الله عنهما.

[17] صحيح البخاري كتاب التهجد  بَابُ فَضْلِ الطُّهُورِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَفَضْلِ الصَّلاَةِ بَعْدَ الوُضُوءِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مسلم في فضائل الصحابة باب من فضائل بلال رضي الله عنه

[18] صحيح البخاري كِتَابُ النَّفَقَاتِ بَابُ خَادِمِ المَرْأَةِ  صحيح مسلم كتاب الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ بَابُ التَّسْبِيحِ أَوَّلَ النَّهَارِ وَعِنْدَ النَّوْمِ

[19] رواه البخاري

[20] أخرجه النسائي. صحيح، الإرواء (2 / 205) ، التعليق الرغيب (1 / 208) // صحيح الجامع (5691) /

[21] صحيح الجامع حديث رقم: 5941

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين