أحاديث الطب بين الإفراط والتفريط

الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى.. وبعد:

فقد كثر الخوض والكلام في قبول ورد الأحاديث والآثار الثابتة في علم الطب ونحوه، واختلط الأمر على كثير من المشتغلين بالعلم، فمنهم من اغتر بمقالة الحداثيين فقنع بأن هذه الأخبار لا تقبل إذا كان ظاهرها يخالف العلم التجريبي الصحيح، ومنهم كبعض الراديكاليين من تمسك بظواهرها تديناً وقطع بأن الأخبار الواردة فيما يسمونه بالطب النبوي إذا صحت فلا مفر من التسليم لها كغيرهما من النصوص الشرعية.

ولا ريب أن هؤلاء قد بالغوا حتى خرجوا إلى ضرب من الرجم بالغيب، وقد رأيت بصنعاء من أصحاب الشيخ مقبل رجلا كان في الأصل طبيبا تخرج في كلية الطب، لكنه نبذه وراء ظهره وراح يشتري بالطب النبوي ثمنا قليلا، فكان يأتيه المصاب بالملاريا وهي منتشرة باليمن، فيرقيه من مس الجن.!

ورأيت بمصر من أتباع شيوخ السلفية كحسان والعدوي ونظرائهما مثل هذا، حتى كان يكون بعضهم بجوار مسجد الفتح الذي في ميدان رمسيس يبيع ما يسميه العلاج بالطب النبوي، فرأيته يوما قد علق (يافطة) كتب عليها: بيع بول الإبل، يعالج به من الصلع والبواسير والبرص وعدد أشياء، ونقل عن بعض من يتعاطى الكلام في الإعجاز العلمي من شيوخ الفضائيات ما يشهد لم كتب فيها، يعني على حد قول عوام مصر: (بتاع كله).!

وبإزاء هؤلاء قوم من غلاة الحداثين كخالد منتصر ونحوه، أمعنوا في رد هذه الأخبار الطبية النبوية وأسرفوا في تعطيلها، ولا شك أن صنيعهم رد فعل لتصرف أولئك، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم.

والذي يقتضيه الإنصاف والورع في مثل هذه الأخبار التي ظاهرها مشكل يعارض العقل أو الواقع أو الحس أو العلم، عدمُ الهجوم على ردّ الحديث الصحيح الثابت كما هو صنيع بعض المنتسبين إلى العلوم التجريبية الكشفية الحديثة، ولا قبول الحديث على ظاهره الذي ثبت بيقين مخالفته للعلم المشاهد والطب الحديث, أو الواقع والعقل, كما هو صنيع من ينزع في أصوله إلى ظواهر السنن ويتعلق بها، وكلا الفريقين على طرفي نقيض، قد جانب الصواب.

والتحقيق بعد التثبت من صحة الحديث، والتأكد من أن مخالفه المعارض ليس مجرد نظرية علمية، أو ظاهرة حسية زائلة، بل هو بيقينٍ حقيقةٌ علمية ثابتة، حمل الحديثِ بنوع من التخصيص أو التقييد أو التأويل على أليَق المعاني المناسبة، وهو الوسط الذي هو مذهب العلماء من الفقهاء والشراح.

كما قال علي وابن مسعود رضي الله عنهما: (إذا حدثتم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حديثاً، فظنوا به وفي رواية: برسول الله الذي هو أهياه وأهداه وألقاه) وفي رواية: أهناه، أخرجه أحمد وابن ماجه وصححه الشيخ أحمد شاكر رحمه الله.

قال السندي: (أي: اعتقدوا فيه الذي هو أوفق به من غيره، وأهدى وأليق بكمال هداه وتقواه) والمعنى: احملوا على أحسن هيئاته ومعانيه وأصلحها.

وتأمل ما رواه حافظ المغرب أبو عمر بن عبد البر بسنده عن إبراهيم النظام المعتزلي قال: (بلغني وأنا حدث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن اختناث الأسقية والشراب منه، فكنت أقول: إن لهذا الحديث لشأناً، وما في الشرب من فم القربة حتى يجئ فيه هذا النهي؟ فلما قيل لي: إن رجلاً شرب من فم قربة فوكعته حية فمات، وأن الحيات والأفاعي تدخل في أفواه القرب، علمت أن كل شيء لا أعلم تأويله من الحديث، أن له مذهباً وإن جهلته).

والمقصود أن الشارع إنما يخاطب بنصوصه ما تعورف عليه عند المخاطبين واعتادوه وجرى عليه واقعهم وأحوالهم، إما بإقرار أو توجيه أو تصحيح أو ضبط أو إلغاء أو نقل إلى ما هو أنفع وأيسر لهم، وهذا يقتضي مراعاة أحوالهم وعاداتـهم وقت الخطاب، وبالتالي مراعاتـها في توجيه النصوص وفهم معانيها.

فإذا ورد خطاب الشارع بنصوصه العامة اقتضى هذا مراعاة عرف من توجه عليهم خطابه وعادتـهم القولية والفعلية في فهم النص، سواء بتأويل أو تخصيص أو تقييد ونحو ذلك، وإذا تكلم الشارع في الطب مثلاً، اقتضى لفهم خطابه الرجوع إلى عرف الأطباء، وما جرت عليه العادة عندهم، فلو أخبر عن نفع نبات ما وفائدته، وكان معروفاً عند الأطباء أن هذا النبات بعينه يضر في حال أو زمن أو مناخ معين، اقتضى هذا أن يخص من عموم ما أخبر به الشارع من نفع هذا النبات، هذه الأحوالُ والأزمنة التي تعارف الأطباء على عدم نفع هذا العقار أو النبات فيها. 

وهكذا القول لو خاطبهم في قضايا فلكية أو عقلية وغير ذلك، ومما يرشد إلى هذا قصة تلقيح النخل المعروفة، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الكمأة شفاء للعين، فلم يقتض ذلك استعمالها كيفما اتفق دون الرجوع إلى عرف الأطباء في طريق استعمالها، إذ قد تضر في حال دون حال أو شخص دون آخر أو زمن معين. 

وقد أخبر إبراهيم الحربي أن صالحاً وعبد الله ابني الإمام أحمد، اشتكى كل واحد منهما عينه، فأخذا كمأة وعصراها واكتحلا بمائها، فهاجت أعينهما رمدا، وحكى ابن الجوزي عن شيخه أبي بكر بن عبد الباقي أن بعض الناس عصر ماء كمأة فاكتحل به فذهبت عينه. 

وبالمقابل ذكروا أن الشيخ كمال الدين بن عبد العزيز الحارثي الدمشقي عمي وذهب بصره حقيقة، فكحل عينه بماء الكمأة مجرداً، فشفي وعاد إليه بصره، وكان استعماله لماء الكمأة اعتقاداً في الحديث وتبركاً به فنفعه الله به.

وأغرب من ذلك ما ذكره المحبي في (خلاصة الأثر) أن الطبيب صفي الدين الكيلاني، وكان أعجوبة في الذكاء والفهم، وكان بعض التجار يبغضه ويطعن فيه ويتكلم عليه، فاتفق أن أهدى إليه بعضهم نباتاً له رائحة طيبة، فلما شمه التاجر انتفخ بطنه، وعجز الأطباء الموجودون عن علاجه، فاضطر إلى الكيلاني، وأرسل إليه واستعطفه، فعالجه بسفوف من ذلك النبات نفسه فعوفي، فتأمل كيف عالجه بما كان دائه منه.! 

قال المحبي: (ونظير ذلك ما وقع لابن البيطار المشهور، أن بعض معاصريه امتحنه عند السلطان، فجاء للسلطان بنبات وقال: إذا طلع إليك ابن البيطار مُرْه أن يشم من هذا المحل، يتبين لك معرفته وجهله، فلما طلع إليه أمره أن يشمه من المحل المعين، فشمه منه فرعف لوقته رعافاً شديداً، فقلبه وشمه من الجانب الآخر، فسكن رعافه لوقته، ثم قال للسلطان: مُر الذي جاء به أن يشمه من الموضع الأول، فإن عرف أن فيه الفائدة الأخرى فهو طبيب، وإلا فهو متشبع بما لم يعط، فلما طلع أمره بشمه من الموضع فرعف رعافاً شديداً فقال له: اقطعه، فعجز وحار في أمره وكاد أن يهلك، فأمره أن يقلبه ويشمه، ففعل فانقطع رعافه، فمن يومئذ زادت مكانة ابن البيطار عند السلطان).!

بل قد تكون العلة واحدة ودواؤها معروف لكنه ينفع عند الأطباء لهذا ولا ينفع لذاك، مع اتحاد علتهما، لاختلاف الأمزجة ونحو ذلك مما يعلمه أهل الطب، كما وقع للكيلاني المذكور أن بعض أولاد الشريف أصابته علة فعالجه بالعنبر، فاتفق أن نفس العلة أصابت بعض الرعية، فعالجه بضفع البقر، فقيل له: أليست علة الرجلين واحدة؟ قال: نعم ولكن ولد الشريف نشأ على الرائحة الطيبة، فلو عملت له دواء الضفع زادت علته، والآخر بعكسه، فداوينا كلاً بما يناسبه.!

وقال المازري وكان من أطباء الفقهاء حتى ذكر الذهبي في (النبلاء) أن المازري مرض مرضة فلم يجد من يعالجه إلا يهودياً، فلما عوفي على يده، قال: لولا التزامي بحفظ صناعتي لأعدمتك المسلمين، فأثّر هذا عند المازري وأقبل على تعلم الطب حتى فاق فيه، وكان يفتي فيه كما يفتي في الفقه.!

قال رحمه الله: (علم الطب من أكثر العلوم احتياجا ًإلى التفصيل، حتى أن المريض يكون الشيء دواءه في ساعة، ثم يصير داءً له في الساعة التي تليها، لعارض يعرض له من غضب يحمي مزاجه مثلاً، فيتغير علاجه، ومثل ذلك كثير، فإذا فرض وجود الشفاء لشخص بشيء في حالةٍ ما، لم يلزم منه وجود الشفاء به له أو بغيره في سائر الأحوال، والأطباء مجمعون على أن المرض الواحد يختلف علاجه باختلاف السن والزمان والعادة والغذاء المتقدم والتأثير المألوف وقوة الطباع).

وأيضاً: فإن خطاب الشارع في مثل هذه النصوص لا يعم في استعماله كما لايعم في نفعه، بل يختص ذلك بأهل الخبرة والمعرفة بمواقع الاستعمال علمياً وعملياً، لأن من الناس من يدري صناعة الطب نظرياً وليس له خبرة بطرائق استعمالها، مثل بعض من يدعي معرفة ما يقال له اليوم بـ(الطب العربي أو النبوي) فإذا سمع الواحد من هؤلاء الحديث المعين في الطب النبوي، أقدم على استعماله في حق من ينتابه من المرضى دون أن يقع به لهم الشفاء، إن لم يحصل لهم العكس، ويفضي بـهم الحال إلى سبّ الدين وأهله، كما هو مشاهد في هذه الأيام.

وقد روى أبو داود عن سعد قال: مرضت فعادني صلى الله عليه وآله وسلم فوضع يده بين ثديي حتى وجدت بردها على فؤادي فقال لي: (إنك رجل مفؤود، فأت الحارث بن كلدة من ثقيف فإنه رجل يتطبب، فليأخذ سبع تمرات من عجوة المدينة، فليجأهن بنواهن ثم ليلدّك بـهن). 

فتأمل كيف أرشده بعد أن وصف له العلاج وطريق استعماله إلى العارف بالصنعة الممارس لها، وهذا من الحكمة في استعمال السنن وفقه النفس في العمل بـها.

وقد ذكر الحافظ في ترجمة العلامة صدر الدين بن المرحل من (الدرر الكامنة) أَنه كان يعرف الطب علماً لا علاجاً، فاتفق أن الأفرم حصل له سوء هضم، فرتَّب له سفوفاً فاستعمله فأفرطه الإسهال، فأراد مماليك الأفرم قتل صدر الدين، وتدارك أمين الدين سليمان الرئيس الأمر فعالجه برفق إلى أن نصل عن قرب، فأنكر الأفرم على مماليكه ما فعلوه مع صدر الدين، وعاتبه بلطف وقال له: كدت أروح معك غلطاً، وقال له أمير العرب: يا شيخ صدر الدين أقبل على فقهك ودع الطب، فإن غلط المفتي يُستدرك وغلط الطبيب لا يُستدرك، فاستصوب الأفرم مقالته وخجل صدر الدين، ثم تلافاه الأفرم وأعطاه مالاً وثياباً.

ومن هنا يعلم غلط كثير من المعاصرين الذين ولعوا بما اصطلحوا على تسميته بالإعجاز العلمي الحديث في القرآن والسنة، وتوسعوا فيه توسعاً غير مرضي ولا محمود، ولا سلف لهم فيه من أهل العلم بالحديث والفقه والطب، حيث عمدوا إلى أحاديث مخصوصة بزمان أو حال أو وصف معين، فعمموها وزعموا الانتفاع بـها في علاج أمراض عصرية، قد عجز علماء الطب الحديث عنها، كزعمهم علاج الصلع ببول الإبل! وغير ذلك من الهوس. 

ولم يحصل الشفاء والعلاج في الكثير مما زعموه، فأفضى بـهم الحال إلى أن رماهم الناس بالكذب والشعوذة، وصار بعضهم محل سخرية المستهزئين، بل تجاوز الأمر إلى حدّ السخرية بنصوص السنة والطعن عليها من جهلة المتعولمين وأغمار المـــُحْدَثين، فصدق فيهم قول علي عليه السلام: (حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون، أتحبون أن يُكذّب الله ورسوله) وقال ابن مسعود رضي الله عنه: (ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة).

والحق وسط بين تفريط الجافين، وإفراط الغالين، ولذا لم يؤثر مثل هذا التوسع في استعمال هذه الآثار والسنن عن السلف الذين رووها ونقلوها، وقد تقرر وجوب الرجوع في كل فن إلى أهله الذين هم أهل الخبرة والمعرفة بدقائقه. والله أعلم

وأذكر أني دخلت على حلاق بالقاهرة وعنده طبيب ستينيٌّ قد جلس ينتظر دوره، وهو يحدّثه عن الحمية ويقول له: إذا أردت العافية فعليك بالركض السريع ثم الاغتسال بالماء البارد لأن الله يقول: (اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب).!

فقلت له: يا أستاذ: معنى اركض: اركل واضرب الأرض باتفاق المفسرين، وليس معناه الجري كما تتوهم، ألا تراه قال: (برجلك) وهل يكون الجري إلا بالرجل، فلو كان كما تقول كان يكون تقييد الجري بالرجل عبثا يتنزه عنه الشارع الحكيم، على أن شرب الماء بعقب الحمام والرياضة مضر كما قال الرئيس أبو علي بن سينا في (ألفية الطب):

لا تشرب الماء على الطعامِ...ولا على الخروج من حمّامِ

ولا على الرياضة القويه.............ولا الجماع إنه بليّه

فاحتد وأصر على رأيه وجعل يذكر أنه طبيب وأنه درس الإعجاز العلمي في القران، وأن القران قد اشتمل على الإعجاز الطبي، واندفع يقرر لهم الفوائد الطبية الحاصلة من الاغتسال بالماء البارد بعقب الركض السريع.! 

فتركته وتذكرت خبر ابن الجصاص الجوهري، وكان به وجع فقيل له ما بك؟ فقال أكلتُ اليوم مع الجواري المخيضَ بالبصل فآذاني، فلما قرأتُ في المصحف: (ويسألونك عن المخيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المخيض) فقلت: ما أعظم قدرةَ الله، قد بين كل شيء حتى أكل اللبن مع الجواري.!

وكثير من دعاة الإعجاز العلمي دخيل على علوم الشرع، ولا يدري للتفسير أصلاً ولا فرعاً، وقد سمعت عضواً في هيئة الإعجاز يخبط في التفسير خبط ورقاء علقها شرك، ولم يرض بمزاحمة المفسرين بفرط جهله، حتى راح يطعن عليهم بكاسد عقله، فزعم أن تفسير ابن عباس والقرطبي ومن أسماهم بالمفسرين التقليديين لا يقبل في آي الطب والعلم الحديث، وهذا الهوس يغني حكايته عن تكلف رده، وصاحبه كمن قيل فيهم:

دَعِيٌّ في الكتابةِ يدَّعيها .......... كدَعوةِ آلِ حربٍ في زيادِ

فدَعْ عنكَ الكتابةَ لستَ منها ... ولو أنْقَعْتَ ثوبَكَ في المدادِ 

وسمعت أستاذ علم حشرات يتكلف الإعجاز الطبي في الكتاب والسنة، يتحدث عن فوائد بول الإبل حتى زعم أنه يعالج به من الصلع، مع أنه أصلع! ولا ينفق هؤلاء إلا عند العوام والعجّز الذين يروج عليهم الشيء وضده.!

كما حكى ثمامة بن أشرس المعتزلي أنه مرّ في السوق على شيخ قد بسط رداءه وهو ينادي: هذا الدواء للبياض في العين والغشاوة وضعف البصر، والناس عليه قد انثالوا وبه قد احتفلوا يستوصفونه ويسألونه.! 

قال: فتأملته فإذا إحدى عينيه مطموسة والأخرى مؤلَمة، فقلت له: يا هذا أرى عينيك أحوج الأعين إلى هذا العلاج.؟ 

والواقع أن غلاة الإعجازيين لا في التفسير نفعوا، ولا في الطب أفلحوا، وبالتفسير والطب أضروا، وفي بعض كلامهم نفع وأكثره تخليط، ومنهم أقوام ولجوا فيه طلباً للدنيا والشهرة على حد قول القائل:

عصائِبٌ أصبحوا بالمالِ لاهيةً ... صارُوا وجُوهاً وكانُوا قبلُ أُسْتاهَا

منهم سعيدٌ وسَعدانٌ وسَاعدةٌ ... سبحانَ من فَضَحَ الدنيا وأَخْزاهَا

ولا جرم أن غلو الإعجازيين استدعى غلاة السلفيين إنكاره مطلقاً، فسمعتُ مدخلياً في خطبة جمعة يحكم بأن الإعجاز العلمي في القران بدعة لأنه لم يرد عن السلف ولا أُثر عن ابن عباس وأُبي بن كعب.!

زورُ قولٍ به تبجَّحَ جَهلاً ..... تُركزيٌّ له السفاهةُ داءُ

تركزيٌّ بكل جهلٍ مَلِيٌّ ... شأنهُ العُجْبُ دأبُهُ الافتراءُ

ليس يدري بأنه ليس يدري ... وله الحُمْقُ عادة والمراءُ

والوجه كما مر تقريره ما عليه أهل العلم بالسنن ومعاني الآثار -إذ كل علم يُرجع فيه إلى أهله- فهم لا يقطعون برد متون هذه الأخبار مطلقا ولا بقبولها مطلقا، وضابط الأمر عندهم عرضها بعد تسليم ثبوتـها على الأصول والقواعد، فإن خالفت قوانين الطب الكلية وما أجرى الله به العوائد والسنن والعقول، رُدّت وإلا قُبلت ونُظر في التصرف في توجيه معاني متونـها بالمواءمة بينها وبين قضايا العلم والعقل الكلية، بنوع تخصيص أو تقييد أو بتأويل وحمل على أليق المعاني المناسبة، إذ الكل من عند الله، النصوص وأحكام العقل والعلم والطب.

كما حمل الخطابي خبر شنِّ الماء البارد على المحموم في السحر على نوع خاص من الحميات معروف عند أهل الطب علاجه بذلك، وتأوله البخاري بفعل أسماء في نضح الماء البارد على جبين المحموم، وهو المسمى اليوم بالكمادات.

والأصل أن أحاديث الطب إنما هي توجيهات عامة وإرشادات كلية في علم الطب، لا يستقيم المعالجة بـها لغير العارفين بالطب علاجا وعلما، كما لا يصح إجراؤها على عمومها وإطلاقها كسائر النصوص سواء.

بل الواجب أن تؤخذ هذه التوجيهات والإرشادات الحديثية الطبية بمقتضى نظر الأطباء وقواعد وتصرفهم في علم الطب وأصوله، وهذا يتخرج على اختلاف أهل العلم في أصل الطب ونشأته هل هو توفيقي أم توقيفي.؟

كما لا يسوغ العمل بنصوص الكتاب والحديث دون الرجوع في بيان معانيها إلى أهل العلم بأصول المعاني كأهل التفسير والأصول والنظر والغريب، وإلا تعثر العامل بـها ضالا عن وجه الصواب وأخطأ المعنى فأخطأ مقصود الشارع وقد ينقلب تيسيره تعسيراً ونفعه ضراً، كالذي فهم من النهي عن التحلق يوم الجمعة أنه حلق الشعر فبقي لا يحلق شعره يوم الجمعة أربعين سنة، على ما حكاه الخطابي في (المعالم).

ورأيت بصنعاء حدثا يطلب العلم لا يصلي إلا في مواضع الغنم لأنه فهم من قولهم إن الأمر للوجوب، وجوب ذلك على ظاهر الأمر في حديث (صلوا في مرابض الغنم) ولم يكن له تمييز بين أمر الإباحة وأمر الوجوب، ثم تعارض في ذهنه هذا مع الأمر بصلاة الجماعة، فكان يصلي في مرابض الغنم ويصلي في الجماعة، فاستشكل عليه هذا مع إعادة الصلاة مرتين، فحمل الأمر بالصلاة في مرابض الغنم على النفل والجماعة لصلاة الفرض، فاعترضه إشكال آخر كيف يتجه هذا مع ما ورد من التنفل في المسجد والبيوت، فحار في أمره حتى سأل صديقا لنا له في العلم تقدم، فذكر له أن الأمر بالصلاة في مرابض الغنم للإباحة كقوله تعالى (كلوا واشربوا) حتى استقام له المعنى.!

وتأمل حديث النهي عن استقبال القبلة ببول أو غائط، وقد حمله بعض المتفقهين على إطلاق ظاهره فشدد على الناس، ولو رجع في فهم وجهه إلى العلماء لاستبان له الأمر، فإنه كما قال الحافظ: (التحريم مختص بأهل المدينة ومن كان على سمتها, فأما من كانت قبلته في جهة المشرق أو المغرب, فيجوز له الاستقبال والاستدبار مطلقاً, لعموم قوله: شرقوا أو غربوا, قاله أبو عوانة صاحب المزني).

ونحوه للخطابي وابن القيم، ونظيره خبر تلقيح النخل وهو كما قال النووي وغيره اجتهاد عادي لا تعبدي فلا يلزم، بل قال ابن حزم: (وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في تلقيح ثمار أهل المدينة، لأنه مباح للمرء أن يلقح نخله ويذكر تينه، ومباح أن يترك فلا يفعل شيئا من ذلك، وقد أخبرني محمد بن عبد الله الهمداني عن أبيه أنه ترك تينَهُ سنين دون تذكير فاستغنى عن التذكير، فلعل النخل كذلك لو توبع عليه ترك التلقيح سنة بعد سنة لاستغنى عن ذلك، وهذا كله ليس من أمور الدين الواجبة والمحرمة في شيء، إنما هي أشياء مباحة من أمور المعاش، من شاء فعل ومن شاء ترك).

وقد رأيت أنا ببغداد نخل برحي من نخل البصرة ينتج بلا تلقيح، وتارة يخرج شيصا إذا لم يلقح، ورأيته مرة خرج بعضه شيصا وبعضه تمراً رطباً مع أنه لم يلقح، وهذا كما أننا تارة نلقحه فيشيص، فليس الحديث قطعيا في خطأ اجتهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الأمر الدنيوي بعينه، بل ظاهر القرآن معه فإن الله قال: (وأرسلنا الرياح لواقح) وفي أحد الوجهين في تأويله أن الرياح تُلقّح الشجر ذي الثمرة بأن تنقل إلى نَوْره غبرة دقيقة من نَوْر الشجر الذكر فتصلح ثمرته أو تثبت، وبدون ذلك لا تثبت أو لا تصلح، وهذا هو الإبّار، وبعضه لا يحصل إلا بتعليق الطلع الذكر على الشجرة المثمرة، وبعضه يُكتفى منه بغرس شجرة ذكر في خلال شجر الثمر، قاله العلامة ابن عاشور، والله تعالى أعلم.

والحمد لله، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين