أجدادنا بنوا .. ونحن هدمنا البنيان

 

أستدعي من الذاكرة بعض ما كنا قرأناه في الماضي ، من بِيْضِ صنائعنا ، وسُودِ وقائعنا ، وحمر سيوفنا ، وعوالي رماحنا .. فتسري في كياني نشوة عارمة ، تنقلني على جناحها إلى عوالم كأنها الأحلام .. ثم لا ألبث أن أصحو منها على واقع مليء بالآلام ..

وقبل أن يقف لي أحدُ ذيولِ الغرب والشرق بالمرصاد ، ويصدَّني عن المضي فيما أريد ولا يريد ، أعتذر بأنني سوف لن أصغي لمن أراد صدي عن تاريخ آبائي وأجدادي ، فمن لم يكن له ماض مشرق ، قلما يكون له حاضر واعد ، أو مستقبل وضيء .. ومن ذا الذي يزعم أن الأغصان يمكن أن تورق وتثمر بعد اجتثاث الجذور .! 

نحن يا سادة كان لنا أصل مورق ، وماض مشرق ، وما تمكن منا أعداؤنا في الغرب والشرق ، إلا بعدما أقنعونا بالتنكر لأصولنا ، واحتقار ماضينا ، والاستهانة بتراثنا الديني والفكري والحضاري ...

قرأنا في السيرة النبوية ، أن نبينا عليه الصلاة والسلام ، قد استطاع في عقدين ونيف من الزمن ، أن يغير التاريخ . وينقل العرب نقلة نوعية ، جعلتهم يفتحون العالم من بعده شرقا وغربا ، حتى بسطوا سلطانهم على ثلاثة أرباع العالم ، وأطاحوا بأكبر إمبراطوريتين في زمانهم ، فارس والروم ... وحققوا بشارة النبي لهم بقوله : ( إِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلاَ كِسْرَى بَعْدَهُ ، وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلاَ قَيْصَرَ بَعْدَهُ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُمَا فِي سَبِيلِ اللهِ ) صحيح البخاري .

وقرأنا في التاريخ ، أنه لم تقم للفرس قائمة بعد معركة القادسية ، ولن تقوم .. وقرأنا في التاريخ أيضا ، أن الروم تجرعت أكبر هزيمة لها في معركة اليرموك . وبلغ اليأس بقيصر الروم مداه حين دحرته كتائب الإيمان ، واضطرته أن يغادر أرض الشام ، فوقف على جبال طوروس ، وهي على مشارف سوريا من الشمال فقال " سلاما عليك يا سوريا سلاما لا لقاء بعده " .

وقرأنا في هذه الصفحات من تاريخنا أن ابن القاسم الثقفي فتح بلاد السند والهند .. وأن قتيبة بن مسلم الباهلي فتح الصين .. وأن موسى بن نصير وطارق بن زياد فتحا بلاد الأندلس ، وأقاما فيه خلافة استمرت سبعة قرون ..

وقرأنا أن صلاح الدين رد للمسلمين اعتبارهم في معركة حطين ، وأن قطز وبيبرس من أمراء المماليك ، استطاعا إيقاف المد التتري عند حده ، وأجبراه على الانكفاء والرجوع من حيث أتى ..

وقرأنا ...

وقرأنا ...

ثم صحونا على كابوس مخيف ..!! فقد أعاد الأعداء الكرة ، ونجحوا في إسقاط الخلافة العثمانية هذه المرَّة .. عفونا هل قلت ( نجحوا في إسقاط الخلافة العثمانية ) ..؟؟ فالصواب أننا نحن الذين عملنا على إسقاطها ، ودققنا المسامير في نعشها ، وعلى نفسها جنتْ براقش .. ونحن الذين مكنا الغرب الصليبي من تدمير وحدتنا ، وأعناه على تنفيذ مؤامرة سايكس بيكو ، ونحن الذين مكنا اليهود من احتلال أرض الإسراء ، وضيعنا أولى القبلتين ، وثالث الحرمين الشريفين .. ونحن من ضيع العراق بالأمس ورماها في أحضان اليهود والمجوس .. ونحن الذين نحاول تضييع سوريا اليوم ورميها إلى نفس المصير .. حقا إنه واقع أشبه بكابوس مخيف ، فماذا بعد أن تسقط بلاد الشام – لا سمح الله - في أيدي إسرائيل وإيران .!؟؟

ولكأني بك عزيزي القارئ تستغرب أن أجمع بين المجوس واليهود في قَرَنٍ واحد .. وأرجو أن لا تستغرب ، فاللعب اليوم بات على المكشوف ، وإسرائيل بعد الاحتلال الأمريكي للعراق ، بات لها نفوذ كبير فيه ، ولها نفوذ قبله في إيران .. فأصفهان مليئة باليهود ، وإيران لا تفتأ تتحرك في ركابهم .. وكلتاهما قرة عين لأمريكا ، وأمريكا كما ترون تسعى لإطلاق أيديهما في المنطقة العربية ، ليكونا فيها بمثابة ( منكر .. ونكير ) ، ويتحكما لها بالعالم العربي ، ويصوغا كل قراراته ، الصغير منها والكبير ..

ولا تغرنكم تلك المهاترات الكذابة بين إسرائيل وإيران ، ولا تصدقوا أن إسرائيل سوف تضرب المفاعل النووي الإيراني ، إلا إذا كنتم تصدقون أن إسرائيل تقلع عين نفسها بيدها ، فإيران بؤبؤ عين إسرائيل .. وكذلك أرجو أن لا تخدعوا بالشعار الإيراني : " الموت لأمريكا .. والموت لإسرائيل " فهذا الموت الذي تردده إيران ، فيه كلمة مضمرة ، تقديرها ( الموت لعدوّ أمريكا .. ولعدوّ إسرائيل ) ...

فما المخرج من هذا الكابوس الفظيع ، الذي فتحنا أعيننا عليه .؟ هل المخرج أن نرفع الراية البيضاء ، ونعلن الاستسلام ، ونعود إلى بيت الطاعة ، ونذبح بعد ذلك ذبح النعاج بصمت ودون ضجيج .؟ أم نستمر فيما نحن فيه من جهاد وجلاد .. ونتحمل براميل الموت ، فمن مات منا مات شهيدا كريما .. ومن حيَّ عاش حرا عزيزا .

وإن سكوتنا عن الباطل فيما مضى لعدة عقود ، هو الذي جر علينا كل هذا الخراب والدمار .. ومتى دفعنا الضريبة كاملة عن ذلك السكوت ،  جاء نصر الله والفتح ، وعاد للأمة عزها وسؤددها .. وعاد أبناؤها ليقول قائلهم :

إنّـا وإن آبـاؤنـا كرمت  :  لسنا على الأحساب نتكلُ

نبني كما كانت أوائلـنا  :  تبني ونفعل مثل ما فعلوا

 

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين