أثر بدر في التاريخ
بقلم الأستاذ: حسين يوسف
إنَّ المعارك الفاصلة في تاريخ البشريَّة، لا تتوقف أهميتها على ضخامة الجيوش المقاتلة فيها، ولا تقوم خطورتها على غزارة الدماء التي سفكت ولا على كثرة الأرواح التي أزهقت. إنما تقاس أهمية المعارك بمدى تأثيرها في حياة البشرية، ومدى انتفاع المجتمع الإنساني بالنتائج التي انتهت إليها، والعبر التي تستمد منها، والمثل العليا التي كافحت دونها، والمبادئ القويمة التي غرستها.
فكم من معارك اشتبكت فيها عشرات الألوف والملايين، واستمرت العديد من الشهور والسنين، وسالت فيها الدماء أنهاراً، وملأت الأرض خراباً ودماراً، فلما وضعت أوزارها وخمدت نيرانها، لم يبق من آثارها إلا الذكريات الأليمة، والأحقاد المريرة، وإذا بكل ذلك وغيره وقد طوته الأيام في دورتها، وابتلعته الأحداث في تتابعها.
والأمثلة على ذلك كثيرة، قديماً وحديثاً، فالمعارك الدامية بين الفرس والروم، وفتوحات الإسكندر الأكبر ونابليون، والحروب العالمية الأولى والثانية، كل هذه الحروب المدمرة وأمثالها، انتهت من حيث بدأت، دون أن تترك أثراً في حياة البشرية أيُّ أثر، ودون أن تحدث في المجتمع الإنساني أي تطور، لأنها لم يكن لها من هدف إلا التغلب والاستعلاء، وإلا الفخر والخيلاء، ولأنها لم تكن لخير البشرية وسعادتها، وإنما كانت لضررها وشقاوتها، لم تكن كفاحاً في سبيل مُثل عليا، أو غاية نبيلة، وإنما كانت دفاعاً في سبيل أهواء مضللة، وشهوات رخيصة، لم يكن فيها ذرة واحدة لله، ولا هدف واحد لخدمة الإنسانية، ولا مثل واحد تستمد منه الأجيال اللاحقة ما تنتفع به في حاضرها ومستقبلها، أو يرتفع بمستوى المدنية والحضارة فيها.
في حين نجد أن غزوة بدر الكبرى، رغم ضيق نطاقها، سواء فيما يتعلق بالمكان الذي وقعت فيه، أو الزمن الذي استغرقته، أو الأعداء المتقاتلة فيها، أو الضحايا الذين سقطوا بها. بالرغم من كل ذلك فإن هذه الغزوة قد تركت آثارها الخالدة في حياة البشرية، لأنها كانت صراعاً بين مبدأين متناقضين: بين الإيمان وما يقوم عليه من تحرير النفوس من العبودية إلى الله والعقول من الخوف إلا منه، والذل إلا له، وبين الشرك وما يدعو إليه من عبودية للأصنام، وخضوع للظلم والطغيان ورضا بالذل والهوان...
وكانت كفاحاً بين تعاليم الإسلام وما تدعو إليه من هداية ونور، ومحبة وسلام، وأخوة وتعاون، وعدالة ومساواة.. وبين تقاليد الجاهلية، وما تقوم عليه من جهالة وضلال، وثارات وفتن، وبغي وعدوان، وسخائم وأحقاد...
ومن هنا اعتبرت معركة بدر، معركة فاصلة، في تاريخ الإنسانية، وظلت ذكراها خالدة، وآثارها مستمرة، رغم كر السنين، ومر القرون، وستظل كذلك حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
ويكفي لبيان قيمة هذه المعركة الصغيرة، موقف النبي صلى الله عليه وسلم منها قبيل وقوعها، ومدى تقديره لخطورتها حتى إنه ليقضي ليلها قائماً قاعداً، يصلي ويدعو، ويرفع يديه مناشداً ربه ما وعده من النصر ويقول: «اللهم إن تظهر على هذه العصابة، يظهر الشرك ولا يقم لك دين».
وهكذا خلد التاريخ بدراً، رغم أن عدد الذين اشتبكوا فيها لا يتجاوزون المئات، وعدد الذي قتلوا أو استشهدوا لا يزيدون عن عشرات، وعفى على آثار المعارك الكبرى، رغم أن ضحاياها بلغت الألوف والملايين..!!
خلد التاريخ بدراً رغم أنها لم تستمر إلا ساعة من نهار، وأهمل ذكرى الحروب الهائلة التي استمرت الشهور والأعوام..!!
خلد التاريخ بدراً رغم أن ميدانها لم يتعد نهاية البصر، وغضَّ من قيمة الصراعات العالمية، التي غطت بنيرانها مشارق الأرض ومغاربها.
وهكذا نرى ملايين المسلمين في كل عام يحتفلون بذكرى هذه المعارك الخالدة، الصغيرة في حجمها، الكبيرة في آثارها، يستمدون منها الدروس والعبر، ويستعيدون مواقف البطولة والإيمان، وصور الفداء والاستشهاد ما يجددون به الههم، ويشدّون به العزائم، ويبعثون به موات النفوس والأرواح.
انتخبها مجد مكي من كتاب «سيد شباب أهل الجنة»للشيخ: حسين يوسف
في يوم السبت 25/ذي القعدة 1400 ـ في مكتبة جامعة الملك عبد العزيز (أم القرى حالياً )في مكةالمكرمة.
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول