أثر الهجرة في التشريع الإسلامي - الهجرة وأثرها على العالم

أثر الهجرة في التشريع الإسلامي

الشيخ: عبد الوهاب خلاف

في سنة 571 من ميلاد السيد المسيح ولد سيدنا محمد بن عبد الله بمكة بشعب بني هاشم.
وفي سنة 610 وهو في الحادية والأربعين من عمره الشريف اصطفاه الله رسولاً إلى خلقه، يدعوهم إلى عبادة الله وحده وأن لا يشركوا به شيئاً، وإلى الإيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
وقد أقام الرسول بمكة المكرمة من حين أن اصطفاه الله لرسالته اثنتي عشرة سنة وستة شهور بالتقريب، صبر فيها على الأذى، واحتمل الآلام، وقاسى من الشدائد مالا يصبر عليه إلا من أيده الله بمعونته وتوفيقه، وألهمه أن العاقبة له ولدينه.
وفي سنة 622هـ هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن آمنوا به من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، يلتمس لدينه ودعوته بلداً غير هذا البلد، وقلوباً غير هذه القلوب، ويشق لعقائده الحقة وأخلاقه الفاضلة ومبادئه القويمة طريقاً معبَّداً لا تعترضه الصخور والعقبات التي وضعتها قريش في سبيل الدعوة، وفي وجوه الدعاة، طوال هذه السنين.
وبهذه الهجرة انتقل ميدان الجهاد والكفاح في سبيل الدعوة الإسلامية من مكة إلى المدينة، وأصبحت يثرب مبعث الحركة والنشاط المحمدي، واتجهت إليها الأنظار، واشرأبت لها الأعناق.
وقد كانت هذه الهجرة حادثاً خطيراً وفاتحة انقلاب وتحول، ومفاجأة لقريش وللعرب كافة وكانت لها آثار عديدة من نواح عدة:
كان لها أثر من الوجهة السياسية، فقد مهدت لقيام دولة إسلامية، بدأت صغيرة ثم نمت وقويت، ولم يمض عليها قرن حتى بسطت سيادتها على بلاد الإمبراطوريتين، فارس والروم، وكان لها أثر من الوجهة الإصلاحية، فقد سهلت السبل لنشر الإسلام، وبث المبادئ القويمة التي جاء بها: من الحرية، والإخاء، والمساواة، والعدالة، والتوحيد. وكان لها أثر من الوجهة الاجتماعية؛ فقد بعثت على تشريع النظم والقوانين التي تنظم علاقة ولاة الأمر بالأمة، وعلاقة أفراد الأمة بعضهم ببعض، وتشريع أحكام الزواج والطلاق والإرث والعقوبات، وغيرها من الأحكام الحربية والسلمية التي ترمي كلها إلى منع العدوان ودفع الضرر والضرار.
وكان لها عدة آثار من عدة جهات لست في مقام إحصائها.
والذي أخصه بالبحث في هذا المقال هو أثر الهجرة المحمدية من الوجهة التشريعية.
من الثابت المسلَّم أن التشريع في أي أمة هو وليد حاجاتها، وأن القوانين والنظم إنما تسن في الأمة سداً لحاجاتها، وتنظيماً لما يقع فيها من الحوادث، وكلما زادت حضارة الأمة وكثرت حاجاتها وتنوعت معاملاتها وعقودها وتصرفاتها، نمت قوانينها واتسعت دائرة التشريع فيها.
وعلى هذا فلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين بمكة، لم تكن لهم حاجات تبعث على تشريع الأحكام وسن القوانين؛ لأنهم كانوا أفراداً قلائل مستضعفين وشخصيتهم فانية في الأكثرية التي تحيط بهم، والنظم التي يسيرون عليها هي نظم البيئة التي يعيشون فيها.
وكان همُّ الرسول صلى الله عليه وسلم موجهاً إلى أساس الدعوة، وهي العقائد والأخلاق، ولم يتجه إلى تنظيم إرث أو بيع أو زواج أو طلاق، أو غير ذلك من الجزئيات الثانوية بالنسبة إلى الأمر الكلي الجوهري وهو الإيمان بالله وحده، وباليوم الآخر، وترك الشرك والظلم، والوأد، واستعباد الناس.
ولهذا نرى سور القرآن المكية، وعددها ثلاث وتسعون سورة، وهي ثلثا القرآن بالتقريب، لا تتعرض لتفصيل التشريعات الجزئية، وأكثرها في العقائد والأخلاق، وما يتصل بها من قصص وسير، وما جاء فيها من تشريع فهو قواعد كلية تقرر مبادئ عامة لا تختلف باختلاف زمان أو مكان أو بيئة، مثل: [وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ] {الشُّورى:15}. ومثل:[ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ] {الشُّورى:13}. [وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالحَقِّ] {الأنعام:151}. ومن أراد المزيد من هذا فليقرأ الربع الأخير من سورة الأنعام:[قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ] {الأنعام:151} . هذا الربع المشتمل على تشريع كلي هو مثال التشريع المكي.
ولما هاجر رسول الله ومن آمنوا به إلى المدينة، واجهتهم شؤون ما كان لهم عهد بها، ووقعت لهم حوادث وطرأت عليهم طوارئ، اقتضت نظماً ما كانوا يعهدونها، وعاشوا في بيئة غير التي كانوا يعيشون فيها. وتهيأت نفوسهم لقبول ما لم تكن مهيأة له من نظم وإصلاحات؛ وعلى الجملة توافرت لهم مقدمات أمة ذات شخصية مستقلة، وتكونت هذه الأمة من أسر وجماعات متصلة المصالح والمعاملات، ولابد من وضع قوانين ونظم لتدبير علاقة الأمة بولاة أمرها، ولتدبير علاقات الأمة بغيرها من الأمم، وتدبير علاقة أفراد الأمة بعضهم ببعض، ولهذا كانت السنون العشر التي قضاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة من حين هجرته إلى حين وفاته، سنوات تشريع، وسن نظم وقوانين.
ولهذا نرى سور القرآن المدنية وعددها إحدى وعشرون سورة، وهي ثلث القرآن بالتقريب، تشتمل على التشريع التفصيلي: في الأحوال الشخصية من زواج، وطلاق، وإرث، ووصية، وحجر وغيرها، وفي المجموعة المدنية من بيع وإجارة، ورهن وشركة وتجارة ومداينة وغيرها، وفي المجموعة الجنائية من حدودها وغيرها، وفي القضاء والشهادة، وفي أحكام القتال والغنائم والصلح.
وعلى سبيل التمثيل نذكر بعض هذه التشريعات وصلتها بالهجرة المحمدية:
المعاهدات والمواثيق: لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن آمنوا به إلى المدينة المنورة واجهتهم حال ما كان لهم بها عهد، تلك هي أن المسلمين وجدوا أنفسهم بيثرب يعيشون مع اليهود، وهؤلاء اليهود لا تربطهم بالمسلمين رابطة الدين حتى يأمنوهم ويثقوا بأنهم يد معهم، ولهذا لما استقر المقام برسول الله صلى الله عليه وسلم بدأ بعقد الإخاء بين المهاجرين والأنصار، ثم أتبع ذلك بعقد معاهدة بين المسلمين واليهود، تعهد لهم فيها بأن يكونوا أحراراً في إقامة شعائرهم، آمنين على أنفسهم وأموالهم، وأخذ عليهم أن لا يعينوا عليهم عدواً، وأن يكونوا معهم ضد من يعتدي عليهم.
وكانت هذه المعاهدة معاهدةً الصداقة بين المسلمين وغير المسلمين في بلد إسلامي أول معاهدة إسلامية من نوعها.
ولما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه أن يزوروا البيت الحرام في السنة السادسة للهجرة، وهي عام الحديبية، وتعرض المشركون لهم بعد أن صاروا على مقربة من مكة المكرمة، انتهت المفاوضات بين الفريقين إلى عقد معاهدة قامت على أسس أربعة في ظاهرها غبن على المسلمين ولكن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أمضى هذه المعاهدة، وعاد هو وأصحابه من غير أن يزوروا البيت الحرام، وكانت هذه أول معاهدة عقدت بين المسلمين وأعدائهم، وأمر الله سبحانه باحترام العهود والمواثيق فقال سبحانه:[كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ] {التوبة:7}. وفي القرآن الكريم في سورة براءة وفي سورة النساء آيات عدة توجب احترام العهود، والوفاء بالعقود، والنهي عن الاعتداء على قوم بينهم وبين المسلمين ميثاق، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم. وأحكام الإسلام في احترام العهود والمواثيق آيات في العدل والوفاء.
والمعاهدة التي عقدها المسلمون في يثرب مع اليهود ما بدأ بنكثها إلا اليهود.
والمعاهدة التي عقدها المسلمون مع المشركين في الحديبية كان البادئ بنقضها هم المشركين.
القتال: لما أخرج المسلمون من ديارهم ظلماً بغير حق، وأذن لهم أن يقاتلوا ظالميهم الذين أخرجوهم من ديارهم وأموالهم، واشتبك المسلمون مع أعدائهم في الحروب ـ اقتضت هذه الحروب تشريع أحكام حربية يتبعها المسلمون من بدء القتال إلى نهايته؛ وأوجب الإسلام أن لا يبدأ القتال إلا بعد الدعوة إلى الإسلام، ونهى عن الغدر والأخذ غيلة، وقتال من لا يقاتل، وبيَّن أحكام الأسرى والغنائم وسن قانوناً حربياً يكفل الرفق والرحمة، ويدفع الشر والعدوان بمثله، وكما كان التشريع الإسلامي مثلاً أعلى في أحكام المعاهدات والمواثيق، كان مثلاً أعلى في أحكام الحرب والقتال.
التشريع الاجتماعي: من رحمة الله وعدالته أنه لم يفاجئ المسلمين بما يهدم نظمهم، ويغير حياتهم، بل أخذهم بالرفق والتدريج، فلما نصرهم الله بدر وظهرت لهم آيات تأييده ومعونته في مواقف عدة، وكمل إيمانهم، وانشرحت صدروهم، وتهيأت نفوسهم ـ شرع لهم الأحكام التي تنظم أحوالهم الشخصية، ومعاملاتهم المدنية، فبعد أن كان الرجل يتزوج أي عدد شاء من النساء إلى غير حد وبغير قيد، قصر إباحة العدد على أربع، وشرط لإباحة العدد الأمْنَ من الجور، فمن خاف الجور لا تحل له إلا واحدة.
وكان الزوج يطلق زوجته ما شاء من عدد الطلقات، فقصر عدد الطلقات ثلاث. وكان المورث قبل وفاته يملك أن يورث من شاء بواسطة عقد المحالفة والموالاة، وما كان للنساء نصيب في الإرث ولا للأطفال، فقصر أسباب الإرث على القرابة والمصاهرة ونعمة الإعتاق، وجعل للرجال نصيباً وللنساء نصيباً، وكان للدائن أن يسترق مدينه إذا أعسر عن أداء دينه، فقضى الله على هذا الظلم بقوله:[وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ] {البقرة:280}. وكان الدائن بواسطة الربا يأخذ دينه أضعافاً مضاعفة، فجرم الله الربا ومحقه، ومن استقرأ أحكام التشريع الإسلامي المدني، وقارن بينه وبين نظيره قبله، تبين أنها أحكام اقتضاها تطور حال المسلمين في حياتهم الجديدة بعد الهجرة، وتهيأت لها نفوسهم بكمال إيمانهم وقوة يقينهم، والتشريع العادل هو ما يساير تطور الأمة ويتهيأ له استعداد أفرادها وجماعاتها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجلة لواء الإسلام العدد الخامس من السنة الثالثة محرم 1369هـ=1949م

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين