أثر البعثة المحمدية

هذه خطبة خطبتها قديماً في مسجد جامع السلام بحلب وقد قام الأخ العزيز طارق عبد الحميد قباوة بإحيائها وكتابتها لتنشر على الموقع فأرجو الله أن يعمم النفع بها ويجعلنا أهلاً لحمل أمانة العلم .

من خطب جامع السلام بحلب الجمعة 12/ربيع الأول/1399هـ

الأمواج تتقاذف السفينة من كل جانب، والعواصف الهوجاء تلعب بها، والبحر الهادر الزاخر يكاد أن يلتقمها...:[أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ] {النور:40}.

في هذه الفترة الرهيبة المظلمة تهب نفحة من نفحات الرحمة الإلهية، تنقذ سفينة الحياة، برجل يقودها إلى ساحل النجاة، ويوصلها إلى بر السلامة والأمان، هنالك بُعث محمد صلى الله عليه وسلم ونادى صوت السماء:[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] {الأنبياء:107}.

إنه إعلانٌ فريد من نوعه، وإن سعة هذا الإعلان لا يمكن أن يمرَّ به الإنسان مراً عابراً سريعاً، فإن ساحته الزمنية، تحوي جميع الأجيال التي تتلو البعثة المحمدية ومساحته المكانة تسع العالم بأجمعه، فإن الله سبحانه وتعالى لم يقل إننا أرسلناك رحمة لجزيرة العرب، أو للشرق أو للغرب، بل إنه قال: [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] {الأنبياء:107}.

والرحمة لفظ شاع استعماله في حياتنا اليومية، وهو يطلق على كل شيءٍ ينال به الإنسان نفعاً وراحةً، أما أنواع الرحمة وأقسامها ودرجاتها فلا حصر لها، يقدم أحدنا الماء البارد إلى أخيه العطشان، ويدل المسافر والغريب إلى الطريق، كل ذلك من مظاهر الرحمة العامة، وألوانها المختلفة الزاهية.. ولكنَّ أكبر مظهر من مظاهر الرحمة، وأروعَ صورةٍ من صورها الجميلة أن ينقذ أحدنا أخاه من مخالب الموت، هناك طفل صغير بريء نراه في حالة الاحتضار، يكاد يلفظ أنفاسه الأخيرة، الأم تقف إلى جواره تبكي، قد أظلمت الدنيا في ناظريها، وانقطع أملها في فلذة كبدها، ومأوى حنانها وحبها، الأب يسعى هنا وهناك هائماً على وجهه فلا يجد راقياً وأنيساً، هنالك يأتي طبيب حاذق ويقول: مهلاً لا داعي للقلق، ولا موجب لليأس، ولا يكاد يلقي في فم الطفل قطرات قليلة من الدواء حتى يفتح عينيه وينشط، ماذا يقال لهذا الطبيب؟ ألا يقال له: إنه ملاك الرحمة، هنالك تتلاشى كل أنواع الرحمة التي قدمناها وتذوب أمام هذا المظهر الرائع الأخاذ من الرحمة.

ولكن آخر مظهر من مظاهر الرحمة، وقمتها وذروة سِنامها: هي أن ينقذ رجل الإنسانية من الهلاك، وهناك فرق عظيم بين هلاك وهلاك، وبين خطر وخطر، ذاك هلاك محدود، وخطر عابر، وهذا هلاك أبدي وخطر مستمر، لذلك فإن رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بالنوع البشري لا تقاس أبداً بغيرها من الرحمات رغم أهميتها وضرورتها.

إنَّ أمامنا بحر هائجاً مائجاً من الحياة لم يلتقم الأفراد والآحاد فحسب، بل إنه ابتلع الأمم والبلاد، وهضم الحضارات والمدنيات.

إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قاد سفينة الإنسانية إلى بر الأمان، في خضم هذا البحر الهادر الزاخر، الذي ترتفع أمواجه العاتية الهائلة كأفواه التماسيح الفاغرة، وتنقض على الجماعات البشرية كالأسد الضاري... فما هي أمواج هذا البحر، وما هي تماسيحه الضارية الشرسة إنها الجهل عن خالق الكون ورب العالمين وعن صفاته العليا، وأسمائه الحسنى، والوقوع في حبائل الشرك والوثنية وعبادة الأصنام، والاسترسال مع الخرافات والأوهام... 

إنها بلادة حس الإنسانية، وذهولها عن نفسها، وغفلتها عن خالقها وبارئها...

إنها عبادة المادة، وتعدي الحدود، وانتهاك الحرمات، والتهرب من أداء الواجبات ولقد صور القرآن العظيم الوضع الذي ساد على العالم قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم فقال سبحانه:[ وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا] {آل عمران:103}. وذلك ما شرحه لسان النبوة بمثال رائع بليغ. فقال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه البخاري ومسلم: «مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد ناراً، فجعل الفراش والجنادب يقعن فيها، وهو يذبُّهن عنها، وأنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنتم تفلَّتون من يدي».

الحقيقة التي لا مراء فيها، أن الإنسانية كلها مدينة للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه أنقذها من تلك الأخطار المحدقة التي سلطت عليها، كما أن هذا العصر الذي يعيشه وما يليه من الأدوار التاريخية القادمة، إنما هي من بركات البعثة المحمدية، لأنه رفع أولاً هذا السيف المُصلت على رقاب الإنسانية، ثم أغناها بمنح غالية، ومعطيات خالدة.

وأذكر الآن ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ ستة من معطياته الهامة، ومنحه الأساسية الغالية التي كان لها الدور الأكبر في توجيه النوع البشري، وإصلاحه وإرشاده، ونهضته وازدهاره، والتي أوجدت عالماً مشرقاً لا يشبه العالم الشاحب القديم في شيء.

مأثرته الأولى ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه منح الإنسانية عقيدة التوحيد الصافية الغالية، فهي عقيدة ثائرة معجزة، متدفقة بالقوة والحياة، مقلبة للأوضاع، مدمرة للآلهة الباطلة، لم تنل ولن تنال الإنسانية مثلها إلى يوم القيامة.

لقد كان هذا الإنسان يسجد لأشياء تافهة لا تضر ولا تنفع ولا تعطي ولا تمنع:[ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ] {الحج:73}. وكان يركعُ أمام أشياء صنعها بنفسه، ويخافها ويرجو منها الخير، وقضى حياتَهُ كلها بين هواجس ووساوس، وبين أخيلة وأوهام، وأمانٍ وأحلام، فعاش في جو من الجبن والوهن، والقلق النفسي، والفوضى الفكرية، وعدم الاستقرار فأغناه صلى الله عليه وسلم بعقيدة صافية نقية سهلة سائغة، باعثة للحياة، حافزة للهمم، فتخلص من كل خوف ووجل، وصار لا يخاف أحداً إلا الله، فتغير العالم في نظره، وصار مصوناً عن كل نوع من العبودية، وعن كل رجاء من المخلوق... إنها البعثة المحمدية التي أتحفت الإنسانية بهذه التحفة النادرة ـ عقيدة التوحيد ـ التي كانت مجهولة مغمورة مظلومة، فكانت هذه التحفة أغلى التحف التي سعدت بها الإنسانية بفضل مولده وبعثته صلى الله عليه وسلم.

ومأثرته الثانية العظيمة، ومنته الباقية في العالم، أن مولده كان مولداً للوحدة الإنسانية والمساواة البشرية، فقد كان الإنسان موزعاً بين قبائل وأمم، وطبقات بعضها دون بعض، وقوميات ضيقة، وكان التفاوت بين هذه الطبقات تفاوتاً هائلاً...

لم تكن هناك عند مولده فكرة عن الوحدة الإنسانية والمساواة البشرية إطلاقاً، فأعلن النبي صلى الله عليه وسلم بعد قرون طويلة من الصمت المطبق، والظلام السائد، ذلك الإعلان الثائر: «أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد كلكم لآدم وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم »... إنها كلمات خالدة جرت على لسان النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وحينما قام النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الإعلان التاريخي العظيم، لم يكن العالم في وضع طبيعي يسيغ هذه الكلمات الجريئة الصريحة ويطبقها، إن هذا الإعلان لم يكن أقل من زلزال هائل عنيف مزلزل لأفكار الجاهلية، ومعاقل الشرك والوثنية والعنصرية.

ولقد كان مولد محمد صلى الله عليه وسلم إعلاناً لكرامة الإنسان وسمو الإنسانية وشرفها وعلو قدرها، لقد بلغ الإنسان قبل البعثة المحمدية إلى حضيض الذل والهوان، فلم يكن على وجه الأرض شيء أصغر منه وأحقر، وكانت بعض الحيوانات المقدسة أكرم وأعز عند عبَّادها وأجدرَ بالصيانة والمحافظة عليها من الإنسان، فأعاد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إلى الإنسانية كرامتها وشرفها، ورد إليها اعتبارها وقيمتها، وأعلن أن الإنسان أعز وجود في هذا الكون، وأغلى جوهر في هذا العالم، فقد خلق له العالم، وهو خلق لله وحده:[هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا] {البقرة:29}. وأن الإنسان أكرمُ خلق الله:[وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا] {الإسراء:70}.

إنه إعلانٌ واضحٌ بسموِّ الإنسانية، وعلو مكانة الإنسان، وهل فاز الإنسان بهذه المكانة السامقة، في أي ديانة وفلسفة في العالم القديم والحديث، قبل أن ينهض النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الدعوة، دعوة الكرامة والإنسانية.

ولقد كان مولد محمد صلى الله عليه وسلم بعثاً للأمل والرجاء، والثقة والاعتزاز في نفس الإنسان... إن أكثر أفراد النوع الإنساني كانوا مصابين باليأس من رحمة الله، وبسوء الظن بالفطرة الإنسانية السليمة، فقد دانت الديانات القديمة بعقيدة التناسخ التي لا مجال عندها في إرادة الإنسان وتصرفه مطلقاً، بينما نادت المسيحية بأن الإنسان عاصٍ ومذنبٌ بالولادة والفطرة، فأنشأت هذه العقيدة سوءَ الظن، بنفوسهم، ويأساً عن مستقبلهم، وعن الرحمة الإلهية، هنالك أعلن النبي صلى الله عليه وسلم بكل قوة وصراحة، أن فطرة الإنسان هي كاللوح الصافي، الذي لم يكتب عليه بعد، ويمكن أن ينقش فيه أروع نقش، ويحرر فيه أجمل تحرير، وأن الإنسان يستحق الثواب والعقاب، والجنة والنار بعمله، وهو غير مسؤول عن عمل غيره وأنه مثاب ومشكور على سعيه [أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى(38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى(39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى(40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الجَزَاءَ الأَوْفَى(41) ]. {النَّجم}..

هذا الإعلان أعاد إلى الإنسان ثقته المفقودة بفطرته فانطلق في الحياة بعزم قوي وحماس زائد وعاطفة جياشة.

إن محمداً صلى الله عليه وسلم قرر أن المعاصي والذنوب، والأخطاء والزلات فترة عابرة زائلة في حياة الإنسان... وقد فتح أمام المذنبين الخطائين الغارقين في حمأة المعصية والرذيلة إلى آذانهم باباً واسعاً للتوبة، ودعا إليها الناس دعوة عامة، وشرح فضل التوبة شرحاً وافياً ولذلك سمي بنبي التوبة. ولقد رفع من شأن التوبة حتى صارت من أفضل العبادات، والقربات عند الله، وصارت طريقاً سهلاً للوصول إلى أقصى درجات القرب والولاية.

إن القرآن الكريم شرح فضل التوبة، وسعتها ونقاء الإنسان من أكبر ذنب، وأعظم معصية، ودعا العصاة والمذنبين إلى اللجوء إلى الله سبحانه، والفرار إليه، والتفيئ بظلال رحمته، والترامي في أحضان رأفته وعطفه، وصَوَّرَ بحارَ رحمته الزاخرة، الواسعة الأرجاء، المحيطة بالأنفس والآفاق تصويراً رائعاً جميلاً شائقاً مثمراً، يبدو منه أن الله سبحانه يحب التوابين ، ويشتاق إليهم واقرؤوا هذه الآيات، وتذوقوا أسلوب اللطف، وجوَّ الود الذي يغشاها:[قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ] {الزُّمر:53} .

وأكثر من ذلك وأروع ما نجد في الآية التالية حيث ذكر الله سبحانه جماعاتٍ مختلفةً من عباده الصالحين، فاستهل هذه القائمة المشرقة النورانية بالتائبين إنها آية من سورة التوبة:[التَّائِبُونَ العَابِدُونَ الحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآَمِرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ المُنْكَرِ وَالحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ] {التوبة:112}.

ثم أعلن القرآن أيضاً كمبدأ عام أن رحمة الله تسع كل شيء يقول سبحانه:[ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ] {الأعراف:156}. وجاء في حديث قدسي: «أن رحمتي سبقت غضبي» إنه جعل اليأس مرادفاً للكفر والجهل والضلال وبين ذلك على لسان يعقوب عليه السلام: [إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا القَوْمُ الكَافِرُونَ] {يوسف:87}. وذكر في موضع آخر قول إبراهيم عليه السلام:[قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ] {الحجر:56}.

وهكذا أسعف النبي صلى الله عليه وسلم ـ بهذه الدعوة المفتوحة العامة إلى التوبة، وبيان فضائلها وسعتها وشمولها ـ الإنسانية المذعورة الخائفة التي تئن تحت وطأة اليأس والقنوط، وترتعد فرائصها بإنذارات العقاب والعذاب... لقد منحها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فرصة جديدة جميلة من الحياة، ونفخ في قلبها الضعيف المتواني، وجسدها الهامد البارد روحاً جديدة، وحرارة جديدة، وهيأ لجروحها بلسماً ورفعها من حضيض التراب إلى أوج العزة والسيادة والثقة والاعتزاز، والاعتماد على الله عزَّ وجل.

كان مولد محمد صلى الله عليه وسلم مولداً لتوحيد الصفوف المتنافرة والمعسكرات المتحاربة.

وللجمع بين الدين والدنيا، لقد وزعت الديانات القديمة خاصةً المسيحية الحياة الإنسانية إلى قسمين: قسمٍ للدين وقسمٍ للدنيا، ووزعت هذا الكوكب الأرضي في معسكرين: معسكر رجال الدين، ومعسكر رجال الدنيا، وما كان هذان المعسكران منفصلين فحسب، بل حال بينهما خليج كبير ووقف بينهما حاجز سميك، وكان كل واحد يعتقد أن هناك خصومة وعداء بين الدين والدنيا، وأعظم هدية للبعثة المحمدية نداؤها الذي دوت به الآفاق أن أساس الأعمال والأخلاق هو الهدف الذي ينشده المرء والذي عبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بلفظ بسيط مقرب ولكنه واسع عميق (النية) فقال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه البخاري ومسلم:«إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» فإن كل عمل يقوم به الإنسان ابتغاء مرضاة الله، ولو كان هذا العمل تمتعاً بطيبات الأرض، وتحقيقاً لمطالب النفس، هو وسيلة إلى التقرب إلى الله، والوصول إلى أعلى مراتب اليقين، ودرجات الإيمان.

إن هذه المنة من مآثر سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أنه ملأ هذه الفجوة الواسعة بين الدين والدنيا، وجعل هذين المتنافرين المتباعدين، الذين عاشا في خصام دائم، وعداء سافر، وحقد مستمر، يتعانقان في ألف وود ويتعايشان في سلام ووئام، إنه صلى الله عليه وسلم علمنا هذا الدعاء المعجز الجامع الواسع:[ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ] {البقرة:201}. إنه أعلن بالآية القرآنية:[قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ العَالَمِينَ] {الأنعام:162}.

إنه صلى الله عليه وسلم قضى على نظرية الانفصال بين الدين والدنيا فجعل الحياة كلها عبادة، وجعل الأرض كلها مسجداً، وأخذ بيد الإنسان من معسكرات متحاربة متصارعة إلى جبهة واسعة من العمل الصالح، وابتغاء مرضاة الله، فترى هناك ملوكاً في أطمار الفقراء، وزهّاداً في زي الملوك والأمراء، جبال حلم وينابيع علم، عباد ليل، وأحلاس خيل، من غير تناقض أو اختلال أو تعسف.

لقد كان مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم إعلاناً بهداية الإنسان إلى محل لائق كريم، ورفعه إلى أجواء فسيحة عالية... كان الإنسان قبل البعثة المحمدية جاهلاً لهدفه الحقيقي، لا يدري إلى أين يتجه، وإلى أين المصير؟ فجاء محمد صلى الله عليه وسلم وجعل غايته الأخيرة هو معرفة فاطر السموات والأرض، والاطلاع على صفاته وقدرته وسعة ملكوت السموات والأرض والحصول على الإيمان واليقين، والفوز برضا الله عزَّ وجل.

لقد تغيرت الدنيا بعد مولد النبي صلى الله عليه وسلم وانتقلت الإنسانية من فصلٍ كله جَدْبٌ وخريفٌ وسموم وحميم إلى فصلٍ كله ربيع وأزهار، تغيرت طباع الناس، وأشرقت القلوب بنور ربها، وعمّ الإقبال على الله عزَّ وجل.

انتعشت القلوب الخاوية الضامرة الهامدة بحرارة الإيمان، واستضاءت العقول بنور جديد، وانتقشت النفوس بنشوةٍ جديدة، وخرجت الإنسانية أفواجاً تطلب الطريق الصحيح، وتحن إلى محلها الرفيع ومكانتها السامقة العالية.

بمولد النبي صلى الله عليه وسلم أفاقت الإنسانية واستيقظت وفتحت عيونَها بعد سبات عميق طويل دام قروناً طويلة، فأرادت أن تتدارك ما فاتها حتى عمر كل جزء من أجزائها وكل ركن من أركانها بدعاة ربانيين مخلصين، مجاهدين مصلحين مربين عارفين لله. باذلين نفسهم ونفيسهم لخير الإنسانية وإنقاذها من الخطر المحدق بها من كل جانب.

رجال أشعلوا مجامر القلوب الباردة، وأزكوا شعلة الحب الإلهي، وفجروا أنهار العلوم والمعارف وفتحوا ينبوعاً متدفقاً من العلم والعرفان والإيمان والحنان.

إن هذا الانقلاب العظيم والدور الزاهر الجديد معجزة من معجزاته صلى الله عليه وسلم ومأثرة من مآثر مولده وبعثته، ونفحةٌ من نفحات الرحمة الإلهية التي عمت الأمكنة كلها، والأزمنة كلها، وصدق الله العظيم: [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] {الأنبياء:107}.

نشرت 2010 وأعيد تنسيقها ونشرها 30/12/2019

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين