أثر الإيمان بالآخرة في تحقيق السعادة للفرد والأسرة والمجتمع

أطفالنا والعبادة (12)

أثر الإيمان بالآخرة في تحقيق السعادة للفرد والأسرة والمجتمع

بقلم: د. عبد المجيد أسعد البيانوني

 

إنّ عقيدة الإيمان بالآخرة هي أعظم أساس لسعادة الإنسان في حياته الفرديّة والأسريّة والاجتماعيّة، وهي أصل جميع فضائل الإنسان وكرامته وكمالاته. ولننظر في بيان ذلك بشيء من التفصيل فنقول:

إنّ الأطفال الذين يمثّلون نصف البشريّة تقريباً لا يمكنهم أن يتحمّلوا تلك الحالات التي تبدو أمامهم مؤلمةً مفجعةً من حالات الأمراض الشديدة، والموت وفراق الأحبّة إلاّ بما يجدونه في أنفسهم وكيانهم الغضّ الرقيق من القوّة المعنويّة، الناشئة عن الإيمان بالآخرة والجنّة.. ذلك الإيمان الذي يفتح لهم باب الأمل المشرق أمام طبائعهم الرقيقة التي لا تتمكّن من المقاومة والصمود، وتبكي لأدنى سبب.. فيتمكّنون بالإيمان بالآخرة من العيش بهناء وفرحٍ وسرور.. فيحاور الطفل نفسه، أو يحاوره والده أو المربّي: " إنّ أخاك الصغير أو صديقك الحميم الذي توفّي قد أصبح الآن طيراً من طيور الجنّة.. وهو يسرح الآن في الجنّة حيث يشاء، ويعيش أفضل من حياته هنا وأهنأ.. وستراه بإذن الله عندما تنتقل إليها.. ". 

ولولا هذا الإيمان بالجنّة لهدم الموت الذي يصيب أطفالاً أمثاله، وكذلك يصيب الكبار تلك القوّة المعنويّة لهؤلاء الذين لا حيلة لهم ولا قوّة، ولحطّم نفسيّاتهم، ودمّر حياتهم ونغّصها، فإمّا أن تموت أحاسيسهم، وتغلظ مشاعرهم، أو تحطّم نفسيّاتهم، وتشوّه شخصيّاتهم، وتدمّر حياتهم، ويصبحوا عناصر في المجتمع مشلولة العزيمة والإرادة..

فيا أيّها الوالد المربّي.!

حدّث طفلك عن الآخرة والجنّة بما يتناسب مع سنّه ومداركه، فذلك خير ما يعدّه لتحمّل شدائد الحياة ولأوائها.

والشباب المراهقون الذين يمثّلون محور الحياة الاجتماعيّة وعمودها الفقريّ، لا يهدّئ فورة مشاعرهم وسورتها، ولا يمنعهم من تجاوز الحدود إلى الظلم والتخريب، والعبث والفوضى، ولا يمنع طيش أنفسهم والانطلاق وراء نزواتها، ولا يدفعهم إلى السير الأفضل في علاقاتهم الاجتماعيّة إلاّ الخوف من نار جهنّم، وغضب الله تعالى ونقمته.. ولولا هذا الخوف لقلب هؤلاء المراهقون الطائشون الثملون بأهوائهم، وغرور قوّتهم وعافيتهم.. لقلبوا الدنيا إلى جحيم من الشرّ والفوضى، والبغي والأذى، ولحوّلوا الحياة الإنسانيّة الكريمة إلى حياة حيوانيّة سافلة، تعجّ بالشرّ والفساد، وكانوا شرّاً على أنفسهم ومجتمعهم والإنسانيّة كلّها..

والشيوخ والعجائز الذين أدبرت عنهم مباهج الدنيا ومتع الحياة، وأصبحوا كلّ يوم من أيام حياتهم القليلة الباقية على موعد مع الآلام والأمراض والمفاجآت، ويحسّون بالاغتراب عن الدنيا، وأنّهم ينتقلون من ضعفٍ إلى ضعف، ويقتربون من قبورهم رويداً رويداً، إنّهم أحوجُ ما يكونون في مثل هذه الحال إلى الشفقة والرحمة، والطمأنينة والسكينة، والشعور بالحياة الهادئة الهانئة.. لقد عادوا كالأطفال في ضعف القوّة وفتور الإرادة، مرهفي الحسّ والشعور، قد ضاقت عليهم الدنيا بما رحبت، وربّما تمادى بهم وضعف النفس والقوى إلى درجة من المرض واليأس لم يعودوا معها يطيقون البقاء في هذه الحياة، فيفكّرون بالانتحار، للتخلّص ممّا هم فيه من حال.. ولكنّ الإيمان بالآخرة، وما عند الله تعالى من النعيم والتكريم، وجزاء المؤمنين المتّقين، يأتي على أرواحهم كالبلسم الشافي، فيقوّي رجاءهم بالله تعالى، ويسمو بأرواحهم عن هذه الدنيا المدبرة الفانية، ويوطّد علاقتهم بالآخرة المقبلة المزدهرة، ويعقد آمالهم بالله تعالى، فيقوى تعلّقهم بالله سبحانه، وتوكّلهم عليه، وحسن ظنّهم بفضله وكرمه، وجوده وإحسانه، وهو القائل سبحانه كما في الحديث القدسيّ: " أنا عند ظنّ عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني.. ".

والأسرة التي هي دائرة الفرد وحصنه الحصين، ومحور المجتمع وركنه المتين، لا سعادة لأحدٍ فيها إلاّ بالاحترام الجادّ المتبادل، والوفاء الودود، والمحبّة الصادقة، والرحمة الدائمة والمودّة، التي يلقاها من الطرف الآخر.. ولا أمل في ذلك إلاّ أن تقوم على علاقة إيمانيّة تتّصل بالله تعالى ودينه وشرعه بأوثق العرا وأزكاها، وأجملها وأسماها، وأن تتّصل بالآخرة دار النعيم المقيم، والجزاء العظيم، فيحدّث الزوج نفسه:

" إنّ زوجتي هذه رفيقة حياتي، وستكون زوجتي في عالم الخلد والأبد، فلا ضير عليها إن أصبحت الآن عجوزاً ضعيفة، ما دامت تزداد بالله إيماناً وعملاً صالحاً، فإنّها تستوجب منّي كلّ رعاية وتكريم، ووفاء ورأفة.. "

وتحدّث الزوجة نفسها: " إنّ زوجي هذا رفيق حياتي، وسيكون زوجي في عالم الخلد والأبد، فلا ضير عليه إن أصبح اليوم شيخاً كبيراً ضعيفاً، ما دام يزداد إيماناً بالله تعالى وعملاً صالحاً، فإنّه يستوجب منّي كلّ رعاية وتكريم، وخدمة وعناية، ووفاء ورأفة.. "

وهكذا لا تزداد العلاقة بين الزوجين على تطاول الأيّام والسنين إلاّ وثوقاً ورسوخاً.. بخلاف أولئك البهائميّين الذين لا يعرفون العلاقة الزوجيّة إلاّ علاقة جنسيّة شهوانيّة، فإذا ضعف أحد الطرفين أو مرض تخلّى عنه الطرف الآخر، وتنكّر له، وذهب يبحث عن سبل أخرى لقضاء لذّاته ونزواته، ونسي ما كان يدّعي من المحبّة والمودّة.. وربمّا كان من أحد الطرفين من البغي على الطرف الآخر والغدر به، ما تأباه الحيوانات العجماوات، وتأنف عنه..

إنّها الأنانيّة القاتلة التي تفرضها الحياة المادّيّة، التي لا تعرف حياة الروح ولذّتها وأشواقها، بل إنّها تحاربها، ولا تؤمن بها..

وهكذا ترشح سعادة الحياة الأسريّة على علاقة الرحم والقرابة، وتتضوّع أنسام المودّة والرحمة في أرجاء المجتمع المسلم وأنحَائه، وتتقلّب الأمّة في بحبوحة السعادة الوارفة وظلالها، ونسمات الجنّات ورياضِها، وتِلكَ عاجل سعادة المؤمنين في هذه الحياة، قبل الانتقال إلى الدار الآخرة وما فيها من النعيم والتكريم..

أفليس في هذه الحياة الكريمة المطمئنّة ما يقدّم للعقلاء ذوي الألباب والبصائر دليلاً على الحياة الآخرَة أشبه بالدليل المادّيّ المحسوس.؟! {إنّ في ذَلِكَ لَذِكرَى لمَن كَانَ لَه قَلبٌ، أو ألقَى السمعَ وَهُو شَهِيدٌ (37)} ق.

فليلق السمعَ علماءُ الاجتماع والسياسة والأخلاق، من المعنيّين بشئون الإنسان وأخلاقه واجتماعه، وليبيّنوا لنا:

بماذا سيملأون هذا الفراغ القاتل.؟

وَمَاذا قدّموا لإسعاد الإنسان، وإنقاذه من شقوته وحلّ مشكلاته.؟

وماذا ينتَظرون من البلاء الداهم على البَشريّة.؟!

وبماذا سيداوون هذه الجروح الغائرة العميقة، التي لا تزداد مع الأيّام إلاّ تقيّحاً وعمقاً.؟!

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين