أبي كما عرفته (9-10)

عاطفة الرحمة على الشاردين

هكذا شأن ورثة نبيِّ الرحمة، يتفطَّرون رحمة على العباد، كما قال تعالى :[فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ] {آل عمران:159} .

وعن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « أنا محمد، وأحمد، والمقفى، والحاشر، ونبي التوبة، ونبي الرحمة » أخرجه مسلم وأحمد. زاد الطبراني : «ونبي الملحمة»(1) أي الجهاد.

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء» أخرجه الترمذي وأبو داود.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « لا تنزع الرحمة إلا من شقي» أخرجه الترمذي وأبو داود.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « إنَّ لله مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الجنِّ والإنس والبهائم والهوام، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحوش على ولدها، وأخَّر الله تسعاً وتسعين رحمة، يرحم الله بها عباده يوم القيامة»(2).

قد يعجب القارئ حين أقول : إنَّ أبي في كثير من مواقفه كانت تغلب رحمته، وفيوضات قلبه الرؤوم، رحمة أمي. ليس معنى هذا أن أمي على تفطر قلبها عليَّ وعلى إخوتي، عبر سنوات العناء واندفاع الرمضاء، التي مرَّ بها أبي، كانت تقل عنه، في هذا الجانب، بسوى أن رحمته كان تفيض بمدى فهمه عن الله تعالى في تصرُّفه في شؤون خلقه، فأحسَّ لها طعماً نقاءً، تتجلى في نبرات صوته، وجهيش بكائه، وحنين نظراته.

وعلى مثيل هذه الإفراغات التي كنت أشهدها، تتهدَّب تفطراته على الشاردين عن باب الله تعالى، إذ يعنُّ له ذكرهم، أو تهدُّ حمائلهم رهيف فؤاده.

قد اجترح على قبس من قوله تعالى : [وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآَخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ] {الأعراف:156}.

وعن عمر رضي الله عنه قال: « قدم على النبي صلى الله عليه وسلم بسبي، فإذا امرأة من السبَّي تسعى قد تحلَّب ثديها، إذ وجدت صبياً في السَّبي أخذته فألزقته ببطنها، فأرضعته، فقال صلى الله عليه وسلم : أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟ قلنا: لا والله، وهي تقدر على ألا تطرحه، فقال: الله أرحم بعباده من هذه المرأة بولدها» متفق عليه.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لما خلق الله الخلق كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش، إنَّ رحمتي تغلب غضبي» أخرجه الشيخان والترمذي(3).

وفي صباح أحد الأعياد، حين كان عمري لا يزيد على ثمانية أعوام، كان أبي يخطب خطبة العيد، كان إلى يساري ـ ليس ببعيد عن المنبر ـ شاب من ذوي المهن، قد تجمَّل بثياب العيد، ولكن قد أنجب محيَّاه ويديه أثر الكدِّ، استجمع مُطرِقاً يستمع، إذ خامره توجُّهات أبي على الحضور، مع نفحات قلبه الرؤوم، فانجابت نهضات الرحمة عليه، فانفجر يبكي ويبكي مكفكفاً دموعه بكفيه.

لربما كان مما يساور المرء من شعور التفريط في جنب الله جل وعلا، أو لربما كان من خاطر آخر تملكه مساس بما يعتري المسلم أثناء تسهُّده الموعظة في رحاب المساجد، أو لإعنات نفسه، أو لفقدان رُواء روحه، أو لتملظه لرحمات الله، أو شوقاً إليه، أو خوفاً من مقامه، أو استنهاضاً للهمة بعد فترات تقاعس، أو أرغدَه هذه التناثرات، كلاً أو بعضاً، فأخذني حال أبي وحاله، وما زال على دأبه في البكاء طيلة الخطبة وإلى أن تقابل الناس، يُسلِّم بعضهم على بعض مهنئين بالعيد، ثم خارجين من المسجد، ولا أبالغ إذا قلت :إني ما زلت على تقلُّب الأيام، يسيطر هذا المشهد على حمائل روحي كلما تذكرته، حتى ساعة بدأت كتابة هذه الخطرات، فقد غلبني البكاء، حتى انقطعت عن الكتابة.

وقد كان ـ رحمه الله تعالى ـ يقول ـ حين يذكر الشاردين الغارقين في المعاصي ـ : إن هؤلاء، أي ممن لم تأخذ منهم الأفكار الإلحادية مأخذها، تتأتَّى توبتهم، وتتزلَّف إنابتهم إلى الله تعالى من غير ما عناء، لأنهم معترفون بتقصيرهم في جنب الله سبحانه، فهؤلاء :[ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ العَامِلِينَ] {آل عمران: 135ـ136}.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع...»(4).

وعن أبي أمامة صُدي بن عجلان الباهلي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ليس شيء أحبَّ إلى الله تعالى من قطرتين وأثرين : قطرة دموع من خشية الله، وقطرة دم تُهراق في سبيل الله، وأما الأثران : فأثر في سبيل الله تعالى، وأثر في فريضة من فرائض الله تعالى ». رواه الترمذي.

وعن عبد الله بن الشِّخِّير رضي الله عنه قال: أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم  وهو يُصلي، ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء ». رواه أبو داود والترمذي.

وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بن كعب رضي الله عنه :«إنَّ الله عزَّ وجل أمرني أن أقرأ عليك : [لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا] {البيِّنة:1} قال: وسمَّاني؟ قال: « نعم » فبكى أُبيّ» متفق عليه، وفي رواية : فجعل أبي يبكي(5).

وهذا بخلاف أولئك الذين نصبوا أنفسهم لمعاداة الإسلام وأهله، وقد أخذ منهم الغلو مأخذه، من أصحاب المذاهب الهدَّامة، فأحكمت على قلوبهم بطوق الإعنات، وإعْظاب الكبْر، وأصرُّوا على ما هم فيه بتزييف شياطين الإنس والجن، نسأل الله تعالى السلامة والعافية بمنَّه وكرمه آمين.

هذا وأختم الكتاب بإضافة كلمتين ندب إليهما القلم في السنوات التي أعقبت وفاته: 

الأولى : تحت عنوان: «تنهدات ونجوى».

والثانية : تحت عنوان: «عبرة ».

لكنه ـ على تهافت الزمن، واضمْحلال شؤون، وتكوُّر حادثات ـ قد أجريت بعض التحويرات والتنويهات، انتهاضاً بما قد أُسعِف من غابرات، والله تعالى الموفق لحُسن الاحتذاء، وهو الهادي لخير سبيل.

* * *

الحلقة الثامنة هنا

=========

(1) الجامع الصغير ص161. 

(2) جمع الفوائد ج3ص104ـ105. 

(3) جمع الفوائد ج3ص104ـ105. 

(4) هو جزء من حديث أخرجه الترمذي : رياض الصالحين للنووي ص209. 

(5) رياض الصالحين، ص210ـ211.