أبى المسألة ففتح الله عليه باب غنى

أبى المسألة ففتح الله عليه باب غنى

 

محمد محمد الأسطل

قال محمد بن حاتم لأبي بكر الوراق: عَلِّمْنِي شيئًا يقربني إلى الله تعالى ويقربني من الناس، فقال:

أما الذي يُقَرِّبُكَ إلى الله تعالى فَمَسألَتُه، وأما الذي يُقَرِّبُكَ من الناس فترك مسألتهم!

حدثني من أثق بدينه وإخلاصه وصدقه أن الله تعالى منَّ عليه بمنحةٍ جليلةٍ في هيئة مِحنةٍ ثقيلة، فَدَخَل سجون الاحتلال الصهيوني بضعَ سنين، وشاء الله تعالى أن يجالس شيخًا قعيدًا مريضًا في نفس السجن، لمدة تقترب من سنواتٍ أربعةٍ، ولازمه في زنزانة واحدة لمدة [45 يومًا]، وكان الشيخ القعيد هو الشيخ أحمد ياسين!

وإليك المأثر بلسان فارسه:

       قال صاحبي: لازمت الشيخ في زنزانته فوجدت أمرًا عجبًا!

       رأيت حشودًا من البلايا والرزايا ابتلى الله بها هذا العبد، فقد حُكِمَ عليه بالسجن ما يزيد عن [300 سنة]، وهو يبتسم كأنَّ مَا به بَأس، ثم إنه مشلول الجسد كله، لا يتمايل فيه إلا رأسه، وحتى رأسه كله لم يسلم، فقد جاءنا طبيب العيون يُعالِجُ الشيخَ، فقال له وهو يُطَبِّبُه: أَتَرَى ولو مِثقَال ذرة بعينِكَ اليُمنى؟! فقال الشيخ: لا!

       فَدُهِشْتُ وتَنَكرت للشيخ بعد خروج الطبيب، وقد اشتطت غضبًا بمستوى غير مسبوق في حياتي، كيف أُلازِمُهُ ولا يُخبِرُني بعماه؟! فقلت له: يا شيخ، لِمَ لَم تقل لي؟!

       فقال الشيخ بهدوء جم: ليش أقول لك؟!

       فقلت: إنك تعاني، وأنا أود إعانتك يا رجل!

       فقال: إنك الآن عرفت، فماذا ستفعل لي؟!

       فَسَكَتُّ؛ إذ لا إجابة! ثم قلت له: سَأُفَتش الآن جسدك؛ لأعرف كل مرضٍ أصابك!

       وما هي إلا لحظات إلا والفجأة تجتاح كياني، فقد وجدت مرضًا صعبًا يعاني الشيخ منه ما يعاني، وهو ساكتٌ لا يتكلم، وَعَجِبْتُ أن معه دواء من الطبيب، عبارة عن " مرهم ليدهن به مرتين يوميًا " فلما عاتبته أخبرني أنه يستحيي أن يشكو داءَهُ لأحد، فَدَهَّنْتُ له أسبوعًا، ثم طلب مني التوقف، وبعد إلحاح تبين لي أنه لم يبرأ، إلا أنه يتثاقل أن يُتعِبَ إخوانه معه!

       ولك أن تتخيل أن المرض الذي وجدته ليس المرض الوحيد، فعلمت منه بعد معتبتي له أنه مريض بالباسور والناصور والالتهاب المزمن بالقصبة الهوائية، وأنه إن أكل لابد من مكث [4 ساعات] بعدها لا ينام؛ ذلك أن معدته لا تعمل إلا في يقظته!

       فجلست أتأمل حال الشيخ، وأن الله ابتلانا بزنزانة قاسية، كانت في جناح منفصل من السجن، وتحت الدرج، وإمكانياتها عديمة، حتى إن اليهود عاقبوا قاتل رابين بِحَبْسِهِ فيها، وكانت إدارة السجن لا تقدم لنا أي خدمة، ويأبى الشيخ أن يطلبهم شيئًا، أو أن يطلب أحد من إخوانه باسمه شيئًا، فإذا ناقشناه قال: لا نريد أي شيءٍ منهم! ولك أن تتصور أنه لم يطلب أي حاجة منهم طيلة السنوات التي عاشها أسيرًا!

       بل لما أتاه ضابط الموساد يومًا في زنزانة العذاب فقال: أتيتك بصفقة ثمينة، سنطلق سراحك مقابل أن تسلمنا جثة الجندي الصهيوني المختطف "سعدون" فقال الشيخ: أنا لا أقبل على نفسي أن يفرج عني، في مقابل جثة لا قيمة لها ولا وزن!

فتأملت حال هذا الرجل، وشعرت أن النَّفْسَ تتلاشى وتختفي أمام عظمة صبره على بَلِيَّتِه! وفي تلك الأيام كنا نسمع بمؤتمر مدريد، وخطورته على القضية الفلسطينية، فسألت الشيخ: هل أنت خائف؟!

فقال لي في كلمات باهرة زاخرة نادرة:

يَا بُنَي، إِنَّنَا لَم نَجِدْ ابْتِلاءً بَعْدُ!!

فقلت: يا الله! أيُّ عبدٍ هذا؟! إنه لا يشكو من أي أمر، وهو يحتاج لكل أمر!

إنَّهُ تَجاوَزَ عائق الشكوى، ويأبى أن يسأل أحدًا من العباد شيئًا! ووالله إن الظروف الجسدية والنفسية تجعل معيشة البهائم أفضل حالًا منه، لكنه يتكلم بثقة بالله فريدة، وتشعر بجلوسك معه بضع دقائق أن حكمه [300 عام] كأنها أيامٌ ثلاثة، بل كأنه يخرج اليوم أو صبيحة الغد!

       ويعلم الله تعالى أن كلمته هزتني هزًا عنيفًا، أجد أثرها في قلبي ليومي هذا، وقررت بعدها ألا أشكو أمرًا إلا لله رب العالمين!

       ويشاء مالك الكون، ذو الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة أن يخرج الشيخ من سجنه بعد أيام، في صفقةٍ نادرة، وتَجَوَّلَ على عددٍ من الدول الإسلامية، وشاء الله أن يُعالِجَ ثلةً من أمراضه فيها!

       فلما خرجت من السجن ابتلاني الله بِمَرضٍ شديد، واستوجب السفر إلا أنني مَحرومٌ مِنْهُ، فلما ساءت الحالة، وخشي الطبيب حُلولَ التسمم، قال لي: لابد من تدارك الأمر!

       فَعُدتُ لِبَيْتِي، وَرَتَّبْتُ حَياتِي مَع الله، وَبَعدَ أيامٍ عشرة شَعرتُ بِحُضُورِ قَلبِي في مُناجاةِ الله، وأيقنت أن أبواب السماء مفتوحة، وكان يوم جمعة، فدعوت الله ألا يأتي رمضان إلا قد عافاني، وكان بيني وبينه [3 أشهر]، وفي ذات اليوم اتصل بي من يخبرني بإمكانية السفر، وكان أمرًا نادر الحصول!

       فاتصلت بطبيب في إحدى الدول؛ ليخبرني أن تكلفة العملية [35 ألف دولار]!، فلم أَشْكُ حالتي لأحد، وشاء الله أن يسألني أحد زملائي في العمل عن تكلفة العملية، فلما أخبرته ذهب يلتمس من رئيس مجلس إدارة الشركة المُسَاهَمة، فكان رد الرئيس غريبًا باهرًا، فقال له:

أَخْبِرهُ أن يَتَّصِلَ بطبيبه في الدولة التي سَيَذهب، لِيُخْبِرَهُ بالتكلفة التي يطلب

وأنا سأتكفل بها كاملة وافية إن شاء الله تعالى!

وشاء الله تعالى أن أُعَالَجَ مَجانًا دون أن أَشْكُو، وقد آتت تربية الشيخ أحمد ياسين أُكُلهَا، فذهبت، وأجريت العملية بِنَجاحٍ ميمون، ولا أنسى قط أنني عدت في يوم [22/11/1999 م] وقد شُفِيتُ تمامًا، وكان تالي اليوم الذي وصلت فيه مُعافى أول أيام شهر رمضان المبارك، وقد استجاب الله الدعاء!

نسائم الروح

كَانَ الصدِّيقُ رضي الله عنه لا يسأَلُ الناسَ شيئًا، فَنَزَلَ فيهِ قولُه تَعالَى: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل: 19-21] وحتَّى نبيُّهُ صلى الله عليه وسلم ليسَ لهُ عِنْدَهُ نعمةٌ تُجزَى؛ إذ إِنَّ أجرَهُ الدعوي عَلَى الربِّ، لا مِنَ العَبْدِ!

2- ومع النورسي حكاية عجيبة:

إنه بديع الزمان سعيد النورسي العالم التركي المجاهد [ت.1960م]!

رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، وسأله أن يدعو الله أن يُفَهِّمَهُ القرآن، ويرزقه العمل به، فبشّره الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بذلك، قائلاً له:

" سَيُوهب لك علمُ القرآن، شريطةَ ألا تسأل أحدًا شيئًا "!

وأفاق النورسي من نومه كأنما حِيزت له الدنيا، وآلى على نفسه ألا يسأل أحدًا شيئًا؛ استجابةً حرفيةً لِشَرطِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فآتاه الله فَهمَ القُرآن، ومنَّ عليه بتأليف جملةٍ من الرسائل فيه، وله تفسيرٌ مَوسومٌ ب {إشارات الإعجاز} فراجعه إن أردت أن يُبْسَطَ لك في علمك!

وشاء الله تعالى أن يكون الإمام النورسي من أعلام العمل بالقرآن، فكان –كما يقال- قرآنًا يمشي على الأرض، ورزقه الله قوة الحجة به، فكان يتكلم دون أن يخشى في الله لومة لائم، أو مَسَبةً من رَاجِم!

بل إن رأس العلمانية مصطفى كمال أتاتورك تمنى أن يكون في صَفِّهِ، فلما قدم النورسي أنقرة في عام [1922 م] ودخل على نواب الشعب، ولاحظ أن أكثرهم لا يصلون، راح يصدر بيانًا استهله بقوله:

يا أيها المبعوثون.. إنكم لمبعوثون ليوم عظيم!

فقام [60 نائبًا] وأدوا فريضة الصلاة!

 فاشتاط أتاتورك غضبًا قائلًا له: لا شك أننا في حاجة أستاذ قدير مثلك، نستفيد من رأيك، لكن أول جهودك كانت بَثَّ الفرقة بين أهل المجلس، بِحَدِيثك عن الصلاة!

فرفع النورسي يده بحدة وقال: باشا.. باشا.. إن أعظم حقيقة تتجلى بعد الإيمان هي الصلاة، وإن من ترك الصلاة خائن، وحكم الخائن مردود!

فأبعده أتاتورك عن العاصمة، وَعَيَّنَهُ واعظًا للولايات الشرقية، بِمُرتبٍ عالٍ، فرفض النورسي الوظيفة والراتب، وعاش علمًا باستغنائه عن الناس!

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين