أبو القعقاع -11-

 

#الصندوق_الأسود

من أنت ؟

بعد أن شرحت من وجهة نظري في ماذا حصل في قصة أبو القعقاع وكيف استطاع اصطياد الشباب وتجنيدهم لمشروع آل الأسد وأغلبهم شباب بريء مخدوع، وحتى لا تتكرر المأساة مرة أخرى كما يحضر لها الآن يجب أن يكون عندنا شاب محصن من الوقوع في الأفخاخ المنصوبة حوله لتسرق منه وقته وماله وشبابه وحتى حياته لصالح مشاريع تدمير له ولبلده، وهذا يفرض على هذا الشاب أن تكون عنده هوية وشخصية مستقلة ومحصنة عن الانجرار وراء كل داعي أو مشروع مشبوه، وهذا يقتضي منه معرفة إجابة الأسئلة الثلاثة التي تُعرِّف الإنسان بنفسه وهي : 

من أنت ؟ ماذا تريد ؟ كيف تحقق ما تريد ؟

ولنبدأ بسؤال من أنت ؟

وهو السؤال الأهم والمفصلي في حياة البشر

وأول سؤال في تعريف هويتك أن تعرف ما هي الغاية من وجودك في هذه الدنيا، ومن أوجدك ولماذا؟ وبالتالي ما هي الطاقة أو القوة التي تستمد منها قوتك حتى تقوم بكل ما تقوم به من أعمال وواجبات في حياتك ؟

فهل سألت نفسك يا أخي هذا السؤال يوما ؟

وفي إجابة هذا السؤال يظهر التمايز بين المعتقدات والأديان والبشر، فنحن كمسلمين من أعظم نعم الله تعالى علينا أن بين لنا سبحانه في كتابه المنزل إلينا والذي ليس عندنا شك نهائيا أنه كلام الله تعالى الذي أوصله لنا سيدنا محمد والذي نملك دلائل تاريخية ولغوية وعلمية قاطعة أن هذا ما حصل قبل 1400 سنة، وهذا الكتاب بين لنا الغاية من خلقنا وعملنا وموتنا، وبالتالي دلنا على مصدر الطاقة التي نستمد منه حياتنا وقوتنا واندفاعنا وهو الله تعالى خالق الكون بما فيه .

بينما الكثير من الأديان والمعتقدات في الغرب والشرق تختلف في فهم ما هي الغاية من الحياة والخلق، والمنتشر في عالم اليوم هو تأثير الفكر الغربي العلماني الذي لا يعترف بوجود الله، والذي يؤثر على عقول الشباب بقوة، بحكم أننا نتعرض من الطفولة وفي كل مراحل العمر لكثير من منتجات الفكر والحضارية العلمانية السائدة والقائمة على فهمهم الخاص والبعيد طبعا عن التصور الإسلامي، والسبب لقوة انتشار هذا الفكر هو امتلاكهم للأدوات القوية في عرضه عبر التلفاز والكتب والدورات ولو بشكل غير مباشر، ولكنه يشوش علينا كمسلمين فهم الغاية من حياتنا، ويصبح موضوع التوحيد لله تعالى في فهمنا سطحيا جدا وغير فعال ومؤثر في تصرفاتنا، بينما المفروض أننا كمسلمين الأمر واضح جدا في عقولنا وقلوبنا ويمدنا بالطاقة في تصرفاتنا واختياراتنا، ونتيجة لتشوش الهوية يصبح الشاب ضائعا فهو ليس حاملا للفكر الغربي بشكل كامل بحسناته وسيئاته (ولا أنفي أن للفكر الغربي حسنات ويُنتج نوعا من الأفكار والطاقة ولكن له سيئات كبيرة أيضا يسببها البعد عن التوحيد لله) ولا يمكن للفكر الغربي العلماني أن يصبح مستقرا في عقل الشاب المسلم ويتبناه كاملا، والسبب أنه يعارض فطرته ونشأته وبيئته، ولا هو أيضا بنفس الوقت متبني للفكر الإسلامي بشكل واضح وكامل، والذي كان من المفروض أن يتلقاه من خلال البيئة التي ولد وعاش فيها بين المسلمين، 

فيكون عندنا بالمحصلة إنسان ضائع مشتت، وهنا مكمن الخلل والثغرة التي تدخل منها كل الشرور فأنت عندما لا تعرف ما هي هويتك ومن أنت، لا تستطيع أن تعرف ماذا تريد من هذه الدنيا وبالتالي كيف تصل لأهدافك وما هي الطريقة والقيم التي تحكم أعمالك وتصرفاتك.

ويشرح القرآن الكريم الغاية من خلق الكائنات العاقلة التي تملك الاختيار في قوله: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون  * ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون)

والعبادة مفهوم شامل يعني كل عمل يقوم به الإنسان ويقصد منه ابتغاء وجه الله تعالى وحده، بالتالي هذا يشمل صلاتك أو عملك الذي تكسب منه رزقك أو تبرعك للمال أو حتى مجرد اهتمامك بأي أمر واعطائه من وقتك، وأي تصرف صغير أو كبير في يومك وليلتك 

بينما الفكر العلماني الغربي فيقول لك أن الهدف من أي عمل تقوم به هو نفسك و ذاتك ومتعتك وسعادتك الشخصية فالغاية هي أنت كفرد وهذا هو مذهب الفردية المنتشر.

والفرق بين التصورين أن المسلم يستمد قوته من الله تعالى مباشرة، لأنه يقوم بكل عمل في سبيله وحده سبحانه، بينما يعتقد التصور العلماني أنني أقوم بأي عمل في سبيل نفسي ومتعتي وذاتي فقط، فحتى لو أعطيت فقيرا المال فهو لأن هذا يشعرني بالسعادة والرضا في داخلي وإرضاء لذاتي وحاجتها للشعور بالعطاء والتفوق، ولكن في التصور الإسلامي أنا أعطيه لوجه الله وحده خالصا والذي سيمدني حقيقة بأكثر مما أتخليه وأطلبه من رضا وسعادة وتوفيق جزاء لعملي.

ولك أن تتخيل الفرق بين التصورين، بين أن تستمد قوتك من قوة الله ومدده وبين قوة الإنسان وطاقته الذاتية، وسأروي لك حديثا قدسيا يعطيك لمحة عن المزايا التي يمكنك الحصول عليها في حال اتباعك للمصدر الحقيقي للطاقات

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:  (إن الله تعالى قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب? وما تقَّرب إلي عبدي بشي ٍء أحب إلي مما افترضته علي? وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به? وبصره الذي يبصر به? ويده التي يبطش بها? ورجله التي يمشي بها ?ولئن سألني أعطيته ولئن استعاذني لأعيذنه).

فكل ما هو مطلوب منك أيها العبد أن تقوم بالفرائض وهذه بداية حصول الرضا منه سبحانه، ولكن عندما تزيد في العمل الصالح والنوافل وهي كل الأعمال المفيدة للبشر (وليست فقط نوافل العبادات) سيزداد قربك من الله وحبه لك، قال رسول الله: الخلق عيال الله فأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله.

وفي حال وصلت لمرحلة متقدمة من حب الله لك، ستكون من أوليائه الذين يعلن حمايته لهم والحرب على من يعاديهم، ويعلن أنهم يستمدون طاقتهم من الله سبحانه مباشرة، فيكون يدهم اي قوتهم، ورجلهم أي تحركاتهم، وبصرهم أي رؤيتهم للأمور، ولو سألوه فهو سيجيب طلباتهم كاملة كما حصل مع جيل الصحابة وأجيال أخرى لاحقة حققت الانجازات الهائلة في فترة قصيرة.

وتصور الهوية والذات عند الإنسان قد يظنه البعض أمرا ثانويا، بينما هو حقيقة ما يشكل الحضارات ويوجه مسارها، فهناك فرق بين أن تكون كل اختراعاتك وانتاجاتك تستهدف رضا الله ونفع البشر كما كان المسلمين في الماضي، فقد اخترعوا العلوم وطوروا الطب والهندسة والرياضيات والفلك، ونشروا هذه العلوم في كل الدنيا، وبين حضارات الغرب والشرق اليوم والتي تخترع القنابل لقتل البشر والنووي لتدميرهم تماما، وتلعب في الجينات الوراثية للأكل والغذاء لتحتكره وترمي في البحر الفائض منه، ولا تستخدمه لإطعام البشرية الجائعة، ونراهم يخترعوا الأدوية للربح التجاري وليس لإنقاذ ملايين الأطفال الفقراء الذي يموتون سنويا لأنهم لا يملكون حبة دواء لا تكلف شيئا بالنسبة للدول الكبرى هذه، وتستنزف صناعاتهم البيئة ومواردها من أجل مزيد من الثراء والرفاهية الزائدة، وهكذا كل اختراع وانتاج بشري يتحدد مدى الاستفادة منه وتجنب مضاره من خلال معرفة الغاية منه والهدف هل هو رضا الله أم إرضاء النفس ونزواتها.

ونحن في عالم اليوم يستخدم الإنسان الاختراعات بعكس المرجو منها فيستخدم المال للربا الفاحش والسلاح لإذلال البشر وقتلهم، والتطور التكنلوجي والإعلامي للتحكم بالناس وعقولهم، وهذا لا ينفي حصول النفع في البشرية من بعض هذه المخترعات، ولكن المشكلة هي ضياع البوصلة في كثير من الأحيان عن الهدف من هذه الأعمال هل هو المنفعة الشخصية الذاتية، أم هو رضا الله والإخلاص له سبحانه ونفع عباده، وهذه هي حقيقة التوحيد ومعرفة الله الذي جاء دين الإسلام لشرحها وكذلك كل الأديان الأخرى التي نزلت عبر العصور.

ولو استطعنا أن نوصل حقيقة التوحيد وتعريف الهوية للشباب المسلم فهذا سيكون بداية انقلاب كبير في الأفعال والتصرفات وحتى ردود الأفعال لهم، وسيعرفون بشكل واضح ماذا يريدون من هذه الحياة وما بعد الحياة وهي الحياة الحقيقية والأبدية، وما هي الطريقة الصحيحة للوصول إليه.

وحتى نفهم الصورة واضحة وماذا حصل في تجارب أبو القعقاع وداعش وأمثالها فلقد تم استغلال نفس هذه المفاهيم الكبرى للتوحيد والطاقة الهائلة الناتجة عنها، ولكن ليس لتعريف الإنسان بمن هو وما هو هدفه ومشروعه الحضاري في الحياة، ولكن لتسخيره لهدف آخر تدميري تحت غطاء أننا تعرضنا للظلم والسرقة والإذلال من بعض القوى العالمية، وبالتالي الرد هو تدميرهم وتدمير كل شيء في حضارتهم، وأننا لو دمرنا لهم حضارتهم وكما عبر عنه البغدادي يوما (احتلال روما وسبي نسائها)، فبرأي فكر أبو القعقاع والبغدادي هذا يجعلنا ننتصر ونبني حضارة كبيرة ومستقرة ونعود بالإسلام إلى مجده السابق، وهذا كلام مختلف تماما عن نظرة الإسلام للحياة والخلق التي تقول أن البناء والعلم والاختراعات هي ما تبني الحضارة، والقوة العسكرية هي مجرد حامية لهذه الحضارة وتستخدم في الخير وانقاذ البشر وليس لتدميرهم أو إجبارهم لتبني دين الإسلام أو معتقد معين، ولو أردتم معرفة مصدر كلام البغدادي وفكره هذا ستراه  يشبه تماما كلام المجرمين والمتعصبين في العالم الغربي العلماني والذين يرون أن زيادة مجدهم وقوتهم يستدعي تدمير الحضارات الأخرى وسحقها واذلالها وسرقتها بمختلف الطرق العسكرية أو الاقتصادية أو غيرها.

أعرف أن هذا الكلام سيفتح ملفات كبيرة في عقول الناس ورؤيتهم للتاريخ الإسلامي والأحداث العسكرية والسياسية فيه على مر القرون السابقة من بداية الخلافة الراشدة وحتى آخر عهد الخلافة العثمانية، وأعترف أن هذا ملف شائك جدا وحساس ولكنه يحتاج للفتح اليوم والكلام حوله لأنه ضروي، وقد تناقشت كثيرا مع منظرين في داعش وكانوا عندما يحاصرون في الكلام والأدلة يقولون لك نحن لسنا أفضل من العباسيين فقد قتلوا وأبادوا عشرات آلاف البشر، ولكنهم أقاموا خلافة قوية على أنقاض ما قبلها، ونحن سنفعل مثلهم، والرد على هذا الكلام يستدعي منا فتح ملف الفكر السياسي الإسلامي ومناقشة مبدأ التغلب والتوريث والنظام السياسي بشكل عام، وأمور أخرى سيحتاج شرحها لحلقات قادمة.

ولكن ربما لو أردنا بناء فكر جديد يجب أن ننظف عقولنا من المفاهيم السابقة المغلوطة والدخيلة على الإسلام، وهذه مهمة شاقة وخطيرة ولكن لا مفر منها وخصوصا أننا كمسلمين وعرب في حقبة مفصلية من التاريخ إما أن ننهض أو ستدخل كل بلادنا في صراعات تدميرية وخراب اقتصادي وتهدم ما بقي من الحضارة، كما تفعل داعش اليوم وتهدم حتى الآثار والمتاحف وهي برأيها تهدم الحضارات السابقة لتقيم حضارة جديدة على أنقاضها بينما الحقيقة أنها تدمر كل شيء ولا تبني أي شيء.

وللحديث بقية والقادم أهم، وعندي منهج متكامل من 28 ساعة تدريب، يشرح الأفكار الأساسية في هوية المسلم ويوضحها للشباب، وان شاء الله لو قدرني سبحانه سأشرحها كاملا في أجزاء متتالية في هذه السلسة 

والله من وراء القصد

الحلقة السابقة هنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين