أبحثُ عن المفتاحِ والبابُ مفتوحٌ!

شكوت إلى جار لي ناصح ما تمرُّ به أمتي من مصاعب وأزمات: جهل مطبق، فقر مدقع، تفرق في صفوفها وانقسام، جدال وخصام، سباب وشتام، محاربة وقتال، انكسار وانهزام، خراب ودمار، هتك حرمات وعار، خزي وشنار، ذل وهوان، وموت وهلاك، فقال: إن المشاكل تزداد تضخما وتفاقما إذا لم تُعالَج، كالداء يشتد أمره إذا لم يُداوَ، وإذا ظفرتَ بالعلاج عادت أمتك إلى الصحة والسلامة كأن لم تمرَّ بيوم عصيب، فقلت: ما العلاج؟ قال: علاجك عند الأمم المتقدمة، والشعوب الراقية، وفي الجامعات والمكتبات، وبطون الكتب والصحائف.

فاحتككتُ بالشرقيين والغربيين عسى أن أنال لديهم بغيتي، فإذا قلوب مظلمة داكنة، وعقول مادية إبليسية، ونفوس سبعية ضارية، وطموحات دنسة قذرة، وأخلاق كأخلاق البغايا المومسات، وزرت الفلاسفة والعلماء في الجامعات ودور العلم، فلم أر همومهم تعدو البطن والمعدة، والحلية والزينة، واللذة والمتعة، فقلَّبت أوراق الكتب والصحائف، ونظرت في الزبر والأسفار، فإذا هي ظنون وأوهام، وشكوك ورِيَب، لا تغني عن الحق شيئا.

فيئست مما حولي، وعزمت على أن ألجأ إلى مغارة أو أنزوي إلى كهف، وبينما أتسكع عند مجمع البحرين حاملا بين ضلوعي قلقا فتَّاكا واضطرابا هائلا إذ أبصرتُ الخضر من بعيد، وكان اليأس قد أخذ مني كل مأخذ، فزهدت فيه، وخالفت الطريق، ولكن الخضر كان أسرع مني، وناداني نداء عاليا، فاقتربت إليه بوجه كاسف كئيب، منقبضا مقطب الجبين، فقال: ما بك؟ أتلقاني وأنت سهوم جهوم، وعبوس قمطرير؟ قلت: لا تلُمني، إني لفي مشكلة ولا حل لها، وداء لا دواء له، فأزمعت أن أهجر المجتمع البشري هجرانا أبديا سرمديا.

قال لي: بُثَّ إلي بهمك لعلي أواسيك، قلت: لو كنتَ مواسيا لأمتي لما تِهْتَ في الصحارى والبراري، ولما شردتَ في مجمع البحرين والسواحل، قال: ما أبعدك عن معرفة أسرار الله في خلقه! أو تعترض على الملائكة أنهم لا يسمعونك ولا يبصرون، ولا يساعدونك ولا ينصرون؟ أو لم تقرأ قصتي في أصدق صحيفة وأطهر كتاب، إذ خرقتُ سفينة قوم مساكين، وقتلتُ نفسا زكية بغير نفس، وأقمتُ جدارا يريد أن ينقض، ألم يندهش علم موسى من علمي، وبهتَني الخضر ببليغ خطابه وقوة حجاجه، فقصصت عليه ما أشكو من آلام أمتي ومخازيها.

قاطعني الخضر، ولم يدعني أكمل حديثي، وضحك ضحكة غريبة، فغضبتُ وقلت: يا أبا العباس! يا رحلة كليم الله موسى ومقصده، إذ جاءك وقد بلغ من سفره نصبا، وقال لك متواضعا: هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا؟ فقلت: إنك لن تستطيع صبرا، يا أبا العباس! ما رأيت في حياتي أقل منك صبرا؟ فقال: من لم يضحك على المضحكات، ولم يبك على المبكيات فما أبعده عن الحياة، وما أجدره أن يُعدَّ من الموتى الخامدين، فقلت: وهل بلغتُ في السفاهة إلى أن يضحك علي الحلماء الحكماء؟ قال: نعم، وما رأيت لك مثلا إلا مثل الذي كان يبحث في الليل عن متاع له في الشارع، كشحيح ضاع في الترب خاتمه، أو كناقف حنظل لدى سمرات الحي، فمر به عاقل وسأله: ما تبحث؟ فأخبره عن متاعه، فقال: أين فقدته؟ قال: في بيتي، قال: فقدته في موضع وتبحث عنه في غيره؟ قال: البيت مظلم، والشارع مضيء.

قال الخضر: ألا يُضحكك موقف الذي ضربت لك مثله؟ قلت: بلى، قال: أنت شر منه مكانا، فذاك يبحث عن مفقود في غير موضعه، وأنت فتبحث عن موجود لم يفارقك لحظة، ما أشد غفلتك وما أعتى عماك.

وقال الخضر لي بقلب مليء إيمانا ويقينا: إن ربك خلاق الحلول والمعالجات، فتولَّ إليه مخبتا منيبا، وإن كتابه هدى ونور، فتدبره يخرجك من ضلالك، ومن الظلمات التي تتسكع فيها ليل نهار.

فعدتُ إلى رشدي، وأدركت وعيي، وقلت: يا ويح نفسي، ما في الكون أحد مكبَّلا بقيود الغفلة والغي مثلي، بلغ بي السفه أن أقرن بجُحا وسائر الحمقى والمجانين، يا ويلي! إن الباب مفتوح وأنا أبحث عن مفتاحه، ملحا في البحث ولاجًّا في الطلب، متسكعا في الشرق والغرب، ومتشردا في البر والبحر.

وتذكرت قصة صالح المرى، إذ سمعه الناس يقول كثيرا: من أدمن قرع باب يوشك أن يفتح له، فقالت له رابعة البصرية: إلى متى تقول هذا؟ متى أُغْلق هذا الباب حتى يُستفتح؟! فقال صالح: شيخ جهل وامرأة علمت.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين