آيا صوفيا إرثُ الأجداد وأَثرُ الأحفاد

عناصر المادة

1- التَّاريخ سِجِلٌّ حافِلٌ شامِل2- عدالةُ قرارِ آيا صوفيا؛ مُستمدَّة من عدالةِ تاريخِنا المُشرق

مقدمة:

حدثٌ مرَّ على كلِّ ذي لُبٍّ بالفرح والغِبطة والسُّرور، يحمِل بين طيَّاتها الأُنس والحُبور.

هو عودة الحقِّ لأصحابهِ، هو ارتفاعُ صوتِ العدالة المنبثقةِ من تاريخ مُشرقٍ عريقْ، هو روحٌ جديدةٌ سَرَت في جسدِ الأمَّة فانْبلجَت أساريرُ كُلِّ موحِّد لله تعالى في أرجاءِ المعمورة، هو عودَةُ الأذان وكأنَّه بلالٌ يعود مرَّة ثانية إلى الوجود ليصدَح بأعظمِ نداءٍ خالدٍ يملأُ أجواءِ الكون.

إنَّه عودة مسجدِ آيا صوفيا لأهلِه الَّذين ينتظرونه بفارِغ الصَّبر والشَّوق والحنين.

1- التَّاريخ سِجِلٌّ حافِلٌ شامِل

ما من إنسانٍ إلا ويعيشُ عمرَه الذي قدَّره الله عز وجل ثم ينقضِي أجله، ولكنْ من النَّاس من يموت ويُطوى ذِكره وكأنَّه شيءٌ لم يكن، رغم أنَّه ربَّما كان يملِك من المال أو الشَّهادات أو المناصِب غير أنه طُمس ذِكره، وفي الجانب الآخر من النَّاس منْ ينقضي أجلَه ويَبْلى جسَده وذِكرُه مخلَّدٌ وأثرهُ سائدٌ بين النَّاس، تتوارثه الأجيال وتتفاخَر به الأُمم.

دقَّاتُ قَلبِ المرءِ قائِلةٌ لهُ=إنَّ الحياةَ دقائِقٌ وثوانيْ

فارفَع لنفسِكَ قبلَ موتِكَ ذِكرَها=فالذِّكرُ للإنسانِ عمرٌ ثاني

قال سبحانه وتعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ۚ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ} [يس: 12].

يكتبُ الباري ما قدَّموا من خيرٍ ومن شرٍّ ويكتب آثارهم وما تركوا من بصَماتِ خيرٍ شاهدة لهم.

كم من الآثارِ المباركةِ الّتي عبَرَتِ القارّات وتخطَّت القرون؛ تركها الخلفاء الرَّاشدون والدُّعاة المصلِحون والعلماء العاملون والفُضلاء المربُّون إلى يومنا هذا، وإنّ ممَّا سيسجِّل التّاريخ على صحائف من نورٍ بيراع العزِّ وبمحْبَرةِ العدالة ذاكَ الافتِتاح الّذي أقضَّ مضْجعَ المتململين الخائفين، وأثلجَ صدورَ المؤمنين الصَّادقين، كيف لا يُسجِّل وهي إشراقة أملٍ في الأمَّة رغم كلِّ مصائِبها ومتاعِبها، نشعر بالسَّكينة والطّمأنينة حينما نستشعر نِسبة المساجد لله تعالى تشريفاً وتكريماً، {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجنّ: 18].

2- عدالةُ قرارِ آيا صوفيا؛ مُستمدَّة من عدالةِ تاريخِنا المُشرق

لا يَغيبُ عن بالِ المُنْصِفين قوَّة القرار العادل الّذي أصدره أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، والّذي يُعدُّ مفخرةً للعدالة الإسلاميّة.

وإنَّنا في ذِكر آيا صوفيا ما كان لمن له تاريخٌ عريقٌ في العدالةِ أن يتجاوز الحدود أو أن يعتدي على الممتلكات، وهنا يلتقي الإرثُ بالأثرِ، وإليكمْ قِصَّةَ عدالةِ الخليفةِ الكامل:

"لقد كان من قُتيبة في فتح سمرقند المدينةَ العظيمة شيءٌ من الغَدر، كما قال النّاس، فلمّا كانت خلافةُ الخليفة الصَّالح عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه رفع إليهِ أهلُ سمرقند دعوى على الجيش الإسلاميّ، يدَّعون فيها أنّ بلدهم فُتح غَدراً، فأمر عمر بتأليفِ محكمةٍ خاصَّةٍ من قاضٍ واحدٍ لرؤية هذه الدَّعوى، وجلس القاضي إلى سارية المسجد، وأحضر المدَّعين والمدَّعى عليه -القائد العامّ للجيش الإسلاميّ- وسمع أقوالهما ثمّ أصدر حكماً يستطيعُ القضاء الإسلاميّ أن يفخرَ به على كلِّ قضاءٍ في الدُّنيا، حَكَمَ بِبُطلانِ الفتح لِأَنًّه كانَ غدراً، ولأَنَّه خالفَ قواعِد الإسلام في الحروب وبخروجِ الجيش الإسلامي منها وإعطائِها مُهلةً للاستعداد، ثمّ إعلانِ الحرب من جديدٍ.

ونُفِّذ هذا الحكم الغريبُ وشَرَعَ الجيشُ بالانسحابِ، ولكنَّ أهل البلد المدَّعين الّذين شدَّتهم هذه العدالة الإسلاميَّة، والّذين ذاقوا نِعمة الحكم الإسلاميّ في هذه السِنين الطويلة؛ عادوا يطلِبون طوعاً واختياراً أن يبقَوا تحت راية الإسلام.

بهذا الإيمان وهذه الأخلاق، لا بِسيوفنا ورِماحنا فتحنا العالم، وأفضْنا عليه نور الإسلام، وبمثل هذا الإيمان وهذه الأخلاق نستعيدُ فلسطين ونحرِّر من الاستعمار كلَّ بلدٍ إسلاميٍّ، ونكتبَ صفحةَ أمجادِنا في التَّاريخ مرَّة أخرى إن شاء الله". [ 1 ]

ختاماً:

الأثرُ الطَّيّب ذِكرٌ في الحياة وثوابٌ عند الله تعالى، كما أنَّ من أعظَم الظّلم مَنعَ بيوتِ الله أن تُفتتح ويُذكر فيها اسم الله تعالى، قال عز وجل: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 114].

كذلِكم مِن أجملِ معاني العدلِ أنْ يُعيد أصحابُ القرارِ بيتاً من بيوتِ الله تعالى بكُلِّ عدلٍ وشفافيّةٍ إلى الذِّكر والصّلاة والأذان.

1 - رجالٌ من التّاريخ، الشّيخ عليّ الطّنطاويّ، ص١١٥-١١٦

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين