آيات
سياسية (7)
د. محمود النفار
قال الله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ
سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا
آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ
فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ
مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37)} [النمل: 36 - 38].
في هاتين الآيتين جملة من المعاني والإشارات السياسية، فمن
ذلك:
1- أدرك سليمان عليه السلام مقصدها من إرسال الهدية وأنها تقصد
حرف وجهة سليمان عن الفتح، من خلال استمالته بالمال والهدايا، وفي هذا إشارة إلى
ضرورة فطنة القائد الذي يتولى المصالح العامة، ولذلك صرح فقهاء السياسة الشرعية
بأن الفطنة والكياسة شرط في الإمام، وأهل الحل والعقد. يقول إمام الحرمين:
"الفطنة والكياسة ; فإن عظائم الأمور لا يدرك معانيها لينقلها إلا فطن، لا
يؤتى عن غفلة وذهول، ومن لم يكن فطنا لم يوثق بفهمه لما ينهيه، ولم يؤمن خطؤه فيما
يبلغه ويؤديه"، وقال في الأحمق المرشح للإمامة: "إن كان فدم القريحة،
مستميت الخاطر، لا يطلع على وجه الرأي، فإن أمضى أمرا وأبرم حكما، كان مقلدا، وقد
ظهرت بلادته وخرقه، واستمر حمقه: فمثله لا يحسب في الحساب، ولا يربط به سبب من
الأسباب".
2- في تفطن سليمان لمحاولاتها في الاستمالة إشارة إلأى أهمية
الحذر من مسالك حرف البوصلة التي قد يساق لها بعض القادة سوقاً بطرق ذكية وغير
مباشرة، وفي الواقع المعاصر تطورت هذه الوسائل المضللة، والأدوات الموجهة، وقد
أثبتت العشرية الأخيرة في تاريخ الأمة اختلالاً كبيراً في الفطنة السياسية التي
تحتاجها اللحظات الفارقة في تاريخ الأمم، وهو ما فوت فرصاً قد لا تكرر إلا بعد
سنوات أو عقود.
3- في قوله: "أتمدونن"
إشارة إلى ثلاثة أمور:
الأول: دهاء الملكة، حيث لم تجعل الهدية تصل دفعة
واحدة، بل جعلتها في حال توال، يلحق ثوانيها بأوائلها، وهكذا إلى أن تنتهي، وهذا
فن بديع من فنون الإغراء، تتوقع معه النفس المزيد، وتتوق إلى استمراريته من خلال
دفع جزية ثابتة في المستقبل، ويترك أثره لا محالة في الدائرة المحيطة بالمرسل
إليه، والجماهير التي ترقب هذا الاتصال الدولي بين الأرض المقدسة ومملكة سبأ.
الثاني: مشروعية التوبيخ في العمل الدبلوماسي، وعلى
ذلك علامات أهمها ستة: الأولى: استعمال الهمزة يراد به: الإنكار الشديد والتوبيخ
لرسل الملكة ومن أرسلهم. الثانية: تنكير كلمة مال، يراد به: التحقير. الثالثة: رد
الهدية كما سيأتي. الرابعة: إفراد كلمة "ارجع" على قول من قال إنه خاطب
بها الرسل، وهم جماعة. الخامسة: التهديد بالقتال والإذلال لهم. السادسة: إنكار
مساواة سليمان عليه السلام بأنفسهم في الفرح بالهدية.
4- قوله: "مَا آتَانِيَ
اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ" إشارة إلى امتياز النموذج السياسي
الإسلامي بعدد من الخصائص والسمات، فمن ذلك ثلاثة أمور: الأول: النبوة أو
اتباعها وهذا على قول من قال إن المراد بالآية النبوة، وهذا ما تفتقد له التشريعات
السياسية التي لا تنتسب إلى الوحي، ولا تصدر عن معين النبوة. الثاني:
التفوق المعرفي والعسكري والأمني والاقتصادي والاجتماعي الذي تحقق في ملك سليمان
عليه السلام. الثالث: الجمع بين حسنتي الدنيا والآخرة، أو بين هاديات
السّماء، ومُسَخّرات الكون.
5- في تفوق سليمان عليه السلام إشارة إلى أهمية فروض الكفايات
المتعلقة بالمجال السيادية بحيث تضمن مبدأ التفوق للنموذج السياسي الإسلامي، ومبدأ
الاستقلال باعتبار تحصيلهما فرضين على الكفاية، ولأن هذا التفوق هو الذي يمنح
المُكنة على ردّ العروض والإغراءات، ولو صادفنا ما صادف سليمان عليه السلام، فكان
التفوق دون ذلك، ومست الحاجة إلى المال فلربما يقدر بعض القادة قبول الهدية لسد
حاجات أكثر أهمية وأولوية.
6- يشير قوله: "بل أنتم
بهديتكم تفرحون" إلى أربعة أمور:
الأول: طبيعة الملك الذي لا يستند إلى وحي، ففيه
يعظم تأثير الهدية والفرح بها في مقابل الزهد الذي يغرسه التصوف الإسلامي فتتهذب
به نفوس ساسته.
الثاني: مدى الترف والمكاثرة بالأموال التي يشيع في
الأوساط السياسية بشكل عام، والملكية بشكل خاص، وإن النموذج السياسي الإسلامي
يتأسس على ترك الترف لكونه أحد أهم أسباب سقوط الدول، قال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا
مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا
تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16].
الثالث: عجز أدوات الفكر السياسي التي لا تستند إلى
وحي عن تفسير الواقع السياسي بشكل عام، حيث نبه سليمان عليه السلام إلى عجز النظام
المعرفي لمملكة سبأ عن تفسير عدم فرحه بالهدية.
الرابع: قال بعض المفسرين إن المراد بقوله:
"تفرحون": الافتخار على بقية الممالك بإمكانات مملكة سبأ، وهنا نشير إلى
أن كتب التفسير ملأى بعديد من الحكايات العجيبة حول الهدية التي أرسلتها الملكة.
7- إن الأصل قبول الهدية في العلاقات الدبلوماسية، ولكن غلبت
المصلحة في ردها كما هو الحال مع هدية بلقيس التي تقصد بها مقابلة دعوتها إلى
الإسلام، فإن مصلحة رد الهدية مقدمة على مصلحة قبولها، ومفسدة ردها أدْوَنُ من
مفسدة قبولها. وقد رأى بعض المفسرين أن أحد الأسباب وراء رد الهدية تجاهلهم لقوله:
"وأتوني مسلمين" في كتابه، وهذا
دليل على أن الخطاب الدبلوماسي لا يجب أن يتجاهل تفاصيل النص ورسائله المباشرة
وغير المباشرة والتفاعل معها بحسب ما تقتضيه قواعد السلوك الدبلوماسي، وفي مخالفة
هذه القواعد ما يرقى إلى الإهانة التي قد تكون سبباً لأزمة دبلوماسية أو أكثر من
ذلك.
8- في رد الهدية أيضا إشارة إلى قبح قبول الهدية مع إرادة
القتال، لأن في ذلك لون من ألوان الغدر، وهو أمر تتنزه عنه قواعد العلاقات الدولية
في التشريع الإسلامي.
9- قال بعض المفسرين إن المخاطب في قوله: "ارجع إليهم": الهدهد وأنه طلب إليه إرسال كتاب
إليهم، وهذا يتسق مع قواعد الدبلوماسية بالرد على الخطاب بخطاب، وفي هذا حصافة من
سليمان عليه السلام، ورعاية للأعراف الدبلوماسية، واحترام لائق بالخطاب المرسل مع
وفد الملكة.
10- في تهديد سليمان عليه السلام لهم بالإخراج والذل والصغار
دليل على دهاء سليمان عليه السلام ومعرفته الدقيقة بمداولاتهم حيث خوفتهم الملكة
من الذل بعد العزة، والصغار بعد التمكين، ويبدو أن الهدهد هو الذي نقل هذه الأخبار
بأمر من سليمان عليه السلام الذي أوصاه برصد ردود أفعالهم حين قال له: {اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ
تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} [النمل: 28]، وهذا دليل
على أمرين:
الأول: أهمية العمل الأمني ودقة المعلومات.
الثاني: أهمية بناء جسور بين العملين الأمني
والدبلوماسي وهو ما تجري عليه اليوم البعثات الدبلوماسي حيث يرافقها ملحق أمني، وإن
المعلومة الأمنية لا قيمة لها ما لو توظف في العمل الدبلوماسي وتستثمر في العمل
السياسي.
11- في تهديده لمملكة سبأ إشارة إلى أن للعمل الدبلوماسي
حدوداً معينة، وأنه متى استوفت الدبلوماسية أهدافها كان الاستمرار فيها ضرباً من
العبث، ويستثنى من ذلك رغبة القيادة بإلهاء الطرف المفاوض إذا كانت الأمة في حال
ضعف، أو في حالة ترقب لاستكمال معلوماته الاستخبارية، أو استعداده للمعركة، لان
المستفيد من تعجيل المعركة حينئذ هو الطرف الأقوى.
12- في تهديده كذلك دليل على نجاعة التهديد، وأن التمكن منه
دليل على تفوق مملكة سليمان عليه السلام، فإن الأمن بحسب الباحث الأمني باري بوزان
هو السعي لتحقيق التحرر من التهديد، ويظهر السياق رجحان كفة القوة لسليمان عليه
السلام بدليل نجاعته كما سيأتي.
13- إن القوة التي لا تقاوم والتي أشار لها سيدنا سليمان عليه
السلام تشير إلى أهمية القوة المادية في تحقيق غايات الدول، وأن الدول لا تستكمل
سيادتها، ولا تحقق ذاتها إلا بقوة تستطيع بها فرض المعادلات، وإفساد معادلات
الخصوم والأعداء.
14-قوله: "فلنأتينهم"
إشارة إلى الأخلاقية الإسلامية في العلاقات الدولية وأن فاعلية هذا التهديد، ومبدأ
إنفاذه تكون برجوع الرسل إلى سبأ، لا قبل ذلك، وهذا يشير إلى الثقة الكبيرة أيضاً،
وهو أمر مهم في تعظيم التهديد وتقويته، ثم إنه قوى تهديده بعدة وسائل وأدوات
للتأكيد، أهمها خمسة: الأولى: القسم، الثانية: لام القسم، والثالثة:
نون التوكيد الثقيلة، الرابعة: تأكيد إرسال الجيش، الخامسة: تأكيد
نتيجته، بقوله: "لَنُخْرِجَنَّهُم".
15-حذرت الملكة ملأها من أمرين: الإفساد في الأرض، وجعلهم أذلة
بعد العز والتمكين الذي هم فيه، ثم إن سليمان عليه السلام ذكر الإذلال وأعرض عن
الإفساد، وهو دليل على أن إذلال المفسدين بإقصائهم عن الحكم، وعزلهم عن إدارة البلاد
لون من ألوان الإصلاح، لا ضرب من ضروف الفساد.
والله الفتاح، وهو ولي التوفيق
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول