آيات سياسية (6)

آيات سياسية (6)

د. محمود النفار

 

قال الله تعالى: {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا، وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)} [النمل: 34، 35].

قال الإمام الباقلاني في الآية الأولى: "هذه الكلمات الثلاث، كل واحدة منها كالنجم في علوه ونوره، وكالياقوت يتلألأ بين شذوره. ثم تأمل تمكن الفاصلة - وهي الجملة الثالثة - وحسن موقعها، وعجيب حكمتها، وبارع معناها".

وسوف نقف على المعاني السياسية البديعة في هاتين الآيتين، وأهمها 29 فائدة:

1. إن الخيارات الخشنة في الغالب "مدعاة دمار الديار، ومَتْلَفَةَ للبلاد والعباد"، ولذا ينبغي أن يتحرى القادة قبل اللجوء إلى الخيارات العسكرية، حتى وإن امتلكوا القوة والبأس اللازمين للقتال، وأن هذا العدول عن القتال في هذه الأحوال من حصافة الرأي.

2. تشير الآية إلى مدى التغيير الذي تحدثه الهزيمة، من خلال ذكر نوعين لا يخرج عنهما فساد، وهما: الخراب المادي من خلال تخريب المدن، والخراب المادي من خلال إهانة الأشراف والكبراء وتغيير السلطات الحاكمة.

3. تشير الآية بدلالة المخالفة إلى دأب الأنبياء وأتباعهم في حفظ العمران، وهو ما يشهد به التاريخ للفاتح الإسلامي، الذي كان يدخل مأطوراً بقيم الرحمة، ومدفوعا بتحقيق العدالة، وبسط الأمن.

4. تشير الآية إلى نوع من الملوك وهم المفسدون، أما الملوك الراشدون فلا يتناولهم قول الملكة، والدليل على ذلك أنها أرادت اختبار سليمان أملك مفسد هو همه الدنيا فيقبل هديتها؟ أم ملك نبي همه الدين فيرفضها؟ قال بعض المفسرين: "كانت لبيبة قد سيست وساست، فقالت للملأ من قومها: إنّي مرسلة الى سليمان وقومه بهديّة أصانعه بذلك عن ملكي واختبره بها أملك هو؟ فإن يكن ملكا قبل الهديّة وانصرف، وإن يكن نبيّا لم يقبل الهدية ولم يرضه منّا إلّا أن نتّبعه على دينه". فعلى ذلك كان لها مقصدان: التوثق من صدق نبوته، وملاطفه وملاينته.

5. تشير الآية إلى دور المال وتأثيره في حقل العلاقات الدولية، وأنه قد يفتن بعض الخصوم والأعداء فيخرجهم من حالة العداء إلى الصداقة، والخصومة إلى الحياد، وإن الناظر في الواقع الدولي المعاصر ليدرك مدى دور المال في الهيمنة الغربية والأمريكية في النظام الدولي.

6. في الآية دليل على أهمية بذل أقصى درجات التحوط للرعية والشفقة عليهم والمرحمة تجاههم، وأنه يجب أن تنضبط الشجاعة العسكرية بالحكمة، والجرأة السياسية بالروية.

7. من دهاء الملكة أنها حذرتهم لا ما يصيب البلاد والعباد فقط، بل ما يصل إليهم وهم أشراف المدينة من المذلة والهوان والاستعباد، وهو عمل محمود طالما أن القصد منه طلب الانتباه، والتماس التيقظ.

8. إن معظم المفسرين على أن جملة: "وكذلك يفعلون" هو من قول الله تعالى تصديقاً لمقالتها، وفي هذا بيان لصدق هذه المقولة وحكمتها، وفي هذا إشارة إلى فضيلة تصديق كلمة الحق والركون إليها من أي وعاء خرجت، وأن اختلاف الدين والعرق والنسب والرأي لا يمنع التصديق والإفادة، وأن هذا من علامات الرشد وزكاة النفس.

9. إن المخاطب بقول الله تعالى: "وكذلك يفعلون" هم محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، ونحسب أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أفاد كثيراً من هذه القصة تحديداً، فنجده شديد الحذر على قومه وأهله، حريصاً على مصالحة أعدائه مهما وجد إلى ذلك سبيلاً، فمن ذلك أنه مال إلى مصالحة قريش، ومصالحة غطفان، ومنع أصحابه من قتال المشركين في العهد المكي لأن في ذلك مهلكة لهم، وتضييع للدين بضياع أهله، وفي هذا إعمال لفقه السياسة الشرعية القائم على جلب المصالح والمفاسد، وأن هذا الفقه ورعايته في ضوء فقه الضرورة والرخصة ليس بمجبنة، بل هو مقتضى الحكمة والرحمة، وحسن التدبير مع النظر في العواقب.

10. قوله تعالى: "وكذلك يفعلون": "استدلال على المستقبل بحكم الماضي على طريقة الاستصحاب وهو كالنتيجة للدليل"، وبالتالي فإن أولئك الذي انتظروا أو ينتظرون من الاستعمار القديم أو الحديث خيراً ليسوا على دراية بشواهد التاريخ ولا خبرة طبائع الملوك، وهم يصادمون القوانين والسنن التي أودعها الله في التاريخ والواقع والمستقبل.

11. تشير الآية إلى تغاير وباعث القادة فهو مفسدون غايتهم التخريب، ومصلحون غايتهم استصلاح البلاد والعباد، وبحسب البواعث تتميز مقاصد التشريع السياسي الإسلامي عن مقاصد التشريعات والنظم السياسية الأخرى.

12. استنبط الإمام القشيري من هذه الآية أن "خراب البلاد بولاة السّوء، حيث يستولى أسافل الناس وأسقاطهم على الأعزة منهم، وعمارة الدنيا بولاة الرّشد، يكسرون رقاب الغاغة، ويخلّصون الكرام من أسر السّفلة"، وهو استنباط غاية في اللطف والدقة.

13. رأى الإمام الجرجاني أن الآية "دليل على وجوب حسن النظر في عواقب الأمور وتركهم قضية السّورة والفَورة"، وهذه الكلمة المفتاحية تفتح الباب واسعاً أمام الحديث عن أنواع من الفقه: فقه المآلات، وفقه التوقع، وفقه الموازنات بين مفاسد قتال سليمان، ومفاسد ملاينته ومصالحته.

14. نبه الإمام الزمخشري إلى حسن الجواب في الآية حيث بدأت بتزييف قولهم، منبهة على خطا التسرع في القتال، وعاقبة الحرب وسوء مغبتها، ثم ذكرت بعد ذلك مقترح الهدية، وما فيه من رأي سديد.

15. حذر الزمخشري أيضاً من تعلق الساعين في الأرض بالفساد بهذه الآية بحيث يجعلونها حجة لأنفسهم، وعقب قائلاً: "ومن استباح حراما فقد كفر، فإذا احتج له بالقرآن على وجه التحريف فقد جمع بين كفرين".

16. في قولها: إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها...إلخ": إشارة إلى أهمية النظر في التاريخ وسبر التجارب السياسية والعسكرية الغابرة والواقعة، والخلوص منها إلى قوانين تاريخية، وقواعد اجتماعية، وسنن عمرانية، وقد لاحظت الملكة وهي التي نشأت في بيت ملك فرأت وسمعت أن عادة الملوك المستمرة هي الإفساد والتذليل، وأعظم من أبدع في رصد هذه القوانين العمرانية في التاريخ: ابن خلدون في مقدمته، وتبعه في ذلك عدد من فقهاء العمران في التاريخ الإسلامي.

17. إن دأب الراشدين في الحكم أن يعترفوا بفضل من يسبقهم من الملوك والقادة، ويحفظوا لهم مكانتهم، ويفون لهم بالإحسان نظير إحسانهم، وهذا مستنبط من مفهوم المخالفة من صنيع المفسدين الذين لا يحفظون مقام من سبقهم من القادة، فيحطون من مراتبهم، ويذلونهم بعد عزة، ويستعبدونهم بعد تمكين.

18. من بديع تعليقات الإمام محمد الخضر حسين على الآية قوله: "لا تكون قاعدة الشورى من نواصر الحرية وأعوانها إلا إذا وضع حجرها الأول على قصد الحنان والرأفة بالرعية، وأما المشاركة في الرأي وحدها، ولا سيما رأي من لا يطاع، فلا تكفي في قطع دابر الاستبداد".

19. لفت سيد قطب الأنظار إلى ظهور "شخصية «المرأة» من وراء شخصية الملكة. المرأة التي تكره الحروب والتدمير. والتي تنضي سلاح الحيلة والملاينة قبل أن تنضي سلاح القوة والمخاشنة".

20. تشير الآية إلى مشروعية التهادي في العلاقات الدبلوماسية، وهو ما تجري عليه الأعراف قديماً وحديثاً، قال قتادة: رحمها الله إن كانت لعاقلة في إسلامها وشركها، قد علمت أن الهدية تقع موقعا من الناس، وقال بعض المفسرين إن الهدية "مما تورث المودة وتذهب العداوة، وأنها تزيل حزازات النفوس، وتكسب المهدي والمهدى إليه رنة في اللقاء والجلوس". وقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم الهدايا وأرسلت إليه.

21. صنيع الملكة يمكن التعبير عنه بـ"جس النبض" في العلاقات السياسية، وهو تأتٍ حسن، وتدبير حكيم.

22. إن مصانعة الخصوم بغرض استصلاح البلاد والعباد من المداراة المحمودة، وليست من المداهنة المذمومة، والفرق بينهما أن المداراة بذل الدنيا لأجل الدين أو الدنيا، أو لأجلهما معاً، في حين المداهنة هي بذل الدين لأجل الدنيا، وتبعاً لذلك رفض سليمان عليه السلام هديتها لأنها جاءت في مقابل قوله له: "لا تعلو علي وأتوني مسلمين"، فكانت في مقام الرشوة لا في مقام الهدية، وهذا ضابط مهمة في بناء سياسات شرعية تنظم تشريعات التهادي في الدول والحركات الإسلامية. وقد أحسنت الملكة عرض هذه المصانعة وأنها لدوافع ذاتية متعلقة باستقرار الملك، واستبقاء المجد، وحفظ المهج والأرواح.

23. تشير الآية إلى تحتم تزكية النفس في حق من يتولون أمور المسلمين، لأنهما معرضون لكثير من الفتن المادية والمعنوية، ولأجل ذلك اشترط فقهاء السياسية الشرعية الورع فيمن يتولى الوظائف العليا، وإن الفساد بحسب التصور الإسلامي هو مطلق الخروج عن الاعتدال والاستقامة كما حقق الراغب الأصفهاني، ولذلك فإن كل خروج عنهما فساد، وكل تصرف على الرعية بعيداً عنهما هو ضرب من ضروب الإفساد.

24. مالت الملكة عن رأي قوم بعض الميل، ولم تصرح بمعارضتها لما ألمحوا إليه من أرجحية قتال سليمان عليه السلام، وفي ذلك ذكاء ودهاء واحتيال محمود، حيث لم تجد نفسها ملجأة بعد للتصريح بالمخالفة، وبذلك تكون قد قابلت التلميح بالتلميح، والإيماء بالإيماء، كما تكون قد أعذرت إلى نفسها وملأها وقومها بعدم جر البلاد إلى الهلاك، وأشرافها إلى المذلة من خلال إعطاء الدبلوماسية مداها اللائق بها، ورغم ذلك لم تلغ خيار القتال، لأنه بقي مرهوناً بردة فعل سليمان عليه السلام.

25. الباء في قولها: "بهدية" هي باء المصاحبة، و"التقدير: مرسلة إليهم كتابا ووفدا مصحوبا بهدية إذ لا بد أن يكون الوفد مصحوبا بكتاب تجيب به كتاب سليمان فإن الجواب عن الكتاب عادة قديمة، وهو من سنن المسلمين، وعد من حق المسلم على المسلم، قال القرطبي: إذا ورد على إنسان في كتاب بالتحية أو نحوها ينبغي أن يرد الجواب لأن الكتاب من الغائب كالسلام من الحاضر".

26. قولها: "فناظرة" إشارة إلى أمور ثلاثة: الأول: ضرورة التمهل قبل تغيير مسارات العلاقات السياسية، لأن التعجل مؤذن بفشل المبادرات، وبوادر حسن النية، فهي بحاجة إلى حاضنة سياسية من قبل الطرفين. الثاني: أهمية المرونة السياسية عند القيادة المسلمة، ذلك أنها تشير إلى أنها تترقب ردة فعل سليمان عليه السلام، وبناء عليه سيكون تصرفها، فلم تثق بقبوله لهديتها. الثالث: عدم العمل بموجب سيناريو بدافع الرغبة وإهمال السيناريوهات الأخرى التي قد يصدقها الواقع.

27. استنبط الشيخ الطاهر بن عاشور من هذه الآية حق الدفاع عن النفس، فقال: "يحق لأهل المدينة أن يكونوا أهلَ بأس شديد على أعدائهم؛ لأنهم جند المدينة يدفعون عنها، وذلك وصفٌ تُحْفَظ به المدينة من تَطَرُّقِ أهل الفساد إليها، فإذا تطرقوها أفسدوا بهجتها".

28. ترجم فقيه النهضة مالك بن نبي بهذه الآية للحديث عن فلسفة الاستعمار، ومن بديع ما قاله فيها: "نجده -الاستعمار- يحول بين الشعب وبين إصلاحه نفسه، فيضع نظاماً للإفساد والإذلال والتخريب، يمحو به كل كرامة أو شرف أو حياء. وهكذا يجد الشعب المستعمَر نفسه محاصَراً داخل دائرة مصطنعة، يساعد كل تفصيل فيها على تزييف وجود الأفراد. ومن المسلَّم به أن هذا التضليل العلمي يعد تقويضاً لكيان الشعوب، يتعدل دائماً تبعاً للطوارئ، ليقف في وجه كل محاولة أو طاقة جديدة، فيحدها ويهدمها. ومن هنا كان الاستعمار ولوعاً بتتبع (النهضة الإسلامية)؛ ومن السهولة بمكان أن نعرف ما يريد الاستعمار أن يقحمه في المجتمع الإسلامي الحديث من عناصر الإرجاف، وعوامل التنافر".

29. في هذه السورة -النمل- أهمية خاصة لبيان عاقبة الاستعمار، فهي وإن ذكرت عاقبة إفساد الملوك بدخول البلاد إلا أنه لا بد أن تجمع هذه الآية مع مكملاتها في نفس السورة، فقد قال الله تعالى بعد آيات معدودة من هذه الآية: "أنا دمرناهم وقومهم أجمعين، فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا"، ثم قال: "قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين". وهي بذلك بشرى لمن يقبعون تحت الاحتلال خاصة في الأرض المقدسة أو يعانون مع الأنظمة المفسدة.

والله الفتاح العليم، وهو ولي التوفيق

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين