آيات سياسية (4)

آيات سياسية (4)

د. محمود النفار

 

قال الله تعالى: (قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ)

في هذه الآية جملة من الإشارات والمعاني السياسية، فمن ذلك:

1- تسميتها المشورة بالفتيا أو الفتوى وهو لافت جداً، وهو مع ذلك تعبير دقيق لأن الرأي نظير الفتوى، كلاهما يخضعان للاجتهاد، ويشتركان في الحاجة الماسة إلى بذل الوسع في النظر والتأمل، وتحمل المسؤولية والنتائج خاصة في الأمور المشكلة والنوازل الكبرى التي تحتار فيها ألباب العقلاء. وهذا يفتح الباب أمام أبواب الإفتاء والاجتهاد وصلتها بالمجال السياسي، ولا يتسع المقام لتناول هذه المسائل والمباحث.

٢- إن جمعها الملأ للمشورة دلالة على أهمية التقدير الجماعي، وأنه قد لا تكفي الاستشارة الفردية عن الشورى الجماعية خاصة في تلك القضايا الجليلة والخطيرة. وبالرجوع إلى الفتوى السياسية أو التقدير السياسي فإنهما يقبحان في هذا العصر إذا استبد بهما فقيه أو قائد مهما علا قدره وسما علمه، وعظمت خبرته، لابتناء القضايا السياسية المعاصرة على عوامل وعناصر متنوعة تحتاج تخصصات مختلفة قلما تجتمع في شخص واحد.

٣- إذا قلنا إن معنى قولها (تشهدون) : تحضرون؛ ففيه دلالة على أهمية قرب أهل الرأي من مقر إقامة القيادة أو سهولة الوصول إليهم بقصد التشاور معهم، كما فيه إشارة إلى مسؤولية القائد عن تذليل هذا الحضور باعتباره وسيلة واجبة لتحقيق مقصد معتبر.

٤- كما فيه دلالة على أن اتخاذ القرار إنما يجري في مجالس القيادة وفوق الطاولة، ولا يؤخذ في الغرف المظلمة بعيداً عن أهل الرأي، فالشورى في التصور الإسلامي حقيقية لا شكلية، والعبرة بالمعاني لا بالمباني كما يقول أهل الشرع.

5- وإذا قلنا إن معنى قولها (تشهدون) : تشهدون أنه صواب، ففيه اعتبار القائد لآراء أولي الأمر معه، وأهل الخبرة، وعدم قضاء الأمر وبت القرار بعيداً عنهم، وأن قوة القائد لا تمنعه مشورة من حوله حتى ولو كان محيطاً بالقضية، ولأجل ذلك وجه الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بمشورة أصحابه في قوله تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ).

6- في طلبها المشورة تعظيم للمستشار كما يقول القاضي الباقلاني، وحسن أدب مع أهل الرأي من قومها كما يقول ابن عطية، وهكذا صنيع الساسة الحكماء، ودأب الراشدين في كل عصر من العصور.

7- قولها: (قاطعة) إشارة إلى أن تداول الرأي يقوم على عدة سيناريوهات واتجاهات وآراء، وبمجرد قوة أحدها ينقطع العمل بالآخر، وقد قوي عند الملكة خيار الملاطفة على خيار المخاشنة كما يقول ابن فورك، وفيه دلالة على طبيعة العمل السياسي الذي يقوم على عدة خيارات في كل منها مصالح ومفاسد، فلا يجب أن تكون المفاسد المرجوحة سبباً في التوقي من المفاسد الراجحة، ولا يجب أن تكون المصالح المرجوحة وراء إهمال المصالح الراجحة.

8- لا تقتصر مقاصد الشورى على طلب الرأي، بل تتعداه إلى أمور كثيرة منها ما سماه القاضي ابن العربي ب"مداراة الأولياء"، وعبر عنه أخرون بـ"تطييب القلوب"، وهذا له أهمية كبيرة في حفظ التماسك الداخلي، واستصحاب مجموع أهل الرأي، نحو الخيارات المشكلة.

9- من المقاصد المعتبرة أيضا التي دلت على دهاء الملكة ما أشار له الإمام القرطبي بقوله إنها استشارتهم كذلك "لتختبر عزمهم على مقاومة عدوهم ، وحزمهم فيما يقيم أمرهم ، وإمضائهم على الطاعة لها ، بعلمها بأنهم إن لم يبذلوا أنفسهم وأموالهم ودماءهم دونها لم يكن لها طاقة بمقاومة عدوها ، وإن لم يجتمع أمرهم وحزمهم وجدهم كان ذلك عونا لعدوهم عليهم ، وإن لم تختبر ما عندهم ، وتعلم قدر عزمهم لم تكن على بصيرة من أمرهم".

10- في الآية دليل على وجوب لزوم المحاورة الحسنة كما يقول الإمام القرطبي، فاختلاف الرأي وتفاوت المقام القيادي لا يسوغان القفز عن القيم الجامعة والآداب الضابطة والأخلاق الرفيعة.

11-  في قولها : (ما كنت) إشارة أنها كانت تطلب الشورى في كل قضية جليلة تعرض لها وأن هذه المشورة لم تكن فلتة من الفلتات، وهكذا شأن الراشدين في القيادة والحكم أن الشورى تتحول عندهم إلى عادة من العادات، ولا يمكن لهذا الأمر أن يتحول إلى عادة راسخة إلا بأمور كثيرة: قوة القيادة وثقتها، تنوع الآراء المفضي إلى اختيار الأفضل منها، احترام القيادة ومؤسسية اتخاذ القرار فيها، تحول الشورى إلى ثقافة وقانون وغيرها

والله الفتاح وهو الموفق والهادي إلى صراط مستقيم

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين