آيات سياسية (3)

آيات سياسية (3)

د. محمود النفار

 

قال الله تعالى: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل: 29].

في الآية جملة من الإشارات السياسية والدبلوماسية:

1- في جمعها لقومها بعد إلقاء الكتاب إليها إشارة إلى ضرورة اتخاذ القادة ثلة يفيئون إليهم بالمشورة، ويطلبون رأيهم عند وصول مراسلات أو خطابات تتضمن خَطْباً أو أمراً جللاً، وعدم تفردهم واستبدادهم بتحليل مضامين هذه الخطابات وما فيها من رسائل مباشرة وغير مباشرة.

2- قد لفت نظري أنّ القرآن لفت الأنظار إلى اهتمام ملكة سبأ بتحليل دقائق المراسلة شكلاً وليس مضمونا فحسب، وذلك حين قالت: "ألقي"، لأن ذلك كان عجيبة على غير عادة نظام بلاطها في تسليم الكتب، واستلام الرسائل.

والسياق يدلّ على أنّ الكتاب وصلها بشكل خاص دون أن يشعر أهل مجلسها، أو تعلم حاشيتها بالطريقة التي وصلها الكتاب، وهو يوضح الملكات التي يمتلكها الهدهد الذي وقع عليه اختيار سليمان عليه السلام من بين جميع جنوده من الجن والإنس والطير، وفي ذلك إشارة إلى ضرورة حسن اختيار الرسل، وعلاقة الدبلوماسية بالأمن ووسائل الاتصال.

ثم إنني وجدت الشيخ عبد الكريم الخطيب قد حقق أن "الملكة لم تفصح لقومها عن الأسلوب الذي بلغتها به هذه الرسالة، ولم تكشف عن وجه الرسول الذي حملها إليها"، وأن "في هذا التجهيل للمصدر الذي جاء بالكتاب، ما فيه من إيحاءات كثيرة بأنها الملكة الساهرة على رعيتها، الحافظة لأمن دولتها، وأنها تملك من القوى الخفية التي لا يراها قومها- ما يعينها على ضبط أمورها وحياطة شعبها.. وهكذا يضفى على الملكة بهذه الحركة البليغة البارعة، جلال فوق جلالها، وروعة فوق روعة سلطانها".

3- قال المفسرون: الملأ هم أشراف الناس الذين ينوبون مناب الجميع، وإنمّا سُمُّوا بذلك لأنهم يملأون العيون، ولما اجتمع عندهم من حاجات الناس، وحسن الرأي والتدبير في كل شيء من الأمور. وفيها إشارات إلى شروط ومقومات اختيار أهل الحل والعقد، وإلى الواجبات المناطة بهم تجاه السلطة والمجتمع.

4- إنما وصفت الكتاب بالكريم: "لما تضمن من لين القول والموعظة في الدعاء إلى عبادة الله عز وجل، وحسن الاستعطاف والاستلطاف من غير أن يتضمن سبا ولا لعنا، ولا ما يغير النفس، ومن غير كلام نازل ولا مستغلق، على عادة الرسل"، ومن غير تطويل لأن "عادة الأنبياء والرسل الإيجاز في الكلام والرسائل، وعدم الاشتغال بفضول الكلام".

وقيل: كريم بمعنى مختوم، وهي إشارة إلى اتباع أعراف المكاتبات والمراسلات السياسية والدبلوماسية على أحسن ما يكون على الرغم من أن في مضمون الكتاب تهديد، ولأجل ذلك اتخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- خاتمًا في مكاتباته ومراسلاته، قال أنس رضي الله عنه: لما أراد النبي -صلى الله عليه وسلم-، أن يكتب إلى الرّوم قيل له: إنهم لا يقرؤون كتابا إلا أن يكون مختومًا، فاتخَذ خاتمًا من فضة. فكأني أنظر إلى بياضه في يده ونقش فيه محمد رسول الله.

***

 

قال الله تعالى: { إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل: 30، 31]

قال الإمام ابن كثير: "هذا الكتاب -رسالة سليمان- في غاية البلاغة والوجازة والفصاحة".

في هاتين الآتين زمرة من الإشارات السياسية، وأهمها:

1- قال المفسرون: إن المقصود من إبلاغهم "إنه من سليمان": إعلامهم بمرسل الكتاب، وفي هذا إشارة إلى عَلَمية سليمان عليه السلام وشهرته بين ملوك ذلك العصر، وكذلك ينبغي أن يحرص القادة على اشتهار دولهم وحركاتهم، وصناعة الصورة بوعي وحذر.

2- وفي قولها "إنه من سليمان" كذلك إلماحة إلى ضرورة تمييز المخاطِب، لأن الحراك الدبلوماسي، والتفاعل السياسي مع الرسائل يختلف باختلاف المرسل، وباختلاف السياقات والظروف، وإن تحليل مضامين الخطاب قبل معرفة مرسله مخلّ بركن من أهم أركان هذا التحليل.

3- كما أن فيه إلماحة إلى أهمية أرشفة المراسلات السياسية، باعتبار الحفظ والأرشفة وسيلة إلى معرفة المخاطِب، وأداة معينة على النظر في سجلّ مراسلاته.

4- قال المفسرون إن سليمان عليه السلام هو أول من استعمل: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" في مراسلاته، وفي هذا إشارة إلى أهمية الإبداع الدبلوماسي في المراسلات والمخاطبات، والجمع بين رعاية الأعراف، والتجديد الدبلوماسي، بما يتسق مع الإطار الحضاري الإسلامي، وهوية الدولة الإسلامية.

5- حرصت الملكة على تعليل قولها: "إنه كتاب كريم" بأمرين: أنه من سليمان، وأنه مبدوء باسم الله الرحمن الرحيم، وفي هذا إشارة إلى ضرورة التعليل في عمليات تحليل الخطاب السياسي، وأنه لا تعتبر فيه الرغبات والتحليلات غير المستندة إلى معطيات.

6- كتاب سليمان مبدوء باسم الله الرحمن الرحيم قبل بيان أنه من سليمان عليه السلام، وإنما حرصت الملكة على بيان المخاطب قبل الخطاب حرصًا على نظرهم في الخطاب في ضوء معرفتهم بالمخاطِب، وفي هذا إشارة إلى أهمية التزام الأدب الملكي النبوي في المراسلات السياسية والدبلوماسية، ولأجل ذلك ترك النبي صلى الله عليه تصدير الرسائل بقوله: باسمك اللهم، وعدل عنه إلى بسم الله الرحمن الرحيم، بعد نزول سورة النمل التي وردت فيها هذه القصة.

7- تشير هذه المراسلة الملكية إلى صفات وشروط المراسلة النبوية، وأنها تشتمل على تمام المقصود، بلا تطويل، ولا اختصار، كما اشتملت رغم وجازتها على ما لا بد منه في الدين والدنيا، فاحتوت على العلم أولاً ثم العمل، ففي البسلمة تعريف بالله، وإثبات لوجود الخالق، وكونه رحمانا رحيما، وفي قوله: "ألا تعلوا علي" نهي عن الانقياد لطاعة النفس والهوى والتكبر.

8- في اختيار صفة الرحمة من صفات الله، والرحمن الرحيم من أسمائه مناسبة مع مخاطبة المرأة، لأن الرحمة أحد أهم المداخل في إدارة العلاقة مع النساء، وفي هذا إشارة إلى ضرورة مراعاة نفسية المخاطب وسياقاته الشخصية والاجتماعية، وهذا من حسن التدبير المطلوب في الخطاب الدبلوماسي.

9- في قوله: "ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين" "جمع سليمان بين دعوتها إلى مسالمته وطاعته وذلك تصرف بصفة الملك، وبين دعوة قومها إلى اتباع دين التوحيد وذلك تصرف بالنبوءة".

10- في ابتداء الكتاب باسمي الله الرحمن الرحيم مع ما فيه من الاستعلاء والحزم والجزم جمع بين مقتضيات القوة، والرحمة، والإشارة إلى السلم والحرب، مع الحكمة البالغة حيث يدفع تكبرهم المتوقع بالرحمة، وقوتهم بقوته وبأسه، وهواهم بالتشريع الإلهي.

11- التحذير من العلو إشارة إلى أخطر الأمراض التي يمكن أن تصيب المشتغلين في المجال السياسي وهو التكبر، والعلو وهو أم الرذائل كما يقول العلماء، ولذلك ينبغي على الفاعلين في هذا المجال مراقبة نفوسهم وخطراتهم، لأن التكبر مذهلة عن استقامة الدين، وسداد النظر، وصواب الرأي، وحسن التدبير، والأناة في التقدير، وكل ذلك مآله إلى تفويت مصالح كثيرة: دينية ودنيوية، خاصة وعامة.

 

والله الفتاح وهو ولي التوفيق

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين