آفةُ النبوغ

آفاتُ النفوس كثيرةٌ ومتشعبة، وأخطرها تلك الخفيًّةُ التي لا يشعر بها أصحابها.

كنت تناولتُ سابقًا آفةَ "وهْمُ التفوق"، وهي الشعور الزائد بتقدير الذات إلى درجةٍ يرى فيها المرءُ نفسه مبرَّزًا في أمرٍ هو لا يُحسنه أصلا، واليومَ سأتناول ظاهرةً تُصيب المتفوقين والنوابغ في أمرٍ يجيدونه ويتقنونه لكنَّ آفتهم فيه أنهم يُقدِّرون أنفسهم كذلك فوق ما هم عليه إلى درجة الغرور والإعجاب الزائد بالقدرات تجعلهم يرون أنفسهم قد ولِدوا في زمانٍ غير زمانهم، وأنَّ الآخرين لا يعرفون أقدارهم، حتى أنَّ بعضهم يرى أنَّ السبيل الأمثل في شأنه مع البشر اعتزالهم والابتعاد عنهم، إذ ليس فيهم من يمكنه أن يفهم خطابه العالي وإحساسه الفريد ونظرَه الثاقب، وفي الوقت نفسه لا يستطيع هو النزول إلى مداركهم المتدنية!!

لقد قدَّر الله لي في حياتي أن ألتقيَ بعض النوابغ في فنونٍ شتى، ومن أولئك من لديه حافظةٌ عجيبةٌ تكاد المعلومات تنطبع فيها من مرةٍ واحدةٍ بشكل مدهش.

ومنهم من لديه نبوغ في دقة النظر والتحليل والتنظير وتأصيل المسائل وتفريعها.

ومنهم من آتاه الله ملَكةً بلاغيةً وشعريةً فائقة، فينظم القصائد بقريحةٍ ارتجاليةٍ مذهلة.

ومنهم من لديه قلم سيَّال بديع في التعبير والتوصيف، وغير ذلك من القدرات الخطابية والبحثية ...الخ.

ما أريد أن ألفِتَ إليه هنا ظاهرةُ الشعور بالتفوُّق والاعتداد بالنفس عند هذه الفئة بدرجةٍ تجعل النابغة لا يرى أحدًا يوازيه في مجاله، ثم يُطِلُّ عليك بين الفَينة والأخرى من بُرجه العاجيِّ بفلتات لسانٍ لا يستطيع منعها، يُخرج بها مكنوناته الاستعلائية.

من علامات هذه الشخصية أنه ربما يأتيك بالغرائب والأقوال الشاذة التي يخالف بها الأولين والآخرين ولا يبالي، ويعُدُّ ذلك فتحًا وتجديدًا، فهو يرى نفسه مجددًا بالفطرة.

قلت لأحدهم يوما: إنك في هذه المسألة تخالف جميع علماء العصر، فقال: إذا وجدتَ عالمًا في البلد فدُلَّني عليه!!

وهذا الشخص لديه طاقة في القراءة لم أرَها في أحد، فقد كان معدل ما يقرأ في اليوم نحو مجلد.

ومن العلامات كذلك كثرة انتقاداته للآخرين، وقد لا تسمع منه ثناءً أو إعجابا بأحدٍ لأنه أصلاً لا يعجبه العجَب، وقد تخرج الانتقادات بقالب السخرية والتهكم إمعانًا في احتقار المخالف.

قالوا لأحد المُنَظِّرين: أنت رأس في هذا المشروع، فهل معك عليه أحد من العلماء؟ 

قال: وهل يصح أن يكون في السماء غير قمرٍ واحد!!

ولتضخم هذا المرض عدَّة أسباب، على رأسها في تقديري سببان مهمان:

الأول: ضعف الاهتمام بالجانب التزكوي في رحلته العلمية والتربوية، فيتضخم جانب النبوغ لديه على حساب ضمور جانب معرفة دواخل النفس وعيوبها.

الثاني: أن يعيش النابغةُ في محيطٍ لا يرى فيه منافسين، فكل من حوله طلابه والمعجبون بقدراته المثنون بها عليه، فلم يعتد سماع النقد أو النصح والتوجيه، فإذا وقع له ذلك استعظمه في جنب نفسه.

العلاج: 

أولا: الضراعة إلى الله تعالى بأن يصلح قلبه ويخلص نيته، وأن يُعرِّفه قدر نفسه ويُبصِّره بعيوبها وغدراتها.

ثانيا: دورة علمية في قراءة سير المتواضعين من العلماء والصالحين، وأخرى عملية في بملازمة العلماء الربانيين المتواضعين.

ثم ليجعل نصب عينيه:

من تواضع لله رفعه.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين