آداب العمل الجماعي وشروطه -7-

 

-11-

[تقبُّل الاجتهادات المخالفة]

-11- ثانياً : ومن أهمِّ ما يُميِّز الفردَ الصالح للعمل المشترك مع الآخرين: سَعَة الصدر ، وسَعَة الأفق لتقبُّل الآراء والمواقف والاجتهادات المخالفة. 

إنَّ المرء الذي يَضيق صدره عن أن يتَّسع لما يخالفُ آراءه في المسائل الاجتهاديَّة لا يصلحُ للعمل الجماعي مهما كان مُستواه، وإنَّ المرءَ الذي يُنكر على الآخرين حقَّ النظر المستقلّ هو شخص يحمل في نفسه صفات تسلطيَّة، تَحرمه من فهم معنى التسامح الواجب في العمل مع الآخرين، وتجعله ممَّن يمكن أن نصفهم بالتعصب والتَّحجُّر.

إنَّ المسائل التي أجمع عليها علماء الأمة، سواء منها ما يتعلَّق بالعقائد أو الأمور العمليَّة تُعتبر الحد الأدنى لما يجب أن يلتزم به، ويقف عنده كل مسلم حتى لا يخرج من (جماعة المسلمين)، ذلك المصطلح الذي يعني في هذا المقام موقفاً فكرياً وعَقَدياً يوافقُ صاحبه ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم.

وأما ما وراءَ ذلك من المسائل ظنيَّةِ الثبوت، أو ظنيَّةِ الدلالة فإنَّ الاختلاف فيها أمر طبيعي، نابعٌ من تَفَاوت عقول البشر في الفهم، وفي تقدير الأمور والمصالح.

والمسلم الذي يُريد أن يدرِّبَ نفسَه ليكون أهلاً للعمل الجماعي، يجبُ أن يحرص على أن يعيَ هذه النقطة بعمق فينكر عندما يرى خروجاً على الإجماع، ويسلِّم عندما يرى اجتهاداً في الأمور الظنيَّة، ولو كان هذا الاجتهاد يخالف ما تعلَّمه، ويخالف تَصوُّرَه عن هذه الأمور.

إنَّ الحق في المسائل الخلافيَّة لا يتعدَّد فلا بد أن يكون أحد المجتهدين مصيبًا، ولكنَّ الله تعالى ضمن الأجر والقَبول لكلِّ مؤمن تحرَّى الصِّدقَ، وبذل جهده ووسعه ليتعرَّف على الحق حتى إذا غلب على ظنِّه جواباً أو رأياً أو موقفاً، فهو الرأي والموقف الذي يتقبَّله الله تعالى منه، طالما أنه لم يخرج في فهمه عن قواعد الاستنْباط ومَنَاهج الفهم المقرَّرة في كتاب الله، وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم.

ولقد كان هذا الأمر ممَّا تدرَّب عليه الصحابة رضي الله عنهم، وأبدوا فيه نموذجاً رائعاً للفهم وسَعة الصدر، فقد أخرج البخاري ومسلم من حديث نافع عن عبد الله أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عندما أراد أن يتوجَّه إلى بني قريظة ليستأصل الغدر والخيانة نادى في المسلمين: " ألا لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة"، فسار الناس فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي، ولم يُرِدْ منَّا ذلك، فذكروا ذلك للنبيِّ صلى الله عليه وسلم فلم يُعَنِّفْ أحداً منهم.

وفي مثل هذا الإقرار تأكيد على أهم مُتطلبات العمل الجماعي في سَعَة الصدر للآراء والمواقف الاجتهاديَّة المخالفة.

 وإنَّ مما يَجب أن نشيرَ إليه في هذه الحادثة: أنَّ الصحابة رضي الله عنهم لم يَستوقفهم مثل هذا الخلاف للجدال والخصام، فقد كان هدفُهم الكبير في القضاء على بني قريظة، يَغلب على إحساسهم فلم تشغلهم الجزئيَّات؛ لأنَّ الحفاظ على وحدة الجماعة في مثل هذا الظرف أخطر من الحرص على أداء الصلاة على وقتها.

إنَّ توجُّسَ بعض الناس وتأذِّيهم من الخلاف في الأمور الاجتهاديَّة، ومُحَاولتهم القضاء على هذه الظاهرة عَبَثٌ لا يَستقيم مع الفهم العميق لطبيعة الأدلة الشرعيَّة في الأحكام العمليَّة. ولو أمكن أن تتوحَّد الأفهام عندما تَتَصدَّى لتحليل النصوص ذات الدلالة الظنيَّة لكان الصحابة هم أوْلى الناس بهذا الفهم الموحَّد، ولكنها حكمة الله تعالى التي تُريد تَوسيعاً على العباد، وبُعْداً بهم عن الحَرَج في الدين، أرادت أن تسبغ عليهم هذه المنَّة الكُبرى، وما عليهم إلا أن يُهذِّبوا نفوسهم بالتربية والتأديب حتى لا يجنح بهم هذا الاختلاف الطبيعي إلى الحزبيَّة والعصبيَّة والتحجُّر.

وحين يصدر الأمرُ عن الأمير فإنَّ هذا التَّسليم وسَعَة الصدر للآراء الاجتهاديَّة يُعينان على الطاعة والتزام رأي الأمير أو القائد، ولو جاء مُخالفاً للآراء أو الاجتهادات الشخصيَّة. وتعتبر حادثة سيدنا أبي ذر وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما بشأن صلاة سيِّدنا عثمان رضي الله عنه الظهر أربعاً في مِنى مثالاً رائعاً للانضباط الإسلامي الواجب مع القادة والأمراء، ومثالاً رائعاً للحرص الشديد على جمع شَمْل الأمَّة والبُعد بها عن الخلاف والشقاق.

وكثيراً ما يَدور النقاش بين العاملين في مجال الدعوة حول أساليب العمل والحركة وطرقها، وقد يَترتَّب على مثل هذه الأحاديث بعض الآثار السلبيَّة في اندفاع الفرد وفعاليَّته ونشاطه.

إنَّ موقف الفرد من مثل هذه الأحاديث والمناقشات يجب أن يكون موقف المتحرِّي للصواب الذي لا يردُّ حقاً ظهرت حُجَّتُه مهما كان بين صاحب هذا الحق مبيتاً من المواقف والسلبيات، وذلك حتى لا يقعَ الفرد في الكِبْر الذي هو بَطَر الحقِّ وغَمْط الناس، وليس من الكبر المنهي عنه أن نخالفَ الناس في الأمور الاجتهاديَّة التي تُترك لرأي الأمير واجتهاده ولو كان عند هؤلاء الناس طرف من دليل أو جانب من صواب، فإنَّ كل الأساليب التي يمكن استخدامها لبلوغ هدفٍ مُعيَّن لا تغدو أن تكون أموراً اجتهاديَّة لا يدعم أيّاً منها دليلٌ قطعي ثابت لا يجوز مُخالفته بحال، وفي مثل هذه الأمور الاجتهاديَّة، يُترك الأمر لتقدير الأمير واجتهاده، والطاعة في الأمور والمسائل الاجتهاديَّة واجبة، وفي مثل هذه الأحوال تُسعف المرءَ ثقتُه بقائده وأميره، وثقته كذلك بطريقه الذي اختار، وملاءمة هذا الطريق لمعطيات الواقع والإمكانيات المتوفِّرة للعمل.

الحلقة السابقة هنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين