آداب العمل الجماعي وشروطه -6-

 

 

-10-

 

[بناء الثقة في العمل الجماعي وفي الأمير أو القائد]

إنَّ هناك وسائل مُتعدِّدة يَستطيع المرءُ عن طريقها أن يصحِّح الأخطاء ويقَوِّم الاعوجاج، ولكن الطريقة الوحيدة التي لا تخطر ببالِ المؤمن الواعي هي أن يتَّخذ من النصيحةِ والصدع بالحق وسيلةً لتدمير ثقةِ الناس بالعمل الجماعي أو ثقتهم بقادتهم وأمرائهم.

أخرج أحمد عن رجل قال: (كنا قد حملنا لأبي ذر رضي الله عنه شيئاً نريد أن نعطيَه إياه، فأتينا الرَّبَذة، فسألنا عنه فلم نجده، قيل استأذن في الحج فأذن له، فأتيناه بالبلدة وهي منى، فبينا نحن عنده إذ قيل له: إنَّ عثمان رضي الله عنه صلى أربعاً فاشتدَّ ذلك عليه، وقال قولاً شديداً، وقال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى ركعتين، وصليت مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ثم قام أبو ذر رضي الله عنه فصلى أربعاً، فقيل له: عبت على أمير المؤمنين شيئاً ثم تصنعه؟ قال: الخلاف أشد، إنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم خَطبنا فقال: إنَّه كائن بعدي سلطان فلا تذلوه، فمن أراد أن يذلَّه فقد خَلَع رِبْقَة الإسلامِ من عُنُقِه، وليس بمقبول منه توبة حتى يسدَّ ثُلْمَتَه التي ثلم وليس بفاعل، ثم يعود فيكون ممَّن يعزه، أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يغلبونا على ثلاث: أن نأمر بالمعروف، وننهى عن المنكر، ونعلم الناس السنن) [قال الهيثمي في المجمع: رَوَاهُ أَحْمَدُ وَفِيهِ رَاوٍ لَمْ يُسَمَّ، وَبَقِيَّةُ رِجَالِهِ ثِقَاتٌ].

إنَّ من أهم ما يجبُ أن يتأمَّله المرءُ في هذه الحادثة أن يتعلَّم كيف يَندفع إلى التطبيق العمليِّ بجديَّة وفعاليَّة في كل أمر يكون من الأمير أو القائد ولو كان هذا الأمر مخالفاً لرأيه واجتهاده في لزومه وأهميته أو صوابه، وأن لا يمنعنا هذا الموقف العملي الإيجابي عن النصح والأمر بالمعروف كما نراه، والنهي عن المنكر الذي نعتقد، وأن نعلم الناس السنن.

ولعل ممَّا يؤدِّي هذا المعنى ما ذهب إليه بعض الفقهاء من وجوب متابعة الإمام في صلاة الجماعة ولو ترك سنة أو سها عن واجب؛ لأنَّ الحفاظ على الجماعة أولى من المفارقة! ويقرب من هذا ما نصَّ عليه الشافعية من أنَّ ضابط العذر المبيح لمفارقة الجماعة هو العذر المرخِّص لتركها ابتداء!.

وإنَّ من أوضح ما يدل على هذه المعاني أيضاً ما أخرجه الإمام أحمد (23997 )، وأبو داود (2719) بإسناد صحيح  عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ مَنْ خَرَجَ مَعَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ، وَرَافَقَنِي مَدَدِيٌّ مِنَ الْيَمَنِ، لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُ سَيْفِهِ، فَنَحَرَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ جَزُورًا، فَسَأَلَهُ الْمَدَدِيُّ طَائِفَةً مِنْ جِلْدِهِ، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ، فَاتَّخَذَهُ كَهَيْئَةِ الدَّرَقِ(الترس) ، وَمَضَيْنَا، فَلَقِينَا جُمُوعَ الرُّومِ، وَفِيهِمْ رَجُلٌ عَلَى فَرَسٍ لَهُ أَشْقَرَ عَلَيْهِ سَرْجٌ مُذَهَّبٌ، وَسِلَاحٌ مُذَهَّبٌ، فَجَعَلَ الرُّومِيُّ يُغْرِي بِالْمُسْلِمِينَ، وَقَعَدَ لَهُ الْمَدَدِيُّ خَلْفَ صَخْرَةٍ، فَمَرَّ بِهِ الرُّومِيُّ فَعَرْقَبَ فَرَسَهُ، فَخَرَّ وَعَلَاهُ فَقَتَلَهُ، وَحَازَ فَرَسَهُ وَسِلَاحَهُ، فَلَمَّا فَتَحَ اللهُ لِلْمُسْلِمِينَ، بَعَثَ إِلَيْهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَأَخَذَ مِنْهُ السَّلَبَ، قَالَ عَوْفٌ: فَأَتَيْتُهُ، فَقُلْتُ: يَا خَالِدُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ. قَالَ: بَلَى، وَلَكِنِّي اسْتَكْثَرْتُهُ، قُلْتُ: لَتَرُدَّنَّهُ إِلَيْهِ أَوْ لَأُعَرِّفَنَّكَهَا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ. قَالَ عَوْفٌ: فَاجْتَمَعَا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَصَصْتُ عَلَيْهِ قِصَّةَ الْمَدَدِيِّ، وَمَا فَعَلَهُ خَالِدٌ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا خَالِدُ، مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ " قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، اسْتَكْثَرْتُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا خَالِدُ، رُدَّ عَلَيْهِ مَا أَخَذْتَ مِنْهُ ". قَالَ عَوْفٌ: فَقُلْتُ: دُونَكَ يَا خَالِدُ، أَلَمْ أَفِ لَكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَمَا ذَاكَ؟ "، فَأَخْبَرْتُهُ، فَغَضِبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: " يَا خَالِدُ، لَا تَرُدَّهُ عَلَيْهِ، هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو لِيَّ أُمَرَائِي لَكُمْ صَفْوَةُ أَمْرِهِمْ، وَعَلَيْهِمْ كَدَرُهُ"؟ 

 

[تربية الجنديَّة في الفرد المسلم]

هذا ولن يستطيع المرء أن يصل إلى مثل هذا الوعي والإدراك ما لم يتدرَّب، وعلى فترات طويلة، على مُخالفة آرائه ونظراته ورغباته، حتى إذا اعتادَ ذلك وصل إلى نفسيَّة الجُندي الذي يُعتمد عليه في أيِّ أمر، ولو لم يَتَّسع الوقت لإعطائه المبرِّرات والمقدِّمات التي تجعل القيادة تُفضِّل بعضَ الحلولَ والاقتراحات.

وإنَّ خيرَ وسيلة للتدريب على مثل هذه الأمور النفسيَّة نجده فيما ذكره الإمام الغزالي عن العلاقة بين القلب والجوارح، فكل أمرٍ يكون في القلب، يظهرُ أثرُه على الجوارح لا مَحَالة، وكل أمر يَكون في الجوارح ونتكلَّف فِعْلَه يترشَّح منه إلى القلب أثر. وإنَّ اعتياد التدريبات الحسيَّة المتكلَّفة والصدمات الشعوريَّة المُفتعَلة يترشَّح منها إلى القلب مَشَاعر الاحتمال والصبر، والقدرة النفسيَّة على احتمال أي أمر، وتقبُّل أية تعليمات مهما تكن مُزعجة أو مُخالفة للرغبات والأهواء الشخصيَّة.

 ولكن لن تكون مثل هذه التدريبات ناجحة في إحداث الأثر المطلوب في النفس والقلب إلا إذا صاحبها الوعي التامّ للمعنى المراد تَحقيقه في القلب مع كل مرحلة من مراحل التدريب؛ لأنَّ التدريبات الحسيَّة مهما بَلغَت لن تنجحَ في إحداث الأثر المطلوب بدون هذا الوعي والفهم العميق.

ويوضِّح هذه الناحية ويشرحها قول الله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] {البقرة:183} فالصيام الذي هو امتناع عن الطعام والشراب وسائر المُفَطِّرات، يُقْصَدُ من ورائه ذلك الأثر يرتفع إلى القلب وهو شعور التقوى.

وإذا غفل الإنسان عن الربط الواعي بين التجارب الحسيَّة التي يمرُّ بها والمعاني الكريمة التي يجبُ أن يلاحظها وهي تترشَّح إلى قلبه لم يكن له من صيامه إلا الجوع والعطش، ولم يكن للقائم من قيامه إلا التعب والنصب، وإن كان يظنُّ نفسَه أنَّه يُشارك الصائمين والقائمين فيما يَسْتشعرونه في قلوبهم من المعاني والمشاعر؛ لأنه يشاركهم بجهدهم وعطشهم وتعبهم ونَصَبهم.

ولكن مثل هذا الشعور لن يرتفعَ إلى القلب إلا إذا وَعَى الإنسان معنى البُعد عن الشهوات استجابةً لرغبة أو خوفٍ من الله عزَّ وجلَّ، فإذا استطاعَ المرءُ أن يربط بهذا المعنى كل عمل يعمله، ترشَّح إلى القلب ذلك المعنى الكريم، وحقَّق هدفَه التربوي: [لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ] {الحج:37}.

وكذلك عندما يتدرَّب المرءُ على احتمال الألم والصدمات الحسيَّة العنيفة يكتسب المقدرة على الصبر والتماسك أمام الصعوبات النفسيَّة والشعوريَّة، وذلك حسب الطريقة التي قرَّرها الإمام الغزالي رحمه الله تعالى.

الحلقة السابقة هنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين