آداب العمل الجماعي وشروطه -4-

 

 

-8-

 

[قصة بني إسرائيل مع الجهاد]

8 - وما أروعَ ما قصَّه علينا القرآن الكريم وأبعد دلالته التربويَّة والتعليميَّة، حين حدَّثنا عن الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى عليه السلام الذين كانوا يتحرَّقون للقتال، ويتشوَّقون إليه، ويُطالبون به نبيَّهم بإلحاح وإصرار، وكان نبيُّهم بما أعطي من فراسة النبوَّة يراهم على حالة من الإعداد لا تسمح لهم بمثل هذا الطلب، فقال لهم: [هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا] {البقرة:246} ولكنهم أَبَوا عليه وأصرُّوا حتى ظهرت النتيجة الواضحة: [فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ] {البقرة:246} وحين بعث الله تعالى لهم ملكاً يجمعهم ويُقَاتلون تحتَ رايته ما كان منهم إلا الاعتراض والاحتجاج، حتى جاءتهم الآيات والعلامات الشاهدة على ملكه وقيادته، وبعد ذلك الجدال والنقاش، وعندما جاء دور التنفيذ العملي لمتطلبات الجنديَّة، وسار الجند مع قائدهم: [قَالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ] {البقرة:249}.

 لقد كان من واجبهم لو كانوا يُدركون معنى الجنديَّة الحقَّة أن يُبَادروا إلى طَاعة مَلِكِهم وقائدِهم في كلِّ أمر، ولو لم يَتَبَيَّنوا مواضعَ الحكمة في الأمر فليس في الوقت مُتَّسع للجدال والنقاش، ولكنهم فشلوا في هذا الامتحان فلم يكونوا أهلاً للجهاد، ولم يَصْمُدوا لاختبار الطاعة التي تُمثِّل أخطرَ مُقدِّمات الجنديَّة الربانية: [فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ].

 وعندما وصل الأمر بهم إلى المواجهة العمليَّة الجادَّة لعدوِّهم خَانتهم طاقتهم التي لم يهتموا بها قبل تلك اللحظة حين كانوا يَسْتَسهلون الأمر ولا يَتَصوَّرون أنَّهم سَيَجْبُنون عنه في يَوم من الأيام، وها هم أولاء في اللحظة الحَرِجَة يقولون بصريح العبارة: [لَا طَاقَةَ لَنَا اليَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ] ولم يصمد لهذه التجربة إلا قلَّة من الذين تهيَّأت نُفوسُهم لاحتمال كل مَشَقَّة؛ إذ كان لهم من إيمانهم العميق، وتوكلهم الصادق ما يَستشعرون معه حقيقة القوى الفاعلة في الكون فيركنون إليها بثقة واطمئنان، ويَسْتَلْهمون منها المدد والعون بعد أن أدَّوا واجبَهم في هذا السبيل ولم يبخلوا بما أوتوا من طاقة وقدرة على الصبر والاحتمال: [كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ، وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ، فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ] {البقرة:251}. 

إنَّ هذه القصة التي يَعرضها القرآن الكريم عن الملأ من بني إسرائيل وما كان من أمرهم في الجهاد والقتال، توضِّح لنا الصورة عن المنهج القرآني في التربيةِ والإعداد.

إنَّ مثلَ أولئك الذين يَسْتَسهلون الأمور ولا يعملون ابتداء على اكتساب الخصائص النفسيَّة والفكريَّة والعمليَّة التي تؤهِّلهم لتطبيق تلك الأمور كمثل هؤلاء الملأ من بني إسرائيل الذين كانوا يُطالبون ويُصِرُّون ويتبجَّحون حتى إذا جاء الأمرُ خانتهم نُفُوسهم، وخَانَتهم قُدرتُهم على الصبرِ والاحتمال، وأَعلنوا بصراحة مُخزية عن فَشَلهم بعد التبجُّح والمطالبة والإصرار.

إنَّ العبارات الصريحة والإشارات الموحية عن القتال والجهاد في فترات مُبكِّرة من تاريخ الدعوة لتضعنا بوضوح أمام المنهج القرآنيِّ في تربية هذه الأمة، هذا المنهج الذي لا يُغْفِلُ ناحيةً شعوريَّة أو فكريَّة في أيِّ أمرٍ من الأمور إلا وينبِّه عليها ويَضعنا تجاهها مُنذ البداية حتى تتكيَّف النفوس والإرادات مع مُتطلَّبات كل أمر وتواجهه كأقدر ما تكون استعداداً وتربية.

الحلقة السابقة هنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين