فما من طاعة لله عز وجل إلا وجعل الإسلام لها آداباً وأحكاماً, وها نحن في شهر رمضان المبارك نتعلم بعض الآداب والأحكام التي تتعلق بالصيام.
أولاً: ماذا تقول إذا رأيت الهلال:
الأدب الأول من آداب الصيام أن تراقب هلال هذا الشهر, فإن أكرمك الله عز وجل برؤيته فاشكر الله عز وجل على ذلك, بأنك لست من الغافلين عن مراقبة الهلال, فكم من غافل عن مراقبة الهلال؟ لأنه ليس له ارتباط به من حيث التكاليف الشرعية.
أما أنت فلك ارتباط به من حيث التكاليف الشرعية, وذلك لقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}.
وهنا حكمة يتعلمها الإنسان المؤمن من القرآن العظيم, وذلك بأنه قد يسألك إنسان سؤالاً فتصرفه عنه إلى الأهم, فبعضهم سأل النبي صلى الله عليه وسلم كما يقول ابن عباس رضي الله عنهما أن معاذ بن جبل وثعلبة بن عنمة وهما رجلان من الأنصار، قالا : (يا رَسُول الله ما بال الهلال يبدو فيطلع دقيقاً مثل الخيط، ثم يزيد حتى يعظم ويستوي ويستدير، ثم لا يزال ينتقص ويدق حتى يعود كما كان، لا يكون على حال واحدة؟ فنزلت هَذِهِ الآية: قوله عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} رواه أبو نعيم في معرفة الصحابة.
فالمسلم له ارتباط بالقمر من حيث التكاليف, والتي من جملتها معرفة بداية الصوم وبداية الفطر, وزمن الحج, وعِدَدَ نسائهم.
وربنا عز وجل يقول: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}. لذا ترى المؤمن الذي عرف نعمة الله عز وجل عليه عشق تكاليف الله تعالى, فهو يراقب الهلال ليَشرف بممارسة طاعة الصوم.
والمواقيت إما أن تكون زمانية, وإما أن تكون مكانية, وأحياناً يتحكَّم الزمان بالمكان, وتارة يتحكَّم المكان بالزمان, وأحياناً يكون الزمان والمكان معاً.
فمثلاً: مواقيت الحج المكانية هي الأصل والزمن تابع لها, فإذا أردت الإحرام بالحج أو العمرة يأتيك المكان ليكون هو الأصل, والزمن هو تابع له, فمثلاً تصل إلى أبيار علي, فلا يجوز لك أن تتجاوز هذا الميقات المكاني إلا بإحرام في أي وقت شئت, صبحاً أو ظهراً أو مغرباً أو عشاءاً أو سحراً.
وتارة أخرى يكون الميقات الزماني هو الأصل والمكان هو تابع له, عندما يأتي هلال رمضان فالزمن هو الأصل والمكان تابع له, فالزمن زمن صوم أينما كنت, كنت في سوريا في لندن أو في مشارق الأرض ومغاربها يجب عليك الصوم.
وتارة أخرى يتحكم الزمان والمكان في الفعل مثل يوم عرفة, الزمان والمكان هما المتحكمان في الفعل, فالزمن هو اليوم التاسع من شهر ذي الحجة, والمكان هو عرفة, فلا تستطيع أن تقف في كل مكان ولا في كل زمان إذا كنت قاصداً الحج, فلا بد من اتفاق الزمان والمكان سوية في هذه الحالة.
وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم علَّمنا إذا رأينا الهلال ماذا نقول.
عن طلحة بن عبيدِ اللهِ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا رَأى الهلاَلَ، قَالَ: (اللَّهُمَّ أهِلَّهُ عَلَيْنَا بِالأمْنِ وَالإيمانِ، وَالسَّلاَمَةِ وَالإسْلاَمِ، رَبِّي وَرَبُّكَ اللهُ، هِلالُ رُشْدٍ وخَيْرٍ) رواه الترمذي.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى الهلال قال: (الله أكبر, اللهم أهلَّه علينا بالأمن والأمان, والسلامة والإسلام, والتوفيق لما تحب وترضى, ربنا وربك الله) رواه ابن عساكر.
وقفات مع هذا الدعاء الشريف:
وهنا أحب أن أقف مع هذا الحديث الشريف عندما يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اللَّهُمَّ أهِلَّهُ عَلَيْنَا بِالأمْنِ وَالإيمانِ). فإنه يعلِّمنا صلى الله عليه وسلم بأن نعمة الأمن هي من عند الله عز وجل, فإذا شاء وهب الأمن وإذا شاء أخذ الأمن وعاش الناس في اضطراب.
وهذا هو المشاهد, فها نحن نعيش في نعمة الأمن والناس من حولنا يُتخطَّفون, حرموا نعمة الأمن, فلا يأمن أحدهم على نفسه فضلاً عن عياله وأمواله, قال تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُون}.
فنعمة الأمن حصراً هي من عند الله, ولا تظن أن نعمة الأمن تأتي من مخلوق على الحقيقة, المخلوق ما هو إلا سبب من الأسباب, أما مسبب الأسباب فإنما هو الله تعالى.
فإذا ما رأيت نفسك تعيش في نعمة الأمن فلا يسعك إلا أن تؤمن بهذا الإله العظيم الذي وهبك هذه النعمة, وإلا عرَّضتها للزوال, وانظروا إلى هذه الحقيقة تجدونها مجسدة في الغرب, لا يأمن الإنسان على ماله ـ بعض الدريهمات لا يأمن عليها ـ فضلاً أن يأمن على ما هو فوق المال. هذا أولاً:
ثانياً: ويقول صلى الله عليه وسلم: (وَالسَّلاَمَةِ وَالإسْلاَمِ).
بعد نعمة الأمن تأتيك نعمة السلامة, سلامة جسدك وسلامة أهلك وولدك, وسلامة مالك, وهل السعادة إلا أن تعيش في أمن وسلامة؟
لذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ, مُعَافًى فِي جَسَدِهِ, عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ, فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحذافِيرِها) رواه الترمذي.
فإذا رأيت نعمة الأمن والسلامة وجب عليك أن تتعرف على مصدر هذه النعمة, ومصدرها إنما هو الله تعالى, لذلك قال تبارك وتعالى: {لإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ}.
اعبد الله تعالى لأنه أسبغ عليك نعمة الأمن وسلامة البدن والمال, وأول العبادة هي الإيمان, ثم الاستسلام لأحكام من آمنت به.
ثالثاً: أما قوله صلى الله عليه وسلم: (رَبِّي وَرَبُّكَ اللهُ).
كأن النبي صلى الله عليه وسلم يخاطب القمر المسخَّر للبشر بقوله: (رَبِّي وَرَبُّكَ اللهُ).
فهل الجمادات تعقل؟ نعم تعقل ولكن كلٌّ على حسب ما أقامه الله عز وجل عليه, ولو شاء الله تعالى أن يقدرك على أن تتجاوب مع الجمادات والجمادات تتجاوب معك لأقدرك.
خذ على سبيل المثال عندما وقف النبي صلى الله عليه وسلم على جبل أحد ومعه الصديق والفاروق وعثمان فارتجَّ الجبل بهم, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اثْبُتْ أُحُدُ مَا عَلَيْكَ إِلا نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدَانِ) رواه أحمد.
كما أقدر ربُّنا عز وجل النبيَّ صلى الله عليه وسلم على فلق القمر فلقتين عندما طلبت قريش منه ذلك, فأشار إلى القمر بإصبعه فانفلق فلقتين.
نعم تقول للهلال: (رَبِّي وَرَبُّكَ اللهُ). كأنك وإياه انسجمتما معاً, فهو طائع لله بالقهر والتسيير, وأنت طائع لله بالاختيار, وشتان ما بين طائع بالقهر وطائع بالاختيار, ولذلك سخر الله الطائع بالقهر للطائع بالاختيار, فقال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}.
رابعاً: عندما تخاطب القمر بقولك: (رَبِّي وَرَبُّكَ اللهُ). فأنت تُقرُّ بأن الذي يحوِّله من طور إلى طور, ومن حال إلى حال, هو الذي يحولك من طور إلى طور, ومن حال إلى حال, أنت ترى الهلال صغيراً ثم يكبر ويشتد ثم يضعف ليرجع إلى ما كان عليه, وأنت كهذا القمر, تبدأ ضعيفاً ثم تقوى ثم ترجع إلى ضعفك, فمرحلة القوة فيك عارضة وليست أصلية, فبدايتك ضعف ونهايتك ضعف, كما أن القمر بدايته ضعف ونهايته ضعف وانمحاق.
خامساً: قوله صلى الله عليه وسلم: (هِلالُ رُشْدٍ وخَيْرٍ). كأن النبي صلى الله عليه وسلم يسأل الله تعالى أن يجعل هذا الشهر شهر رشد وهداية, وشهر توفيق لفعل الخير, لأن هذا الشهر إما أن يكون شاهداً لك, وإما أن يكون شاهداً عليك.
قد يقول أحدنا: نحن بفضل الله تعالى من أهل الإيمان ومن أهل الإسلام والرشد والهداية والخير فلماذا الدعاء هذا؟
الجواب: إذا رأيت نفسك موفَّقاً للإيمان والإسلام وللخير والرشد والهداية فسل الله الثبات, لأنك لا تملك الزمن القادم عليك, ولا تعرف الفِتَن الخفيَّة, فربما تضلُّك فتنة لا قدَّر الله فتصبح بعد الإيمان في كفر والعياذ بالله تعالى, وبعد الإسلام في عصيان, وبعد الخير والرشد والهداية في ضلال وانحراف وشر, ولذلك كان من دعاء سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ) رواه أحمد.
وتذكَّرْ قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا}. هو جل جلاله أثبت لك الإيمان, وطلب منك الإيمان, بمعنى الثبات عليه والاستمرارية, لأن القلوب بيد الله عز وجل كما في الحديث الشريف: (إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ كَقَلْبٍ وَاحِدٍ يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ) رواه مسلم.
طلب منك الثبات وقال لك: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ}.
لذلك اطلب من الله دوام التوفيق على نعمة الإيمان والإسلام والرشد والخير.
اللهم أكرمنا بذلك حتى نلقاك وأنت راضٍ عنا, وصلى الله عليه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول