العلامة المحدث المحقق الشيخ محمد عوَّامة 

 

متعنا الله به بعافية ونفعنا به وبعلومه

 

من القلائل الذين أجد لهم مكانةً سامية في قلبي، وتعظيمًا وإجلالًا في نفسي. وقد أكرمني الله تعالى بقراءة الكثير مما دبجه يراعه، ولم أشرف بعد للثم يده، والمثول بين يديه، ولعل الله تعالى أن يكرم بذلك عاجلًا بألطاف وعوافٍ ورغد من العيش.

وهو – حفظه الله تعالى – مدرسةٌ في العلم والتحقيق والأدب والصلاح والهمة، إلى أمور كثيرة ميزه الله تعالى بها.

أما العلم: فهو من أفراد العصر عند كل منصف، ولا سيما في علوم الحديث والفقه الحنفي واللغة:

أما الحديث فتحقيقه لمصنف ابن أبي شيبة، وتقريب التهذيب، والكاشف، وتدريب الراوي بلْه سنن أبي داود =خير شاهد على طول باعه، وسعة اطلاعه، ففي مقدمات هذه الكتاب، وثنايا حواشيها فوائد وتحقيقات فريدة تشدّ إليها الرحال. 

وأما الفقه الحنفي فقد أخبرني غير واحد أنه كان كثير الرجوع إليه فيه فكأن المذهب على طرف لسانه، وكذلك في أثناء كتبه تجد التحقيقات البديعة في النقل عن السادة الحنفية رضي الله عنهم. 

وكنتُ زرتُ أحد العلماء الأكابر من الحنابلة ممن أكرمهم الله تعالى بالعودة إلى المنهج العلمي لأهل السنة، فكان مما أخبرني به: أن من أسباب عودته كتاب الشيخ: (أثر الحديث الشريف) وأنه أرسله لجماعة ممن يتوسم فيهم الخير من تلك الطائفة، فعادوا للجادة به!

وقد أكرمه الله تعالى بحافظة نادرة، استظرفتُ كلمةً سمعتها من أحد الأحباب في مكة قال: زرته في عام كذا ولم أتمكن من لقائه في بيته، فلقيته في ساحات الحرم الشريف بشكل عابر، فسألني عن اسمي فعرفته، فلقيته بعدها بسنوات فسلمت عليه فذكرني باسمي واسم أبي واسم جدي، يقول: فأبهرني بحافظته الحديدية!

وأما اللغة: فتجد بيان ذلك في كتبه من حيث ضبطه للكلمات على أصح الوجوه، وتحريه للأفصح من اللغات دون تقعر، وتفننه في علومه بحيث يمحص النص اللغوي الذي لربما عزَّ على من لم يبلغ مبلغه في الاطلاع، والجلد على القراءة، وخير شاهد على ذلك الفصول التي كتبها في المعالم في هذا الصدد.

إلى غير ذلك مما منَّ الله به عليه، وأكرمه به من علومٍ ومعارفَ واسعة دقيقة.

وأما التحقيق: فهو ابن بجدتها وأبو عذرتها، فقد أخرج سنن أبي داود على هيئة لم تخرج بها غير صحيح البخاري في طبعته السلطانية، والنسائي بتحقيق شيخه سيدي العلامة الشيخ عبدالفتاح أبو غدة –رحمه الله رحمةً واسعة- وأخرج المصنَّفَ على أحسن هيئة، وأذعن له الموافق والمنصف من المخالف، وقد ظل يخدمه أكثر من سبعة عشر عامًا! وأخرج "تقريب التهذيب" بمضمون وحلة تقر بهما عين الطالب والعالم، وقدم له بمقدمة ضافية دقيقة تقرأ مرات لتتم الاستفادة منها، ووشاها بحاشيتين نفيستين؛ فبلغت نسخته مبلغًا عجيبًا من الإتقان والفائدة؛ مما حدى بكثير من المخالفين أن يغرقوا السوق بنسخ لا تصل أحسنها إلى عقبها!. وقد قامت معركة عنيفة حول التقريب بين جماعة من المعاصرين حول التقريب وبين قضايا فيه؛ فكانت نسخة الشيخ لها الحظوة لدى المنصفين. ولا أريد أن يستجرني القلم لوصف كتبه وإتقانه فيها فهو فن بذاته!

ومن تحقيقه: إتقانه للنقل الذي لربما تطاول العهد بنقل خطأ مشاع، وفائدةٍ تناقلتها الألسن والكتب على محمل التسليم، ومما يحضرني الآن الكلمة المشهور: "إني رأيتُ أنه لا يكتب إنسانٌ كتابا في يوم إلا قال في غده ..." فقد حفظناها وتناقلها الناس على أنها للعماد الأصفهاني، وحقق فيها سيدي القول بأنها للقاضي الفاضل –رحمه الله تعالى-. ومثلها في علم الحديث وغيره، وقد عقد فصلا ماتعا جدا في مقدمة الكاشف أبان فيه عن دقة وشفوف نظر، وصبر طويل على قراءة العبارات.

وأما الأدب: فهو من أشد العلماء في هذا العصر أدبًا، وأكثرهم لأهله إجلالًا، وأبسطهم فيه كفًا، فلا يجد فرصةً لغرس الأدب أو بذله إلا انتهزها، وقلَّ أن تجد كتابًا من كتبه خلا عن هذه الصفة بصورة بالغة الوضوح متناهية الجمال. ولسانه رطب بذكر الآداب مع مشايخه، ومع العلماء قاطبة، بل حتى مع العلماء المخالفين له، وكل من جالسه ينقل عنه عجبًا من أدبه تحققًا، وحثه عليه، وإرشاده من حواليه له باستمرار، وعلى ذلك شواهد يطول ذكرها.

وتجده يعزو الفائدة التي استفادها من طلبته إليهم برحابة صدر، وكمال تواضع كما تجد ذلك في نصب الراية والمصنف، وقد أخبرني عنه الشيخ المحقق أديب بكداش –حفظه الله تعالى- عنه أشياء عجيبة من ذلك.

وأما الصلاح: فالرجل موصوف به، معدود من أهله، وكفاه شرفًا سكناه المدينة المنورة –على منورها وآله وصحبه الصلاة والسلام- واختياره المكوث فيها، وعدم تحوله منها على كثرة ما ناله، وشدة ما أصابه مما يعرفه الكثير من طلبة العلم، ويصفه من حوله برطوبة اللسان بذكر الله تعالى، وانجماعه عن ذكر الناس أو الخوض فيما لا يعنيه، وتحقيقه للقول البديع للإمام السخاوي –رحمه الله تعالى- نثر فيه مما يدل على مزيد تعظيمه وإجلاله للحبيب الأعظم صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم وما يملأ القلب عظمة، ومن امتلأ قلبه بحب وتعظيم الحبيب صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم =ماذا أبقى من الصلاح؟! وشيخه سيدي الإمام العارف عبدالله سراج الدين –رحمه الله تعالى ورضي عنه- وقد تربى به، وحسبك به شيخًا!

وأما الهمة: فهو أعجوبة في ذلك، فالشيخ –حفظه الله تعالى- قد بلغ من العمر ما شاء الله تعالى، ومع ذلك فهو ما بين فترة وأخرى يخرج لنا الكتب الجديدة، والتحقيقات الفريدة، والأبحاث الدقيقة، ولم يعوقه سنه ولا كثرة أسفاره ولا أشغاله عن النفع العام، وكذلك مع تقدم سنه لا زال نشيطًا في خدمة الدعوة والسفر في سبيل الله تعالى لإحياء العلم، وإرشاد الخلق، والسعي لنفع الأمة.

وإن كان سيدي الشيخ مدرسة فيما سبق فهو لا يقل عنها في جوانب كثيرة من الأمور العلمية والعملية.

وهو صاحب اطلاع، واسع فكم من عالم ما علمتُ خبره إلا من طريقه، وكم من شاعر وأديب ما تعرفت عليه إلا من كتاباته، وكم من تحقيق فريد في ثنايا كتاب من كتبه ما وُصِل إليه إلا من طريقه، ووقت ذلك لا تجد الكيل على النفس بالمكيال الأوفى –تحدثًا بالنعمة- كما يصنع الكثير، وإنما يلقي لك الدرة النفيسة النادرة، ثم يمر مرورَّ الكرام كأن لم ينقل لك شيئًا، ولم يفدك بفائدة.

وهو ممن ظهرت على وجوههم نَضرةُ أهل الحديث التي دعا بها النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم لأهله، فهو صاحب شيبة منورة، وطلعة مليئة بالسكينة والجمال، وتبعث في نفس مشاهدها ارتياحًا عجيبًا؛ لا علاقة لحسن الصورة الظاهرة به، أكثر من كونه نور العلم، وخشية القلب.

ومما رأيتُه في هذا العالم العَلم، ولم أجده –فيما أذكر- في طالب علم فضلًا عن عالم قوله: (لا أدري)! وما أقلها من كلمة وما أعظمها! فقد تابعته في إحدى القنوات ذائعة الصيت، وفي أثناء المقابلة سئل عن سؤال، فبادر الشيخ قائلًا: لا أدري، أحتاج أن أبحث فيها، فقلتُ ساعتها في نفسي: لإن كنتَ أتخمتنا بعلمك، فلقد أخجلتنا من سوء أدبنا وبهرتنا بأدبك.

وكنتُ أراسله في بعض المسائل الحديثية، فيجيب بأدب بالغ، وشفقة شديدة، ويعتذر إن تأخر، ويبسط الإجابة كأحسن ما يكون الجواب؛ بحيث لو سألَته جهة رسمية لأجابها بنفس الطريقة، مما يجعلك ترى الإخلاص في إفادة غيره دون التمييز بين نكرة لا يعرف وبين من اشتهر!

وأذكر مرةً أن سيدي الحبيب عمر زارني في بيتي، فجلسنا في مكتبة الفقير، فصار سيدي ينظر في المكتبة -وهي مكتبة لا بأس بها- وينظر في مجموعة كثيرة من الكتب وهو جالس، ثم قال: ما هذا ؟ فقلت: المصنف يا سيدي بتحقيق الشيخ محمد عوامة، فلم يطلب من المكتبة كتابًا غيره، فصار يتصفحه ويقرأ بعض النصوص فيه بصوت، ويتبسم، ثم أمرني بإعادته لمحله، فكان درسًا في معرفة الرجال للرجال رضي الله عنهم وعنا بهم.

والخلاصة: أن سيدي الشيخ حقه أن يفرد بترجمة موسعة، بل أن تقام حوله دراسات كاملة، فهو متعدد المواهب، متجدد العطاء، كثير الفضائل، وهو من أفراد أهل السنة في هذا العصر، ومن حسنات هذا الزمان، وهو –بلا شك- من مفاخر أهل السنة عمومًا والسادة الحنفية خصوصًا في وقتنا الراهن.

والكلام فيه طويل الذيل، وإنما خطرت هذه الخواطر على الفقير حينما وضعت جنبي، فأحببتُ مشاركتها مع إخواني، وأداء لبعض الواجب الذي له علينا؛ إذ كم استفدنا من كتبه.

اللهم متعنا به متعة كاملة، وبلغه فوق أمانيه، وأقر عينه في في نفسه وأهله وكتبه وأحبابه والمسلمين أجمعين، وعافه وابسط له الخير، واكفه ما أهمه وما لا يهتم به، وبلغه من القرب منك ومن رسولك صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم غاية أمله، وارزقنا الأدب معه والاستفادة منه على الوجه الأمثل.

والكلام فيه طويل الذيل جدًا، وإنما خطرت هذه الخواطر حينما وضعت جنبي، فأحببتُ مشاركتها مع إخواني، وأداء لبعض الواجب الذي له علينا؛ إذ كم استفدنا من كتبه . 

كتبت تعليقا على هذه المقالة: تعود صلتي بفضيلة شيخنا العلامة المحدث المحقق الأستاذ محمد عوامة في بواكير طلبي للعلم في مدينتنا حلب الشهباء منذ سنة 1396 وما زالت مستمرة ولله الحمد. وهو عالم محقق كبير مع عبادة وتقوى، أكرمني الله تعالى بقراءة شرح المنظومة البيقونية عليه لشيخنا عبد الله سراج الدين مرتين في حلب، والرفع والتكميل بحواشي شيخنا عبد الفتاح أبو غدة، ومقدمة ابن الصلاح، وصحبته في السفر في سورية لزيارة الشيخ عبد العزيز عيون السود في حمص ، وصحبته لزيارة كثير من اهل العلم ، وسافرت معه في عدة أسفار منها سفري معه إلى المغرب للمشاركة في مؤتمر علمي في الدار الحسنية، وفي تركيا في مؤتمر جائزة قاسم الناناتوي ،كما سعدت بمجالسته وزيارته في كل زيارة للمدينة المنورة ، وأغتنم رؤيته في زيارته لمكة المكرمة، وما زالت الصلة العلمية والقلبية مستمرة، ولا زلت أرجع إليه وأستفيد من نصحه وتوجيهه. أسأل الله أن يبارك لنا في عمره وعلمه وعمله وذريته ،وينفع به، ويزيده من فضله .

وكتبه : مجد مكي