الدكتور محمد عبد الله أبو صعيليك.. محدث فقيه فقدناه

انتقل إلى رحمة الله تعالى أمس (الثلاثاء 2-4-2024) صديقنا المحدث الفقيه الدكتور محمد عبد الله أبو صعيليك، وهو صديق الدراسة فقد التقينا في كلية الشريعة في الجامعة الأردنية في أوائل الثمانينات من القرن الماضي، وكان يسبقني بسنة دراسية على الأقل في الكلية، وقد كانت كلية الشريعة في هذا الوقت تعج بالطلاب الجادّين الغيورين على العلم وعلى الوطن.

كان في هذه الدفعة التي كنا فيها مجموعة قليلة من الطلاب التي تتابع المطابع والمكتبات وتعنى بكل جديد في تخصص الشريعة والأدب وغيرها، وكان على رأس هذه المجموعة الصديق المرحوم، بل لقد كان المرجع الحقيقي في معرفة المصادر والمراجع قديمها وحديثها للطلاب وكثير من الأساتذة في الوقت نفسه، وأتذكر في ذلك الوقت أن الدوام في الجامعة كان من السبت إلى الأربعاء، وكنّا مجموعة من الطلبة نلتقي مجتمعين وأحيانا متفرقين، غير أني اتخذت خطوة أن أكون مع هذا الصديق في كل يوم خميس، ذلك اليوم الذي كان يسمى في عرفنا في الكلية بيوم المكتبات، وكنا نمر على المكتبات وسط العاصمة نتلقف فيها كل جديد حتى تشكلت لدينا معرفة بالمصنفات لم نكن نحلم بها لولا ذاك الجهد الدائب.

كان الدكتور محمد رحمه الله من الطلاب المهتمين بعلم الحديث حتى كان أحد مؤسسي جمعية الحديث في الأردن، إلا أنه لم يقتصر على هذا الاختصاص فبرع في الفقه والعقيدة إلى جانب الحديث، وهو من القلائل في بلدي الذين جمعوا بين الفقه والحديث بدرجة عالية.

كان رحمه الله متواضعا خلوقا أديبا لم تؤثر فيه الدنيا، على الرغم من أنه عاش حياة قاسية كان يحدثني عنها أيام زمالتنا في الجامعة، ومثل هذه الحياة التي كابدها لم تثنه عن طلب العلم والتميز فيه، وأعتقد جازما أن كثيرين لو كانوا يكابدون مثل مكابدته في الحياة لما ثبتوا سنة واحدة في الدراسة، ولكنها همّة ورغبة مُنحها الصديق رحمه الله، لم تتوفر لكثيرين.

عرفت الكثير من طلبة الجامعة وغيرها من الجامعات ولكني لم أشهد ولم أعرف من التواضع ما كنت أعرفه وأشهده من الصديق رحمه الله.

لقد كان عالما متواضعا لم يثنه علمه عن عدم الانصات لكل سائل في العلم، ولم أعرف عنه غلظة في الجواب، ولا ما يشبهها مما نراه اليوم، فلقد كان متواضعا في كل شيء على دماثة في الخلق وحسن في السمت والمعاملة وطيب المعشر، كان إذا غضب سرعان ما يرجع إلى سمته المتواضع ولم يكن يحمل على أحد، بل كانت طبيعة حياته الحوار الهادي والمناقشة الجادة في تقرير المسائل، لم تثنه الدنيا برغم قساوتها عن سلوكه الجادة في العلم والتحصيل،  ولا اعتقد أنه يوجد في الأردن من كان يدانيه في معرفة المصادر العلمية وأين تتوفر في المكتبات، ولا أذكر أني رأيته طيلة فترة الجامعة إلا حاملا كتابا أو متحدثا عن كتاب.

كان رحمه الله واعيا لما يدور في المجتمع وكان على دراية كبيرة بأهل التخصص خصوصا، لا في الأردن وحدها بل في العالم الإسلامي، وكان واعيا أيضا بأحوال الناس في المجتمع مدركا لما يستجد فيه.

مع ذلك كله كان جريئا في الحق ولا يخشى فيه أحدا من البشر، وما موقفه من أحد المسؤولين في أحد الدوائر الشرعية بخاف على أحد، يوم وقف في وجهه وبين له ما يكتنف عمله من أخطاء، ولكن هذا المسؤول لم يحتمل اللقاء فنقله مباشرة من دائرته إلى مكان اخر حتى لا يراه في تلك الدائرة، وكان رحمه الله شديد الإنكار على من انحرف عن المنهج الرسالي في الدعوة إلى الله تعالى لا يداهن في هذا الجانب أحدا، وكان لا يتكلم إلا عن علم ومعرفة.

كانت قضية فلسطين والمسجد الأقصى من شغله الشاغل بعد ان يقضي أربه من تدريس العلم ومجالساته، ولم تغب عنه هذه القضية في أي لحظة من حياته، وكان يؤرقه موضوع تفرق المسلمين وعدم اجتماعهم ووحدتهم، وكان على وعي بما يخططه أعداء الإسلام للإسلام وأهله.

تخرج في الدكتوراة في تخصص الحديث الشريف ولم تتسع له أي جامعة لا عامة ولا خاصة على الرغم من دراية معظم أساتذة كليات الشريعة بتفوقه في هذا التخصص، إلا أن جميع الأبواب في هذا الشأن أوصدت دون دخوله الجامعات مدرسا وخبيرا، وهكذا حرم طلاب العلم والمعرفة من عطاء إنسان جاد ومتميز جدا، وتلك لعمر الحق مصيبة دنيوية في حرمان الأجيال من مثل هؤلاء العلماء، واليوم يوجد من هو حقيق أن يكون مدرسا في الجامعات يلهم طلبة العلم أصول المعرفة ويضعهم على جادة الطريق، ولكن يحال بينهم وبين ما يمكن أن يكون سببا في رفعة بلدانهم وأوطانهم، بحجج يعلمها كثير من الناس!!!

عاش الصديق المرحوم للعلم فلم ينقطع عن الدروس والمحاضرات في المساجد والمراكز حتى آخر لحظات حياته، ونحن في بلادنا للأسف الشديد لا نعرف الرجال وبخاصة العلماء منهم إلا بعد موتهم، فنتذكر علمهم وجهدهم وجهادهم بعد أن يغادرونا، ولا أدري ما يمكن أن نسمى هذا إلا أن يكون من صور العقوق الذي لا نظير له.

كتب الصديق المرحوم في جريدة السبيل الأردنية، وألف عددا نافعا من الكتب والتحقيقات العلمية التي ستشهد له يوم القيامة، وربما تغنيه عن نكران المجتمع له ولأمثاله.

صلينا عليه أمس وكان الجو صافيا مشمسا، فما خرجنا من المسجد إلا وقد انهمرت السماء بالماء مع سطوع أشعة الشمس، فهل هذا من بشريات الخير؟ نرجو الله ذلك، واليوم يا صديقي أودعك وقد بكت عليك عيناي، وما أظنني أنساك صديقا عالما فاعلا ممن قضى حياته في الخير والدعوة إليه.

كل العزاء لأهل صديقي من زوجة واولاد وبنات، وإلى عشيرة أبي صعيليك في الأردن وخارجها، وإلى تلاميذ الشيخ الدكتور المرحوم وأصدقائه ومحبيه، ولا نقول في هذا الشأن غلا ما يرضي ربنا فإنا لله وإنا إليه راجعون.

اللهم هل بلغت؟ اللهم فاشهد

تلك نفثة مصدور على صفحة تملؤها السطور

الأربعاء 3/4/2024م