الشهيد النقيب محمد جميل قسوم !!

انتهى المكلف بالإشراف على التنفيذ، من تلاوة نص القرار /23/ الذي قضى بإعدام عشرة عسكريين من مختلف الرتب ومدني واحد، وهو يتلكأ في القراءة، ويغص بالكلمات، وأعقب ذلك فترة من الصمت، فاستدار محاولاً إخفاء دمعات واجفة، وأحس بأنه يكاد يتمزق..

ثم هبت نسمة من نسمات الصيف الحار في حقل الرمي بـ "عرطوز" فحجب الغبار المتناثر الرؤية بينه وبين عناصر التنفيذ.

***

وقف النقيب محمد جميل في منتصف الكوكبة، شامخ الرأس، منتصب القامة، وكأن أربعة أشهر من التعذيب في أقبية "سرايا الدفاع" وزنزانات "الآمرية الجوية" عجزت عن أن تمحو ابتسامة رقيقة ارتسمت على شفتيه، وخفق القلب خفقات، وفاه الفم الذي لم يَنِ عن ذكر الله: "الحمد لله، بعد قليل أكون في جوار الرحمن".

وتمر بخاطره ذكرى آخر خطبة ألقاها في قريته، يوم أجهش المصلون بالبكاء، وهو يحدثهم عن "خبيب" الصحابي الشهيد، وكيف غدر به المشركون، وتذكر دعاء "خبيب" في ساعة كهذه الساعة: "اللهم إنا قد بلغنا رسالة رسولك، فبلغه الغداة ما صنع بنا، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً...".

كانت هذه الذكريات ومضة لم تلبث أن تبددت على صوت الجلادين:

ماذا تريد قبل تنفيذ الحكم؟

ابتسم النقيب ساخراً:

من سماه بالحكم؟ إنه لظلم!! لا أريد شيئاً إلا ماء أتوضأ به، ثم أصلي ركعتين.

ورفع كفيه في آخر صلاة له: يا رب يا رب... وعجلت إليك ربِّ لترضى.

ولم يمهلهم حتى ينطلقوا به إلى الخشبة، بل انطلق وهو يكبر، بصوت كأنه الرعد!! وذهل الجلادون لرباطة جأشه، وتماسكه في لحظة تنحني لها ظهور الرجال، ثم صاح بأعلى صوته: "تسقط الطائفية، لا ذنب لنا إلا أننا كشفنا الطائفية على حقيقتها، وقلنا ربنا الله".

وانهمر الرصاص، لينفجر الأحمر القاني، وتصعد الروح إلى بارئها فتتلقاها ملائكة الرحمة. وتتضوع الرائحة الطيبة من الروح الزكية، حتى تلقى الله "يا أيتها النفس المطمئنة، ارجعي إلى ربك راضيةً مرضية، فادخلي في عبادي وادخلي جنتي".

عرفته الملائكة ودعت له في كل سماء، وشيعته وتساءل أهل الأرض، وقد نعي إليهم النقيب الشهيد:

من هذا؟ من أين؟ وكيف استشهد؟

إنه النقيب "محمد جميل قسوم" من "الجانودية" قرية شمالي مدينة جسر الشغور، ولد سنة 1950م في بيت كادح لأبوين كريمين، وأنهى دراسته الابتدائية في قريته، وقد لفت نظر المعلمين مخايل الذكاء والنباهة التي تبدو على التلميذ الصغير، فأوصوا والده بأن يكمل له دراسته.

ويُتمّها في إعدادية القرية المسماة باسم شقيقه الشهيد "يوسف"، ويكون جميل من أوائل الذين تفوقوا في "الشهادة الإعدادية"، مما دفع بوالده إلى أن يرسله لإكمال دراسته الثانوية في جسر الشغور، وهناك يجد جميل ضالته في صفوف الشباب المسلم، وفي حلق العلم والذكر، ولا يكاد يوم الخميس يأتي حتى ينطلق إلى "حلب" ليعيش ساعات رضية، في أجواء جامع "العادلية" بعد أن اقتصد دريهمات يستعين بها على السفر.

وتمضي السنوات الثلاث من عمر الأخ الشهيد حافلة، وقد قرأ كل ما وصلت إليه يده من الكتب الإسلامية، وينتهي العام الثالث بعودته إلى القرية، وقد نال الشهادة الثانوية بتفوق ملحوظ، وتستقبله الإعدادية هناك ليعمل مدرساً للغة الإنكليزية ويجد الطلاب الإخلاص مجسداً في شخص مدرسهم، الذي لا يكبرهم إلا ببضع سنين.. وينتهي العام الدراسي.

ويقف الشهيد – رحمه الله – على مفرق جديد من حياته، إما أن يمضي إلى الجامعة، وإما أن يتطوع في الجيش، ولا تطول به الحيرة، فينطلق إلى الكلية الحربية، ويوفد في بعثة إلى مصر ثم يعاد مع بضعة عشر آخرين، لأنهم غير مؤهلين أن يستمروا بعدما أشارت التقارير إلى استقامتهم!

ويتخرج الشهيد ملازماً باختصاص "رادار صواريخ" عام 1973م، وتأتي حرب تشرين (التحريكية)، فيبدي الملازم المؤمن بسالة مع خيرة المقاتلين، وتظهر الخيانات، وتزكم الأنوف رائحتها، ويبدو عوار المزايدين، وتنكشف حقيقتهم، ويأبى الشهيد أن يذل لعشيرة النظام، وتبدأ السلطة المجرمة تمارس عليه ضغوطاً شتى، فتارة تحتجزه، وتارة تستدعيه للتحقيق، وأخرى تأمر بنقله في أنحاء القطر ما بين دمشق وحمص وطرطوس، تُتبعه بوصف لا يرتاح له المجرمون، ويكون آخر تحقيق معه في طرطوس. إذ يستدعيه "...." إلى مكتبه بتهم عدة، أقلها الصلاة في الثكنة في أثناء الدوام الرسمي.

- أنت تصلي يا ملازم أول جميل؟

- نعم أصلي.

- منذ متى؟

- منذ أن فرض الله الصلاة على أمثالي.

- يعني قبل أن تأتي إلى الجيش؟

- نعم، بكثير منذ أن كنت طفلاً.

- لكن، نحن حريصون على الوقت، لأننا نجابه الأعداء متربصين بنا.

- أعلم ذلك يا رائد "..."، وأحب أن تعلم أن الصلاة لا تضيع الوقت!

- على كل حال، لا نريد أن نخوض في هذا الحديث كثيراً، وكل ما أطلبه منك ألا تسبب لي مشاكل مع "..." لأني مراقب، كما أنت مراقب، أضف إلى ذلك أنني مسؤول.

- هل هذا أمر بمنع الصلاة؟!

- لم أقل ذلك، غير أنني أنصحك أن تصلي منفرداً، وإن استطعت أن تؤخر الصلاة إلى البيت فهو أفضل لك، ولي.. تستطيع أن تعود إلى مكتبك، وأرجو أن يكون كلامي مفهوماً.

ويستدير جميل، ويعود إلى مكتبه، ليجد أمراً بنقله إلى التدريب الجامعي في جامعة حلب، مع ثلة من خيرة الضباط المختصين!!

وفي الجو الجامعي الجديد يبدأ الشهيد يدعو، ويرى طلاب الجامعة ضابطاً يختلف عن الآخرين في معلوماته، وسلوكه، ومفاهيمه، ويرى فيه زملاؤه الضباط صديقاً نصوحاً، محباً للخير، داعياً إليه بالحسنى، فإن يئس من جليسه، لم يتركه حتى يوصيه بتقوى الله في نفسه وزوجه وأولاده.

ويرى فيه سكان "الأنصاري – حي صلاح الدين" شاباً مقداماً، وخطيباً مفوهاً، وترى فيه قريته التي لم ينقطع عنها داعية إلى الإصلاح، آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، ويكون آخر عهده بها قبيل اعتقاله بأيام، فإذا هي والقرى القريبة منها كئيبة حزينة، قد أرقها أنين جسر الشغور، وكوى فؤادها ما حل بالمدينة الباسلة من هدم وقتل، ويهول الشهيد ما يرى من آثار التدمير، ويتأكد للشهيد ولغيره من ضباط الجيش الأبي، أن الحقد الأسدي الذي يمزق وحدة البلاد أرضاً وشعباً، يجب أن يوقف عند حد، فلا يدخر – رحمه الله – جهداً في تقديم المعونة للمجاهدين ومساعدتهم، وتسارع السلطة مذعورة في حملة هستيرية لاعتقاله مع عدد من ضباط وأفراد الجيش الأباة في 27/3/1980.

وينقلون جميعاً إلى دمشق، ليجدوا في أقبية "المخابرات العسكرية" وزنزانات "الآمرية الجوية" أشد أنواع التنكيل والتعذيب. وتمر الليالي الداميات، وفي كل يوم يسمع أن ضابطاً قد سقط تحت التعذيب، أو أن عسكرياً انتهى هو بين أيديهم، وكم كان يؤلمه أن تفتح أبواب "المنفردات" ليسحب خيرة أبناء الأمة "بالبطانيات" من داخلها، بعد أن فارقوا الحياة.

ويأتي يوم الخامس من تموز سنة 1980م، وتفتح أبواب الزنازين في الصباح الباكر، وينقل جميل وثلة من أبناء الوطن المنكوب، مقيدي الأيدي، معصوبي العيون، إلى حقل الرمي "بعرطوز".

ويسقط الرجال عن صهوات الجياد، وقد طعنتهم الحراب في الصدور!

ويعود المجرمون إلى دمشق الثكلى، ملطخة أيديهم مسودة وجوههم، تلاحقهم لعنة الله والأمة، وتصل البرقيات إلى شعب التجنيد ودوائر الأحوال الشخصية، لتسقط من سجلاتها أحد عشر كوكباً، وتعود هوية الشهيد إلى قريته، وتعيش أحزان ليال ثلاث، ويبقى قلب الأب الصابر، والأم الثكلى معلقاً بالله، وقد قدما شهيدين في سبيله.

ويشرق الصباح على الشيخ العجوز والد الشهيد في زاوية من زوايا بيته الريفي، وقد أمسك حفيده "أنس" بإرث أبيه: سيدارة بقيت في البيت، وهوية أعيدت إلى أهل البيت، ليردد وقد جاوز الربيعين من عمره: با – بابا.

ويغمض الجد الكهل جفنيه المتجعدين، ليحبسا دمعة صامتة.