العلَّامة اللُّغويّ رمضان عبدالتوَّاب

 

أستاذِي وأستاذَ الأجيالِ العلَّامة اللُّغويّ رمضان عبدالتوَّاب .....صَحِيحٌ أنَّنِي لَسْتُ مِن طُلَّابِكَ، ولكنَّنِي مِن أَطلَبِ طِلابِكَ، أحبُّكَ يا دكتور رَمضان حبَّاً شَدِيداً لا يَعدِلُهُ حبٌّ آخر، أحبُّ كتبَكَ وما حوَتْهُ من معلُوماتٍ  لطيفة، ومراجع كثيرة، أحِبُّ خُلُقَكَ الرَّفيعَ الَّذِي مَلَكتَ بِهِ جِيلَ العُلَماءِ مِن طلبَةِ العِلمِ، أُحبُّ صَبَرَكَ فِي بُحُوثِكَ، أُحِبُّ إحسانَكِ لأبنائِكِ الطُّلابِ، الَّذِينَ أحبَبْتَهُم كَحُبِّكَ أبناءَكَ، أُحِبُّ أدبَكَ وإنصَافَكَ وقُدرَتَكَ أيضاً علَى فهمِ واقِعٍ استَعصَى علَى النَّابِهِينَ، لكِنَّكَ كُنَتَ إمامَهُم، صَحِحٌ أنَّنِي لَسْتُ مِنْ طُلَّابِكَ لكنَّنِي تَرَبَيْتُ علَى كُتُبِكَ، تَعلَّمْتُ مِنهَا، ثُمَّ درَّسْتُها وَفاءً لَكَ فَضِيلَة العالِمِ النِّحرِير، دَرَّسْتُ كتاب " فقه العربيَّة " عامين متتاليين.  وَحِينَ تَعرَّفْتُ إلَى أحدِ أبنائِكَ ازدادَ حبِّي لَكَ وتَضاعَفَ، إنَّه  الفّذُّ اللُّغويُّ خالد إسماعيل حسَّان راضي،  لَكَ مَدرسَةٌ تَتميّزُ بالدِّقّةِ والصَّرامَةِ فِي البَحثِ والتَّدقِقِ والتَّرتيبِ والتَّبويبِ واكتسابِ العِلمِ،  فانتَسَبْتُ إلَيها في غفلةٍ من أعينِ الرُّقباءِ، فَتَعلَّمْتُ مِنكَ الفَصَاحةَ والبَيانَ والدِّقةَ وَطولَ أناةٍ دُونَ أنْ ألتَقِيَكَ، فَكيفَ لَو قُدِّرَ لِي أن أتتلمذَ لَدَيكَ. رَحِمَك اللهَ وطيَّبَ ثَراكَ. 

مِيلادثهُ وَنشأتُهُ:

وُلِدَ العَالِمُ اللُّغَويُّ الدكتور رمضان عبد التواب فِي قريةِ قليوب بمحافظة القليوبية بمصر صباح يوم الجمعة في الثالث والعشرين من رمضان 1348هـ الموافق للواحِدِ والعشرِينَ من فبراير شُباط 1930م، وسُمِّي باسمِ الشَّهرِ الفَضِيلِ تَيمُّنًا بِهِ، وأَملاً فِي النَّيلِ مِن بَركتِهِ.

تلقَّى تعليمَهُ فِي المدرسةِ الأوليَّة، وكانَ تقديرُهُ فِي السَّنةِ الأُولَى 98%، وتَرتيبُهُ الأوَّلَ، وَمُنذُ ذلِكَ الوَقتِ عَرَفَ قِيمةَ التَّعليمِ، فكانَ يقرأُ كلَّ شيء، وأتمَّ حفظَ القُرآنِ الكريمِ استعداداً لدخُولِ المَعهدِ الدِّينيِّ، فقد وهبَهُ والِدُه للتَّعليمِ الدِّينِيِّ، ولم يَكُنْ يَكتَفِي بِحِفظِ القُرآنِ الكَريمِ، وإنَّما كانَ يَسأَلُ عن مَعانِي كلِّ شَيءٍ، حتَّى إنَّ شَيخَهُ الَّذِي كانَ يُحَفِّظُّهُ لقُرآنَ كانَ يَحارُ مَعَهُ فِي تَفسيرِ بَعضِ الآياتِ، فما كانَ مِنهُ إلَّا أنْ دَلَّهُ علَى تَفسيرِ الجَلالَيْنِ، فَاشتَراهُ وكانَ سَعيدًا بِهِ كلَّ السَّعادةِ، وأتمَّ حفظَ القُرآنِ الكَريمِ فِي سَنَةٍ وَنِصفٍ، وكانَتْ سِنُّهُ فِي ذلِكَ الوقتِ لا تَتَجاوَزُ عَشرَ سَنواتٍ. 

في المعهد الديني الأزهري

دَخَلَ المعهدَ الدينيَّ بعد اجتيازِ امتحانٍ في القرآنِ الكريمِ والحسابِ والإملاءِ، ووقتها وجد نفسه أمام الكتب الصفراء في الفقه والنحو والصرف وعلوم العربية المختلفة، وحفظ ألفية ابن مالك وهو في السنة الأولى بالمعهد الديني، وكان مبرزا بين زملائه، وكانَ دائماً ترتيبُهُ الأوَّل إلى أن أنهى المرحلة الثانوية، ليتأهل بعدها لدخول كلية دار العلوم. (بحث)

 

في كلية دار العلوم

كان دخول كلية دار العلوم يتم بعد امتحان على ثلاث مراحل: تحريريا ثم شفويا ثم شخصيا، وما كانت هناك كتب معينة يمتحنون فيها سوى الفقه من كتاب "جوهرة التوحيد"، وكانوا يُمتحنون في النحو كله، والبلاغة العربية كلها، والأدب وتاريخه، وكذلك التاريخ الإسلامي، والصرف والعروض، ثم بعد ذلك يُمتحنون شفويا في القرآن الكريم، ثم بعد ذلك الامتحان الشخصي، وكان يُسأل فيه أسئلة تربوية، ويُنظر إلى شخصيته وهندامه، ويُقيّم من جميع الجوانب الشخصية، وتقدم هو وزملاؤه للامتحان الأول، وكان عددهم 1500 طالب، نجح منهم في الامتحانات الثلاثة 200 طالب فقط ورسب الباقون، وكان الذين يدرسّون في كلية دار العلوم وقتها أساتِذةٌ يُدرِّسونَ فَلسفَةَ العِلم، يقف فيهم إبراهيم أنيس بنظرياته، وعباس حسن بغوصه فِي بُطونِ كُتُبِ النَّحو.

 

نشأ عنده حب القراءة، فكان يعكف في إجازات الصيف على قراءة كثير من الكتب الأدبية، فقرأ لكبار الكتاب مثل: الرافعي، والعقاد، وطه حسين، وغيرهم، وكان يتفق مع موزع الصحف أن يأتيه بكل الصحف التي كانت تصدر آنذاك، ويتقاضى منه نصف ثمنها بشرط أن يستردها سليمة معافاة قبل منتصف النهار، وكان يتردد على مكتبة دار الكتب منذ أن كان طالبا بالمرحلة الثانوية، وكان ترتيبه الأول بكلية دار العلوم في كل السنوات، وكان يحفظ كثيرا من الشعر العربي في كل العصور.

حينما كان يؤدي امتحان الليسانس الشفوي كانت اللجنة مكونة من الأستاذ عباس حسن والشاعر علي الجندي، وجاء امتحان النصوص فقال له علي الجندي: قل لي شيئا من النصوص التي تحفظها، فقال له: في أي عصر؟ ففتح عينيه متعجبا، وقال: أتحفظ كل العصور؟ فقال: نعم، قال: هات من العصر الجاهلي، فقال له: لمن؟ قال: وهناك اختيار أيضا في العصر الجاهلي؟ فقال: نعم يا سيدي، قال: هات شيئا لامرئ القيس، فقال: أي قصيدة لامرئ القيس: المعلقة أم البائية أم الدالية؟ قال: أتحفظ كل هذا لامرئ القيس؟ قل ما تشاء، ثم انتقل من امرئ القيس إلى علقمة، إلى طرفة، ثم قال في النهاية له الشاعر علي الجندي: فتح الله عليك يا بني، أنا لا أُري الدرجة لصاحبها على الإطلاق، ولكني سأريك إياها، وأعطاه الدرجة النهائية، وقال: ليت عندنا منك عشرا إذن لاستقام الأمر.

 

تخرَّج في كلية دار العلوم سنة 1956م، وكان ترتيبه الأول بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى، وحصل على 92.5%، وكان الثاني في الترتيب الدكتور عبد الصبور شاهين، وحصل على 89.5%، والدكتور عبد الصبور شاهين لم يكن في فرقته أصلا، بل كان يسبقه بعام، وكان أول دفعته أيضا، ولكنه اُعتقل في السنة الرابعة لمشاركته السياسية فأصبح في دفعة الدكتور رمضان رغماً عنه.

 

لم ينتظر الدكتور رمضان طَلبَ الكليَّة تَعيينَ مُعيدينَ، ولكنَّه سجل في السنةِ التمهيديَّة للماجستير، وفي السنة نفسِها دَرَسَ الدبلومة العامة في التربية بتربيةِ عين شمس، وفي الوقتِ نفسِهِ عُيِّنَ مدرِّساً بمدرسةِ النقراشي الإعدادية النموذجيَّة، وذات يوم كان يطَّلعُ على الصحف اليومية فوجد إعلاناً من كلية الآداب جامعة عين شمس عن بعثة إلى ألمانيا مدَّتها خَمسُ سنواتٍ، التخصص " فقه اللغة العربية " بشرط أن يكوَن الطالبُ حاصِلاً على ليسانس في اللغة العربية، فتقدَّم ومعه ثَلاثةَ عشَرَ طالبا من أبناء الكليَّةِ المُعلِنة، غير أنَّه كانَ المرشَّح الوحِيدَ الذي حَصَلَ على تقدير ممتاز مع مرتبة الشرف، وممتاز في مادة التخصص (فقه اللغة)، وفي نفس الوقت أعلنت كلية دار العلوم عن طلب معيدٍ واحد، واستقرَّ رأي الدكتور إبراهيم أنيس علَيهِ، ولكنَّه فُوجِئ بأنَّه يعد للسفر لبعثة، وهنا وقع في مأزق فهو يخشى أن يعينه فيترك الوظيفة ويسافر إلى ألمانيا ويضيعها على غيره، ويخشى أن يعين غيره فلا يسافر لأي سبب من الأسباب فيكون قد أضاع عليه الفرصة، فأخذ يُسوّف ويُرجئ في الإعلان إلى أن اتصل به الدكتور رمضان هاتفيا، وقال له: سأسافر غداً، وفي الاجتماع التالي تقرَّر تعيينُ الدكتور عبد الصبور شاهين معيداً، وقال الدكتور أنيس في قرار التعيين: يستحق هذِهِ الدرجةَ رمضان عبد التواب غير أنَّه بالبحث والتحري وُجِدَ أنَّه سافرَ في بعثةٍ بكليَّة الآداب جامعة عين شمس إلى ألمانيا، وعلى ذلِكَ يُؤخَذُ الذي يليهِ في الترتيبِ وهو عبد الصبور شاهين.

 

تَعلَّم في ألمانيا على أيدي أساتذةٍ مُتخصِّصينَ مَهرةٍ فِي الدراسات اللغويَّة، وأتقن اللغات الألمانية والسريانية والحبشية والأكادية والفارسية والتركية والفرنسية واللاتينية والعبرية والسبئية والمعينية، والتقى مع أساتذة عُظماءَ– في الدراسات اللغوية- أمثال: يوهان فك وهانزفير وأوتوشبيس وريتر وزلهايم، ودارَتْ بينَهُ وبينَ بعضٍ مِنهُم مُناقشاتٌ ومُحاوراتٌ ومُجادلاتٌ عن الإسلامِ؛ إذ كانَ بَعضُهُم مُتحامِلا علَى الإسلامِ، ولكنَّ هذا لم يَمنعْهُ من أنْ يُحَصِّلَ ممَّا لديهم من علم، ثُمَّ عادَ مِن البَعثةِ بعد أنْ أمضَى فيها 5 سنواتٍ حَصَلَ في أثنائِها علَى الماجستير والدكتوراه في اللُّغاتِ السَّامِيَّةِ من جامعة ميونخ بألمانيا بتقدير مرتبة الشرف الأولى سنة 1963م، وبعدَها تَسَلَّمَ عَمَلَهُ مُدرِّسًا بِكلية الآداب جامعة عين شمس.

 

المؤلفات

1- التذكير والتأنيث في اللغة- دراسة مقارنة في اللغات السامية- القاهرة 1976م.

2- لحن العامة والتطور اللغوي- القاهرة 1967م.

3- فصول في فقه العربية- القاهرة 1973م "ط أولى"، القاهرة 80- 1982م "ط ثانية"، القاهرة 1987م "ط ثالثة".

4- اللغة العبرية- قواعد ونصوص ومقارنات باللغة السامية- القاهرة 1977م.

5- نصوص من اللغات السامية، مع الشرح والتحليل والمقارنات- القاهرة 1979م.

6- في قواعد الساميات- العبرية والسريانية والحبشية، مع النصوص والمقارنات- القاهرة 1981م "ط أولى"، 1983م "ط ثانية"، 1988م "ط ثالثة".

7- المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث اللغوي- القاهرة 1982- 1985م.

8- التطور اللغوي- مظاهره وعلله وقوانينه- القاهرة 1981- 1983م، 1990م "ط ثالثة مزيدة".

9- بحوث ومقالات في اللغة- القاهرة 1982- 1988م.

10- مناهج تحقيق التراث بين القدامى والمحدثين- القاهرة 1986م.

11- مشكلة الهمزة العربية- بحث في تاريخ الخط العربي وتيسير الإملاء والتطور اللغوي للعربية الفصحى- القاهرة 1994م.

12- دراسات وتعليقات في اللغة- القاهرة 1994م.

13- العربية الفصحى والقرآن الكريم أمام العلمانية والاستشراق- القاهرة 1998م.

الكتب المترجمة

1- اللغات السامية- لتيودور نولدكه- القاهرة 1963م.

2- الأمثال العربية القديمة، لرودلف زلهايم- بيروت 1971- 1984م.

3- تاريخ الأدب العربي، لكارل بروكلمان (جـ 4 و5) القاهرة 1975م.

4- فقه اللغات السامية، لكارل بروكلمان- الرياض 1977م.

5- العربية- دراسة في اللغة واللهجات والأساليب، ليوهان فك- القاهرة 1980م.

 

المحققة

1- لحن العوام، لأبي بكر الزبيدي– القاهرة 1964م.

2- البلاغة، لأبي العباس المبرد– القاهرة 1965م "ط أولى"- 1985م "ط ثانية".

3- قواعد الشعر، لأبي العباس ثعلب- القاهرة 1966م "ط أولى"- 1995م "ط ثانية".

4- ما يذكر ويؤنث من الإنسان واللباس، لأبي موسى الحامض- القاهرة 1976م.

5- الحروف، للخليل بن أحمد الفراهيدي- القاهرة 1969م.

6- المذكر والمؤنث، لابن فارس اللغوي- القاهرة 1969م.

7- الحروف التي يُتكلم بها في غير موضعها، لابن السكيت- القاهرة 1969م.

8- المذكر والمؤنث، لأبي العباس المبرد- القاهرة 1970م.

9- كتاب الثلاثة، لابن فارس اللغوي- القاهرة 1970م.

10- البلغة في الفرق بين المذكر والمؤنث، لأبي البركات بن الأنباري- القاهرة 1970م.

11- كتاب البئر، لأبي عبد الله بن الأعرابي- القاهرة 1970م- بيروت 1983م.

12- كتاب الأمثال، لأبي فيد مؤرج السدوسي- القاهرة 1971م- بيروت 1983م.

13- زينة الفضلاء في الفرق بين الضاد والظاء، لأبي البركات بن الأنباري- بيروت 1971- 1987م.

14- القوافي وما اشتقت ألقابها منه، لأبي العباس المبرد- القاهرة 1972م.

15- مختصر المذكر والمؤنث، للمفضل بن سلمة- القاهرة 1972م.

16- كتاب الأمثال، لأبي عكرمة الضبي- دمشق 1974م.

17- المذكر والمؤنث، لأبي زكريا الفراء- القاهرة 1975م "ط أولى"- 1990م "ط ثانية".

18- الممدود والمقصور، لأبي الطيب الوشاء- القاهرة 1979م.

19- الوافي بالوفيات، للصفدي (الجزء الثاني عشر)، فيسبادن 1979م.

20- ذم الخطأ في الشعر، لابن فارس اللغوي- القاهرة 1980م.

21- اشتقاق الأسماء، للأصمعي- القاهرة 1980م.

22- ثلاثة كتب في الحروف، للخليل بن أحمد وابن السكيت والرازي- القاهرة 1982م.

23- الفرق، لابن فارس اللغوي- القاهرة 1982م.

24- ما يجوز للشاعر من الضرورة، للقزاز القيرواني- القاهرة 1982م.

25- التطور النحوي للغة العربية، لبرجشتراسر، القاهرة 1982م.

26- ما تلحن فيه العامة، للكسائي- القاهرة 1982م.

27- عمدة الأدباء في معرفة ما يُكتب بالألف والياء، لأبي البركات بن الأنباري- القاهرة 1982م.

28- ضرورة الشعر، لأبي سعيد السيرافي- بيروت 1985م.

29- شرح كتاب سيبويه، لأبي سعيد السيرافي (الجزء الأول)- الهيئة المصرية العامة للكتاب بالقاهرة 1990م.

30- الخطب والمواعظ، لأبي عبيد القاسم بن سلام- القاهرة 1986م.

31- الغريب المصنف، لأبي عبيد القاسم بن سلام (الجزء الأول)- القاهرة 1989م.

32- نجدة السؤَّال في علم السؤال، لأبي البركات بن الأنباري- عمان 1989م.

33- شرح كتاب سيبويه، لأبي سعيد السيرافي (الجزء الثاني)- الهيئة المصرية العامة للكتاب بالقاهرة 1990م.

34- لوح الضبط في علم حساب القبط، لابن المغربي– تحقيق ودراسة– مجلة معهد المخطوطات العربية 1968.

 

إنَّ الدكتور رمضان عبد التواب (رحمه الله) صاحب مدرسة علمية في تحقيق التراث نُسبت إليه، عُرفت بـ"المدرسة الرمضانية"، تمتاز بالمنهج الصارم في تحقيق النصوص التراثية، أرسى قواعدها والتزم بها طلابه. وكان يستقبل طلابه من جميع أنحاء الوطن العربي والإسلامي في بيته ومكتبته العامرة، وكان يعد لهم الطعام بنفسه ولا بد أن يأكل الجميع من الـ(يخني الرمضاني)، فكان حاتمياً في الكرم، وكان متواضعاً أشد التواضع، وكان - رحمه الله- تقياً ورعاً يخاف الله عز وجل، محافظاً على الصلاة ويحث طلابه على المحافظة عليها، عالماً غزير العلم

 

وإنَّ الجيلَ الذي تعهده برعايته وأحاطه بكف عنايته، ووجهه نحو الطريق الصَّحيح الذي رسمه له من خلال توجيهاته النافعة وآرائه السديدة وملاحظاته القيمة وحنانه الأبوي المتدفق كالشلال، إن هذا الجيل ما يزال يذكر له تلك الأيادي البيضاء، ولن ينسى ما بقي في أفراده نفس يتردد، وقلب ينبض، إنَّه أنموذج صحيح وقدوة حسنة لهم، ويكفيه فخراً وعزة ومكانة أن أبناءه المحبين له يدعون له كل يوم بأن يرحمه ويسكنه الفردوس الأعلى في الجنة.

 

رأيناه يرعى الغريب قبل القريب، ويفتح أبواب بيته للسائل ليل نهار، لم يرد طالبا، ولم يبخل على أحد بمشورة أو نصيحة، عهدناه يقضي جل وقته بين أبنائه الطلاب، يشرح لهم ويفسر، يهدي ويرشد، يدل ويوجه، ينبه ويحفز، والابتسامة لا تفارق شفتيه، والكلمات الرقيقة ينثرها هنا وهناك، والدعابة ترفرف على أجواء المكان. قال للمرحوم العَالِم الدكتور محمد خير الحلواني في مناقشته الدكتوراه: أنتَ السُّورِيُّ العَالِمُ، ولا تَقِلُّ شَأناً عن أُستاذِكَ الدَّقيقِ أحمد راتب النفاخ.

تَعقِيبٌ ورأيٌ

تَتَبَّعْتُ آثارَ هذا العالِمِ وبَحَثْتُ عنهُ جيَّداً بِتأمّلٍ ورَوِيَّة، فَوَقَفْتُ عِندَ أمرَيْنِ اثنينِ فِي تعامُلِهِ أَدهشَانِي وأَكسَبَانِي حُبَّ هذا الرَّجلِ وإجلَالَهُ:

الأوَّلُ: آثَرَ مِصرَ وأبناءَها وأعنِي هنا طُلَّابَ الدِّراساتِ العُليا، فكانَ لَهُم الأبَ والأخَ والنَّاصِحَ والمعَلِّمَ وأخيراً كانَ المُشرِفَ والموجَّهَ، وبعدَ أنْ تَكتَمِلْ عمليَّة البناءِ وقَطفِ الثِّمارِ، كانَ يَسعَى جاهِداً مُجاهِداً إلَى تَوظِيفِهِم ووَضعِهِم فِي أماكِنِهِم في الجامعاتِ المصريَّة وأحياناً العربيَّة، وتَوجِيهِهِم التَّوجِيه الصَّحيحَ السَّلِيمَ، وهذا ممَّا يَعسُرُ علَى كثيرِينَ من الأساتِذةِ والمشرِفِينَ، لَكنَّهُ كانَ سَهلاً علَيهِ ومُيسَّراً، وقد يَذهَبُ بِنَفسِهِ مِن أجلِهِم.

وآيَةُ هذا التَّوَجُّهِ أنَّهُ لم يَخرجْ إلَّا مرَّة واحِدةً للتَّعاقُدِ خارجَ مِصر مُيَمَّمَاً وَجهَهُ شَطرَ المملكة العربيَّة السُّعُوديَّة، فَقَضَى خمسَ سنواتٍ فِي جامعة الإمامِ مُحمَّد بن سُعُودٍ الإسلامِيَّة عادَ بَعدَها إلَى حاضِنَتِهِ الطلَّابيَّة التي أحبَّ، وعَمِلَ مِن أجلِها جلَّ حياتِهِ.

والثَّانِي: حُبُّهُ الشَّدِيدُ لِطُلَّابِهِ وَوُقُوفُهُ مَعَهُم في مَنشَطِهِم وَمَكرَهِهِم، عُسرِهِم ويُسرِهِم، وما أكثرَ عُسرَ طُلَّابِ العِلمِ، لأنَّ مُعظَمَنا كانَ كذلِكَ!!! فَكانَ يَتعهَّدُهُم بِشَغَفٍ أبويٍّ حانٍ، فيُقَدِّمُ لَهُم الطَّعامَ والشَّرابَ، والمأوى، ويُنفِقُ علَيهِم نَفقةً مِنهُ، فَكانُوا أبناءَهُ بِحَقٍّ، فَلَم يَنسَ هؤلاءِ العُلماءُ الصِّغارَ الَّذِينَ تَتَلمَذُوا لَهُ فَضلَهُ وأُبُوَّتَهُ، وقَد حَدَّثَنِي فِي دِمَشقَ أحَدُهُم فقالَ: ابتُعِثنا إلَى جامعة القاهرةِ مَطلَعَ السَّيعينيَّات من القرنِ الماضِي، فالتقَيْتُ أوَّلَ مرَّةٍ الدكتور رمضان عبدالتوَّاب فأكرَمَنِي أيَّما إكرامٍ وأرشَدَنِي إلَى ما يَجِبُ فِعلَهُ، ولن أنسى، يَومَها، مَعروفَهُ مَعِي ومعَ زُملائِي. 

وأختِمُ: صَحِيحٌ أنَّك غادَرْتَ هذا العالمَ الفانِيَ بِجَسَدِك لكنَّكَ بَقِيْتَ فِي نُفُوسِ طلَّابِ العِلمِ عالِماً مُهاباً وأستاذاً جلِيلاً، وآيَةً فِي التَّواضُعِ والتَّفانِي في التدرِيسِ والتَّربِيَّةِ والتَّعلِيمِ والإشرافِ، وصَحِيحٌ أنَّ القَبرَ ضَمَّكَ بينَ جَنبَيهِ، لكنَّهُ لم يَحظَ بِكَ وحدَهُ، بل إنَّ أثرَكَ أيضاً بينَ جوانِحِ مَنْ أحبَّكَ وتَعلَّمَ مِنك، وكذلِكَ مَنْ سَمِعَ عنكَ وَوَعَى ما كَتَبْتَ، فالعِلمُ رَحِمٌ بينَ أهلِهِ، وأنت مِنْ أَفضَلِ مَنْ علَّمَ ورَبَّى وأَفادَ.

 

وأخيراً ترجَّلُ فارِسُ العَربِيَّةِ

 

وفِي الثَّامِنِ من جمادى الآخرة عام 1422هـ ، الموافق لـ  للسابعِ والعِشرِينَ من آب  أغسطس سنة 2001م ترجَّلَ فارسُ العربيَّةِ المِعوانُ الِمضيافُ عن عُمرٍ يُناهِزُ الواحِدَ والسَّبعِينَ عاماً، كلُّها علمٌ وبركةٌ وخيرٌ، وإنْ كانَ قد غابَ عن عالَمِنا بِجسدِهِ فإنَّه لم يغبْ عنَّا بفكرِهِ وعلمِهِ وقِيمهِ التي غَرَسَها فِي نُفُوسِ طُلَّابِ مَدرسَتِهِ، وشيَّعه كَوكَبةٌ من العُلماءِ والباحِثينَ فِي مِصرَ والوَطنِ العربِيِّ مِن طُلَّابِهِ وَمُحبيهِ، وكلُّهم يَشهَدُونَ له بِالتَّقوى والصَّلاحِ والزُّهدِ والعَفافِ والتَّواضِعِ والكرمِ وَطِيبِ النَّفسِ، فقد جنَّدَ حياتَهُ لخدمةِ لغةِ القرآنِ الكريمِ، يُعلِّم ويُربِّي، ويُدافِعُ عنها ويَصُدُّ المُغرضِينَ، ولم يبتغِ الأجرَ علَى ذلِكَ إلَّا مِن ربِّ العَالمينَ، رَحِمَ الله الدكتور رمضان عبد التواب وأسكنَهُ الفِردوسَ الأَعلَى فِي الجنَّةِ.

 

صبحي الصالح

1345هـ/1926 م – 1407 هـ/1986 م

 

هو الشيخ العلامة الدكتور صبحي بن ابراهيم الصالح. عالم، فقيه، مجتهد، أديب، لغوي، مجاهد، شهيد،. وله إسهامات يضيق المجال عن إحصائها كلها.

 

ولد الشيخ  الدكتور صبحي الصالح عام 1926 م في مدينة الميناء الساحلية، التي تُشكِّل الامتداد الطبيعي والجغرافي لمدينة طرابلس/الشام، والتي عرفت عبر التاريخ بدورها العلمي الريادي، وبكونها ثغراً من ثغور الجهاد والرباط والمدافعة، ليس عن طرابلس فحسب، وإنما عن منطقة بلاد الشام كلها. 

تلقّى علومه الأولى في إحدى المدارس الابتدائية في الميناء، ثم التحق بكلية التربية والتعليم الإسلامية بطرابلس، وكانت من المدارس الثانوية الهامة في المدينة، إذ تخرج منها معظم قادة الرأي والفكر في ذلك الزمن. ومن تلك الفترة وهو في الثانية عشرة من عمره، برز نبوغه وتفوقه على أقرانه، سيما وأنه اعتلى المنابر في سنّ مبكرة كخطيب مفوّه، وأكثَرَ من القراءة والمطالعة ومجالسة العلماء في المساجد. ولعل من أبرزهم الشيخ عبد الكريم عويضة، الذي فطن لنجابته وذكائه، فساعده في التوجه إلى الأزهر الشريف بمصر لاستكمال دراسته بعد أن نال إجازة الكلية في العلوم الدينية والشرعية.

 

سَافَرَ صبحي الصالح إلى القاهرة عام 1934 م، وانتسب إلى كليَّةِ أصولِ الدِّينِ فِي الأزهرِ، فَحَصَلَ علَى الإجازةِ عام 1947 م، ثم على الشهادة العالمية عام 1949 م. وفي الوقت نفسه، كان يتابع الدراسة في كلية الآداب في جامعة القاهرة، فحصل على الليسانس في الآداب العربية بدرجة امتياز عام 1950 م.

عاد الشيخ صبحي الصالح إلى طرابلس، فمكث فيها فترة وجيزة، ثم شدّ الرحال ثانية إلى فرنسة، فأتقن لغتها في وقت قصير، ثم التحق بجامعة السوربون في باريس، فنال منها دكتوراه في الآداب عام 1954م على أطروحته " الدَّارُ الآخِرةُ في القرآنِ الكريم" و" الإسلام وتحديات العصر". وقد قدَّمَهُما باللُّغة الفرنسية التي كان قد بلغ فيها مستوى كبار كتابها وأدبائها.

 

وبعد باريس، توجَّه صبحي إلى التعليم الجامعي، الذي أمضى فيه ما ينوف عن اثنين وثلاثين سنة. إذ بدأ بجامعة بغداد (1954-1956 م)، فجامعة دمشق (1956- 1963 م)، فجامعة بيروت العربية (1963-1986 م)، ثم الجامعة الأردنية (1971-1973 م)، فاللبنانية (1973-1983 م). وفِي الجامعةِ اللبنانيَّة، انتُخِبَ رئيساً لقسم اللغة العربية وآدابها منذ عام 1957 م، ثم عُيّن عميداً لكليَّةِ الآدابِ فيها.

 

إلى ذلك، فقد حاضر العلامة الصالح بصفة أستاذ في عدد من الجامعات العربية، منها: جامعة محمد بن سعود الإسلامية في الرياض، وجامعة محمد الخامس في الرباط، والكلية الزيتونية في الجامعة التونسية. كما أشرف على الرسائل الجامعية في جامعة ليون الثالثة، وجامعة باريس الثانية.

 

بالإضافة إلى ذلك، فقد تزامن عمله مع نشاطات أخرى وإسهامات كثيرة. فمنذ أن كان في باريس طالباً، تشارك مع محمد حميد الله الحيدر آبادي بتأسيس أول مركز إسلامي ثقافي بفرنسا، وصار خطيب الجمعة فيه طوال مدة إقامته هناك، والتي استغلها أيضاً في تعليم اللغة العربية لعدد من الطلاب الأفارقة. كما في إلقاء المحاضرات في الأندية الثقافية الفرنسية. وبعد عودته إلى الوطن العربي انتخب عضواً في المجمع العلمي العراقي، كما انتخب عضواً في مجمّع اللغة العربية في القاهرة، وفي أكاديمية المملكة المغربية، وفي لجنة الإشراف العليا على الموسوعة العربية الكبرى في سورية. وفي حزيران من العام 1986 منحته المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم جائزة "التفكير الاجتهادي في الإسلام". 

 

وفي لبنان، بعد عودته إليه، انتخب الدكتور الصالح نائباً لرئيس المجلس الإسلامي الشرعي الأعلى، فنائباً لرئيس المجلس الاستشاري لدار الفتوى، ثم أميناً عاماً لرابطة علماء لبنان، ورئيساً للجمعية الخيرية لرعاية أطفال المسلمين في لبنان، وغير ذلك من الأندية والمؤسات التي كانت تعتبره الموجّه لتطلعاتها وتوجهاتها في غير حقل وميدان، والتي تهافتت عليه من كل حدب وصوب طمعاً في محاضرة، أو مشاركة في مؤتمر، أو تأييداً لنشاط، أو تحرك مرتقب...

 

وما إن أطلت السبعينات من القرن العشرين الميلادي، حتى كانت شهرة العلامة الدكتور صبحي الصالح قد طبقت الآفاق، فصار يُصنَّف بين كبار الفقهاء المجتهدين المعاصرين، وأقبل عليه الطلاب من مختلف الأنحاء، ودخلت كتبه ومؤلفاته في صلب البرامج التربوية لمختلف الجامعات العربية والإسلامية، كما صارت مراجع هامة في الفقه والأدب واللغة والعلوم الدينية والفكرية، لكل عالم وباحث وطالب. ويكفي أن ننقل شهادة أحد المفكرين المعاصرين، وكان من طلابه في جامعة دمشق. يقول عيسى فتوح: "كان إذا ألقى درساً، يتدفق كالسيل، فهو بحر زاخر من العلم والمعرفة، والنباهة والألمعية والذكاء، يغرف من ذاكرته الحية التي اختزنت تاريخ الأدب، قديمه وحديثه، وأحاطت بالأدبين العربي والفرنسي على حد سواء".

ومما لا شك فيه، أن العلامة الصالح قد أضاف إلى ما تلقّنه في طرابلس والقاهرة من علوم ومفاهيم، أضاف إليهما ما تلقّنه في باريس من عصارة المذاهب الفلسفية والأدبية والاجتماعية، عندما دارس المفكرين والمستشرقين واغترف من مكتبات فرنسة روائع الفكر الإنساني، واطّلع على مناهج وركائز الحضارة الغربية، وراقب مسيرة الحداثة التي غيّرت كثيراً من القيم والنظم. فلم يفقد ذاتيه الإسلامية، ولم يتخلَّ عن أصاله الحضارية العربية، ودون أن يضيع في متاهات الإنجذاب والإنصهار في التيارات الثقافية الغريبة عن أصالتنا، كما يقول المفتي الشيخ طه الصابونجي. وإذ ذاك فقد تبلور نهجه الفكري على الثوابت والركائز التالية:

- الدعوة إلى إطلاق الإجتهاد من جديد، بعد أن قيّدته أغلال الجمود والتخلّف والركود، فكان يدعو لأن يكون القرن الخامس العشر الهجري قرن الإجتهاد حتى يصبح الإجتهاد ظاهرة غالبة، لأن توقف الإجتهاد، قد جمّد الفكر الإسلامي، وحال دون اتساع دائرة الإسلام، ودفع البعض ليكونوا عالة على الآخرين، يستعيرون منهم وكانوا يعيرونهم ويستمدون منهم، وكانوا يمدونهم ويقلّدونهم، وكاوا قادة لهم.. وكان يقول: "إن حاجة الأمة إلى الإجتهاد مسلَّمَة بديهية لم تكن في نظر القدامى تفبل الجدل حتى تحتمل التأجيل عند المعاصرين. فحاجتنا اليوم كبيرة إلى تنمية الفكر الإجتهادي، وتوسيع مجالاته، والتنسيق بين جميع عملياته بين روح الشريعة ومقاصدها العامة وبين إيجاد الحلول المناسبة لمعضلات الحياة العصرية في كل الميادين". ثم يردف آراءه هذه بقوله: "لن نكون بحاجة إلى أشخاص المجتهدين وألقابهم ومراتبهم، بقدر حاجتنا إلى توعية تفكيرهم واجتهادهم واختصاصهم، تمهيداً إلى يوم نُوفَّق فيه إلى إنشاء "المجتمع الإجتهادي الجماعي" على مستوى العالم الإسلامي، عملاً بقول الرسول، عليه السلام، في ما لم ينزل بشأنه قرآن: (اجمعوا العالمين أو العابدين من المؤمنين، فاجعلوه شورى بينكم ولا تقضوا فيه برأي واحد(.

.

- الإيمان بالتكامل المطلق بين الإسلام والعروبة، بكل ما يعنيه ذلك من إحياء للقيم الروحية والإيمانية في النفوس، والسعي الدؤوب لتحقيق الوحدة العربية والتضامن العربي بعيداً عن التحزّب والتعصّب الطائفي والمذهبي والمناطقي "هذه الأمراض التي اعتبرها طاعوناً يفتك بوحدة الأمة والوطن والمجتمع".

-    الدعوة إلى الحرية بكل معانيها وصورها وميادينها وأجنحتها. والحرية التي يدعو إليها تقوم على مبدأ القبول بالآخر وبالرأي الآخر. يقول: "لقد زرت أكثر دول العالم، واطّلعت على ثقافات الأمم، لإزالة الجهالة والتماس سبل الإسلام، وتبادل المنافع للجميع، وإسقاط أسباب الصراع وإنماء روح المحبة، وتبادل موجبات الاحترام. وإذ هو يدعو للحرية، فقد ربط ربطاً محكماً بين كل أجنحتها: السياسية والإجتماعية والفكرية والإقتصادية والدينية.. وإذ ذاك، فقد رفض المنهج الماركسي/الشيوعي المادي، لإهماله ومعاداته للحرية الفردية والسياسية، كما رفض المنهج الليبرالي/الرأسمالي، لإهماله ومجانبته للحرية الإجتماعية والعدالة بين طبقات وفئات المجتمع. ففي كتابه: "النظم الإسلامية"، الذي أصدره عام 1965 م، تلاقى مع المنهج الإجتماعي والإقتصادي الذي طرحته الثورة الناصرية أولئل الستينات من القرن الماضي والذي كان سائداً في الساحة العربية يومذاك، والذي يدعو إلى الربط بين جناحي الحرية: الحرية السياسية والحرية الإجتماعية أي بين تذكرة الإنتخابات ورغيف الخبز. وبذلك يكون الدكتور صبحي قد ساهم في تكريس هذا المنهج، وشارك في مجابهة الغزو الثقافي الغربي والمناهج الفكرية الغربية والتي كانت شرارتها قد فعلت فعلها في النفوس والعقول وزادتها تشرذماً وانقساماً وضياعاً..

 

- ومن الركائز الثابتة في فكر ونهج العلامة المحافظة على اللغة العربية وعلومها، مع إدراكه، وهو اللغوي القدير، ما للغة من دور في توحيد الأمة العربية وإعزاز إيمانها، وصقل وجدان أبنائها، والمحافظة على تراثها وحضارتها، وبالتالي على هويتها القومية التي إن فُقِدت تلاشت الأمة وفَقَدت مقومات ومبررات وجودها بين الأمم والشعوب.. وربما لذلك كتب العديد من المحاضرات والدراسات اللغوية، كما أَلَّف كتاب "فقه اللغة" الذي اعتبر من المراجع الهامة في العصر الحديث.

 

ولقد التزم الشيخ صبحي بهذه الثوابت في كل آرائه وكتاباته ومواقفه طوال سنيّ حياته.. ومن أجل ذلك استشهد كما سنرى.

 

فعلى الصعيد السياسي والوطني والقومي التزم الدفاع عن القضية الفلسطينية منذ نشأتها، باعتبارها القضية المركزية والمحورية للنضال العربي فكتب فيها العديد من الأبحاث والدراسات وألقى العديد من المحاضرات التي تحثّ على تحرير فلسطين معالجاً أسباب النصر وأسباب الهزيمة بفكر ثابت ورؤية عميقة للأمور جعلته محط أنظار القوى المعادية من جهة، وملجأ المجاهدين الفلسطينيين والعروبيين من جهة أخرى، والذين لم يبخل عليهم بنصح أو استشارة أو توجيه.. وهو واكب كل القضايا الوطنية والقومية وساهم في نشاطات لا تُعدّ ولا تُحصى في مواجهة التحديات التي واجهت وتواجه العرب في العصر الحديث. ومنها أنه عندما كان في فرنسة مطلع الخمسينات كان يلتقي بشكل حثيث بالطلاب الجزائريين في باريس ويتدارس معهم في كيفية قيام الثورة لتحرير الجزائر، والبعض من هؤلاء صار لاحقاً من قادة الثورة الجزائرية حافظين للشيخ صبحي دوره وإسهاماته وتوعيته.. حتى إذا انفجرت الثورة الناصرية في مصر عام 1952  فقد وجد فيها متنفساً يُعبِّر عن آماله وأحلامه ونبراساً يزيل ما علق في النفوس من يأس وقنوط. فهبّ مساهماً في معاركها، مدافعاً عن أهدافها في مواجهة أعداء الداخل والخارج.

 

وهكذا فعل في مواجهة العدوان الثلاثي عام 1956 م، وفي عدوان 1967 م، وفي حرب 1973 م. وكذلك في كل معارك التحرر العربي وجلاء الاجانب وقواعدهم العسكرية عن غير قطر وأرض عربية في الخمسينات والستينات من القرن العشرين الميلادي

.

أما على صعيد لبنان، فقد شنّها الصالح حرباً شعواء على الطائفية والمذهبية، داعياً إلى وحدة لبنان وعروبته، وإقامة العدالة بين أبنائه وطوائفه ومناطقه. حتى إذا اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975م، بكل ما حملته معها من مخاطر تقسيمية، وتهديد للكيان الوطني اللبناني برمّته، وتغلغل للأيدي الصهيونية في الواقع اللبناني، عبر المليشيات المسلحة التي تقاسمت المناطق والمؤسسسات، وأذكت نيران الحروب والفتن الطائفية والمذهبية والمناطقية.

 

أمام كل ذلك، وجد الشيخ صبحي نفسه في خندق الوحدويين العروبيين المتمسكين بالعيش المشترك، والرافضين للتقسيم والتهويد والإدارات المحلية التي أفرزتها الميليشيات المحلية المدعومة خارجياً، والمدججة بكل أنواع السلاح والقوة والجبروت، والتي تعمل بوحي الشعار: "لكل طائفة حزبها القائد، ولكل منطقة إدارتها المحلية".

 

أدت الحرب وتطوراتها وتفاعلاتها إلى واقع لا تحمد عقباه، وصار معه لبنان على شفير التلاشي والهلاك والفناء، ولا سيما بعد الاجتياح الإسرائيلي واحتلال بيروت، وخروج المقاومة الفلسطينية عام 1982 م.

لقد أعقب ذلك اتفاق الميليشيات، بما عرف "الاتفاق الثلاثي"، على تسلّم الأمن في بيروت بديلاً عن السلطة الشرعية، تمهيداً لسحب المشروع على بقية المناطق والمحافظات. وكان ذلك يعني أن التقسيم يقرع الأبواب، وأن المشروع الصهيوني القديم بتحويل المنطقة إلى دويلات طائفية متناحرة، قد صار قاب قوسين أو أدنى.

إزاء ذلك، هبّت الحركة الشعبية اللبنانية، ونزت إلى ساحات العمل والجهاد، بالكلمة الطيبة وبالإحتجاجات والإعتراضات السلمية الديمقراطية. فكانت الدعوة إلى الإضراب المفتوح عام 1985 م، والتي بادر إلى إطلاقها السيد كمال شاتيلا "رئيس المؤتمر الشعبي اللبناني"، وأحد أبرز القادة العروبيين في بيروت.

وإذ كنت ممن شهد هذه المعركة وشارك فيها، فقد لاقت تأييداً شعبياً عارماً ليس في بيروت وحدها، وإنما في مختلف المناطق، وعند غير طائفة ومذهب.

 

لقد نتج عن هذا الإضراب، حركة معارضة شعبية متصاعدة، وعزلة تدريجية للمليشيات التي ارتكبت، وسقط في يدها أمام المدّ الشعبي المتنامي والذي كان الشيخ صبحي الصالح مواكباً له، بل ومشاركاً فيه بالدعوة، والكلمة الطيّبة، والمقالة البليغة، والموقف الجريء.