نور من الذكرى : الشيخ محمد زين العابدين جذبة

 


الحب لله ، ولرسوله ، ولعباده 

 


تتردد كلمة الحب كثيراً على ألسنة البشر جميعاً منذ الأزل وحتى الآن ، وكل جماعة تفسر الحب وفق موروثها الديني أو الاجتماعي أو الثقافي .
المسلم الملتزم بعبودية الخالق ، يردد لسانه: ( إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ) فهو يجعل محبة الله هدف سعادته في الدنيا والآخرة: ( الذين آمنوا أشد حبا" لله ) .

وقرن الله محبته بمحبة رسوله: ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر ذنوبكم ).

 وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن محبة الله لعباده تتناسب مع محبة عباد الله لبعضهم بعضاً: (الخلق كلهم عيال الله أحبهم إلى الله أنفعهم لعياله ).
كان والدي –رحمه الله- محباً لله، ومحباً لرسوله، ومحباً لعباد الله ، قضى عمره في ساحات الإيمان متعلماً ومعلماً، يغرس بذور الحب في قلوب عباد الله .

 ولم يكن عمل عالم الدين نزهة في ضوء القمر.
 عالم الدين يحمل نور النبوة إلى قلوب عباد الله ، ليقدح الفتيل الخامد .
 عالم الدين يبحث عن قلب رجل مسلم ، ليغرس فيه شجرة الخوف من الله .

 عالم الدين يرشد عباد الله إلى قمر الهداية في ليالي الحياة المظلمة المكفهرة بضلالات الجاهلية ، ويشير إليهم إلى أنوار بيوت الله ، وأن الله يسمع نبض قلوبهم المستغفرة :( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعاني فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون ) .

كان أبي - رحمه الله – محباً لربه ومحباً لرسوله ، أكرمه المولى (95سنة ) وكانت صحته جيدة، لم يصل جالساً، كان يقف خاشعاً ذاكراً.

 وكان يقرأ القرآن بدون نظارة بمصحف صغير: ( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ).

كان والدي يردد أن محبة الناس للعالم ، تأتي من محبة العالم لربه ، والحب الخالص لله ، يجعل عملك وعلمك خالصاً لوجهه ، ليس فيه كسب مادي أو كسب اجتماعي .

 وكان يضرب لنا أمثلة عن علماء عاملين أمطار قلوبهم ، زرعت غابات خضراء في قلوب المجتمع الحلبي ، لازالت هذه الغابات الإيمانية ، تأتي أكلها حتى الآن ، هؤلاء العلماء يعطر ذكراهم المجالس .
كان يقدم استقالته من الوظائف الدنية تباعاً ، كلما شعر أنه غير قادر على القيام بأعباء الوظيفة ، وقد ذكر لي الأستاذ الفاضل الشيخ أحمد تيسير كعيد ، وكان مسؤولاً عن التفتيش الديني ،قدم والدك رحمه الله استقالته من تدريس درس المحافظة، فرجوته أن يجعل دروسه في المسجد القريب من بيته ، فأبى ، ثم رجوته أن يجعل دروسه في منزله ، فأبى ، وأصر على الاستقالة.
كان محباً لله ولرسوله : تبدأ عبادته الفجر عابداً  ناسكاً، يقرأ ورده من القرآن ثم يقرأ صحيح البخاري فإذا انتهى من شرح العسقلاني بدأ بشرح البدر العيني ، ثم يختم جلسته بأدعية وأذكار .
ومحبة الوالد –رجمه الله –لإخوته من عباد الله ، تتحرك من ينابيع متعددة .

أكثر من خمسين سنة وهو يعلم في المدارس الشرعية بحلب ، وقد ذكر أنه قد حضر عنده الجد والابن والحفيد، وإذا التقى مع تلميذ له ، وقد أحنت السنون ظهره ، يقول له : ممازحاً متواضعاً ، نحن التقينا في قاعة صف واحدة.
الحب الإنساني ، يذكر أخوة الإيمان في المنشأ والمصير الواحد ( إنما المؤمنون إخوة ) .

وقد علم في المدارس الشرعية العلوم الإسلامية المتعددة ( الفقه – الحديث – السيرة – العقيدة – المنطق )، وفي دروسه في المساجد كان أخاً ومرشداً وموجهاً لمريديه، كان يكره الكبر والخيلاء ، وكان يكرر أن الإسلام ، حرم كل ما يمس كرامات الناس وأحاسيسهم .

وكان يأخذ نفسه بالعزيمة والشدة في أمور الدين ، بينما كان يختارلسائلية الأيسر، وكان يردد قول رسول الله: ( إن هذا الدين يسر لا عسر ،ولن يشاد الدين أحد إلا غلبيه ) .

ولم يقتصر عمله في المدارس الشرعية والمساجد ، بل كان يمتد إلى الشارع ، كل من يسأله سؤالاً شرعياً يقف معه مستمعاً له ، ثم يجيبه بكل هدوء وبساطة ، ويتأكد من فهمه للجواب ، ويودعه بابتسامة ودعاء له بالتوفيق .

 الحب يجعل المرء متودداً لأخيه يتمنى له الخير والمنفعة ، باذلاً أمامه كل مايسهل له أمر حياته .
( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه مايحبه لنفسه ).

 من دروس الحب التي كنت أتلمسها أنا وإخوتي من والدي – رحمه الله- أنه كان محباً لشيوخه في المدرسة الخسروية ، كان يذكرهم دائماً ويدعو لهم ، ويترحم عليهم ، وكانت صورهم ماثلة في عقله وقلبه ، ويطلب من أولاده الوفاء والحب لمن قدم لهم معروفاً،  وكان يردد: (سِمْ سِمَةً ( تـَـُحْمَدُ ) آثارَُهــا ** واشكر لمن أعطى ولو سِمْسِمَهْ ) .

العالم الشيخ يحمل في جنباته قمر الحضارة والروح ، فقد جعل الله العرب خير أمة أخرجت للناس ، يذكر الوالد شيخه أباالنصر بكل حب ، وقد دعاه الحب ليزوره في منبج .
كان لوالدي – رحمه الله – جولات في قرى ومناطق حلب يزور تلاميذه وأصدقاءه، لتتشابك القلوب على محبة الله .

 وكان الوالد – رحمه الله- يصحب أولاده لزيارة علماء حلب –رحمهم الله – في مساجدهم ، يحضر دروسهم وأذكارهم وجلساتهم.
الشيخ محمد النبهان في جلسته مع طلابه يوم الاثنين بعد العصر في جامع الكلتاوية ،  ويوم الجمعة هو يوم عيد وعبادة ، هناك الذكر في جامع العادلية بإشراف الشيخ عبد القادر عيسى بعد صلاة الجمعة ، وبعد صلاة العصر هناك الذكر في الزاوية الهلالية ، وبعد الانتهاء من الذكر هناك جلسه في الجامع الرومي عند الشيخ رجب الطائي مع محبيه .

إن مجالسة العلماء الذين نفضوا أيديهم عن غبار الدنيا ، وتعلقت قلوبهم بقناديل الرحمن يرجون رحمة الله لهم ولمريديهم .
عندما كان الشيخ عبد الله سراج الدين – رحمه الله – مجاوراً لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – في المدينة المنورة وحين كان والدي – رحمه الله – يذهب لأداء العمرة ، كان يصحبني معه في زيارته للمدينة ، لزيارة صديقه الشيخ عبد الله سراج الدين .

 كنت أقرأ في وجهيهما آيات الحب تطفح في الغرفة فتنيرها ، اللقاء كان خالصاً  لوجه الله ، أمطار الخير تتساقط من أيديهما ، وعيونهما تنظر إلى الله .
الشيخ عبد الله سراج الدين ترك مدينته حلب أرض الخير والبركة والعلماء، وفيها مدرسته الشعبانية ( جمعية التعليم الشرعي ) التي استمد أساس بنيتها من بركة رسول الله لتملأ شعاب حلب ووديانها بالعلم الشرعي ، وقد عز فيه هذا العلم ، ونضب فيه الضرع ، واستغاث الناس بالشيوخ الركع .

كان الشيخ عبد الله ناعم الصوت، كان صوته يخرج من قلب ، يسأل عن إخوته العلماء الغائبين في المدرسة فرداً فرداً، ويسأل عن الطلاب العلماء عند كل شئ بفيدهم بالمستقبل ، حتى يحملوا رسالة رسول الله إلى أبناء مدينتهم الخالدة وينتهي اللقاء بالأمل والعزيمة ( إن الله يحب المتقين )، ( إن الله يحب المتوكلين ) .
هذه الكلمات ارتسمت على جدار ذاكرتي ، وهي كلمات قليلة مما سمعته أو رأيته من والدي – رحمه الله – أتمنى من محبيه وتلامذته أن يرفعوا رايات الحب لله ولرسوله في ديناهم .