الشيخ محمد البشير الإبراهيمي

حدث في الثامن عشر من المحرم 1385

 

 

في الثامن عشر من المحرم من عام 1385 الموافق 20 أيار/مايو 1965 توفي في الجزائر، عن 79 سنة، الإمام المجاهد والعالم الأديب والخطيب المصقع الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، أحد رواد النهضة الإسلامية في الجزائر والمغرب العربي.

 

ولد محمد البشير  ‏بن محمد السعدي بن عمر الإبراهيمي في 13 شوال 1306=منتصف 1889، في بليدة تدعى أولاد ابراهيم، وهي اليوم تتبع بلد رأس الوادي في ولاية برج بوعريريج من الجزائر، والتي تقع في منطقة الهضاب العليا الشرقية، وتبعد قرابة 150 كيلومترا عن ميناء بجاية على البحر الأبيض المتوسط، وغالب سكانها من البربر.

 

ولأسرة الإبراهيمي تاريخ قديم في العلم يرجع إلى قرون، وكانوا مرجعا في الفتيا الدينية، والصلح بين العشائر، وملاذا لطلبة العلم لا تخلو بيوتهم من عشرات منهم يرحلون إليهم من أقاصي البلاد، فيقومون بإطعامهم وتعليمهم، ومنهم من لا يخرج من بيتهم إلّا عالما، وكان جده لأبيه الشيخ عمر الإبراهيمي عالمهم الكبير، وقد أدركه محمد البشير قبل وفاته، وكان البشير الولد الوحيد لوالده من الذكور.

 

تلقى البشير الإبراهيمي تعليمه الأول على يد عمه شقيق أبيه الأصغر الشيخ محمد المكي الإبراهيمي، الذى لاحظ أن الولد قد رزق حافظة عجيبة وذاكرة قوية، فاستغلها في تعليمه؛ فجعل له برنامجاً تعليمياً في ليله ونهاره، وكان يملي عليه من شعر العرب القدماء والمحدثين، وحفظ البشير القرآن الكريم مع معالم مفرداته وهو ابن تسع سنين، وحفظ مع ذلك في أثناء هذه المدة المتون المهمة في العلم، وتفقه في قواعد النحو والفقه والبلاغة، وشهد في يفاعته في منطقته كيف هجر الفرنسيون كافة القبائل التي حاربتهم في جبال البيبان دون رحمة أو شفقة، وسميت هذه الجبال بالبيبان لوعورة مسالكها وارتفاع قممها.

 

وتوفي عمه سنة 1320=1903 وقد ترك تلميذا نجيباً وعالماً متمكناً، فخلفه الإبراهيمي في التدريس، وانثال عليه طلبة العلم من البلدان القريبة، والتزم والده بإطعامهم والقيام عليهم كعادة الأسرة، وفي سنة 1326= 1908 خرج والده من الجزائر إلى المدينة المنورة هرباً من ظلم المستعمر الفرنسي، وفي سنة 1330=1911 لحق الإبراهيمي بوالده، وفي طريقه مكث في القاهرة 3 أشهر درس فيها على بعض علماء الأزهر، وزار الشاعرين أحمد شوقي وحافظ إبراهيم، وفي المدينة المنورة تابع تعليمه في الفقه والحديث والنحو واللغة، وكان أكبر شيوخه في دراسته الشيخ العزيز الوزير التونسي، والشيخ حسين أحمد الفيض أبادي الهندي، قال البشير الإبراهيمي: كانت إقامتي بالمدينة المنوّرة أيام خير وبركة عليّ، فكنت أنفق أوقاتي الزائدة في إلقاء دروس في العلوم التي لا أحتاج فيها إلى مزيد كالنحو والصرف والعقائد والأدب، وكنت أتردّد على المكتبات الجامعة، فلا يراني الرائي إلا في مكتبة شيخ الإسلام عارف حكمت، حتى استوعبت معظم كتبها النادرة قراءة، وفي المكتبات الغاصة بالمخطوطات.

 

وفي سنة 1331=1913 زار المدينةَ الشيخُ عبد الحميد بن باديس المولود سنة 1307=1889 والتقى بالإبراهيمي الذي ذكر أنهما لم يفترقا مدة إقامة ابن باديس بالمدينة المنورة، وأنهما كانا يقضيان الليل كله يدرسان أوضاع الجزائر، ويتلمسا شروط ووسائل نهضتها، وزار المدينة في الفترة ذاتها الشيخ العربي بن بلقاسم بن مبارك بن فرحات التبسي، المولود سنة 1302=1895، وهو من تبسة في أقصى شرقي الجزائر، وكان يدرس في الزيتونة بتونس، وكان في المدينة كذلك الشيخ الطيب بن محمد العقبي، المولود بسيدي عقبة سنة 1307=1889، والمتوفى سنة 1385=1965، وكان مقيماً مع أهله الذين هاجروا إليها وهو صغير، وكان لقاء هؤلاء المشايخ أمر ستكون له أهميته فيما بعد في عملهم الإسلامي والجهادي المشترك في الجزائر، فقد كانوا هم أقطابه ومن أرسى أسسه وأعلى بنيانه، وفي رحاب المدينة المنورة تبلورت خطتهم الإصلاحية لإعلان شأن الإسلام في الجزائر ومقاومة مخططات المستعمر الفرنسي الذي احتلها منذ سنة 1830.

 

وشبت نار الحرب العالمية الأولى في منتصف سنة 1914، وقام الشريف الحسين بن علي بثورته على الأتراك في منتصف سنة 1916، وبدأت قواته في قتال الأتراك وحاصرت المدينة المنورة التي دافعت عنها حاميتها ولم تسلمها إلا بعد انتهاء الحرب، وبسبب الحصار وقلة الطعام أجْلَت الحكومة التركية سكان المدينة المنورة إلى الشام وتركيا، فغادر الإبراهيمي المدينة إلى دمشق في سنة 1335=1916، حيث اشتغل في دمشق بالتدريس، وشارك في تأسيس المجمع العلمي الذي كان من غاياته تعريب الإدارات الحكومية، ولقي من علماء دمشق وأدبائها من حسن الوفادة وكرم الصحبة، ما جعله يقول عنهم بعد ثلاثين سنة من عودته إلى الجزائر: ولقد أقمت بين أولئك الصحب الكرام أربع سنين إلا قليلاً، فأشهد صادقاً أنها هي الواحة الخضراء في حياتي المجدبة، وأنها هي الجزء العامر في عمري الغامر، ولا أكذب الله، فأنا قرير العين بأعمالي العلمية بهذا الوطن؛ الجزائر، ولكن... مَن لي فيه بصدر رحب، وصحب كأولئك الصحب؛ ويا رعى الله عهد دمشق الفيحاء وجادَتْها الهوامع وسقت، وأفرغت فيها مـا وسقت، فكم كانت لنا فيها من مجالس نتناقل فيها الأدب، ونتجاذب أطراف الأحاديث العلمية.

 

ورحيل الإبراهيمي إلى دمشق ليس بغريب وإعجابه بما لقيه ليس بجديد، فطالما ضمت دمشق عدداً كبيراً من أعلام المغرب العربي من علماء وأدباء ومجاهدين، ووجدوا من أهلها وفي رحابها ما كاد ينسيهم أهلهم وأوطانهم، ومن بقي منهم في دمشق صاروا أعلاماً في العلم والدعوة، ويكفي أن نشير لأسرة المبارك الجزائرية الأصل التي كان زميله في التدريس عميدها الأستاذ عبد القادر المبارك والد الأستاذ المرحوم محمد المبارك علم التربية والتعليم ومثال التجرد والإخلاص، وأخيه الأستاذ مازن المبارك علامة اللغة العربية، أطال الله في عمره.

 

وبعد إقامة سنوات خمس، وخمود نار الحرب العالمية الأولى في آخر سنة 1918، عاد الإبراهيمي في سنة 1338= 1920 إلى الجزائر، ليبدأ دعوته إلى الإصلاح ونشر التعليم الديني، وبدأ ذلك في مدينة سطيف القريبة من مسقط رأسه، وكانت حكومة المستعمر الفرنسي تسيطر على المساجد وتتحكم برسالتها، فكان من أول أهدافه إقامة مسجد حر فيها لا يتحكم برسالته المستعمر الفرنسي.

 

وكان الشيخ عبد الحميد بن باديس قد عاد إلى الجزائر عام 1913، واستقر في بلده مدينة قسنطينة، عاصمة الشرق الجزائري، وشرع في تنفيذ خطته في العمل التربوي والتي كان المسجد محورها، فبدأ في رحابه بدروس للصغار ثم للكبار، ثم انتقل منها لوضع إطار مؤسسة دعوية تشمل الجزائر كلها، فكانت فكرة تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وبدأ في مشاورات بشأنها مع عدد من العلماء الذين رجعوا من المشرق ومن تونس، وتبلورت معالمها في اجتماع عقده هؤلاء في سنة 1928 كان مقدمة لإعلان تأسيس الجمعية في سنة 1931 في نادي الترقي بالجزائر العاصمة.

 

وكانت فرنسا قد احتفلت في سنة 1930 بمرور مئة عام على احتلالها للجزائر، وبدا تماما أن الفرنسيين في سكرة نشوتهم قد اعتقدوا أن شعب الجزائر قد أصبحت فرنسي الثقافة والمشرب إلى غير رجعة، وجاء تأسيس الجمعية وخطتها التربوية التعليمية رداً عملياً على هذه الأحلام الاستعمارية.

 

وكان الثقل في الساحة الدعوية في الجزائر حكراً على أهل الطرق الصوفية الذين شكلوا تحالفاً ضمنياً، وظاهراً في بعض الأحيان، مع سلطات المستعمر، وفحواه أن لا يثيروا الناس على الاستعمار مقابل أن يخلي الساحة الإسلامية لصالحهم وطالحهم، وأهل المغرب العربي يطلقون على هؤلاء الطُرقيين، وعن ذلك الوضع يقول الإبراهيمي: فأجمعنا في معرض الرأي الفاصل على أننا أمام استعمارين يلتقيان عند غاية، أحدهما استعمار روحاني داخلي يقوم به جماعة من إخواننا الذين يُصلُّون لقبلتنا باسم الدين، وغايتهم استغلال الأمة، ووسيلتهم صد الأمة عن العلم، حتى يستمرّ لهم استغلالها، وهؤلاء هم مشائخ الطرق الصوفية التي شوّهت محاسن الإسلام، والثاني استعمار مادي تقوم به حكومة الجزائر باسم فرنسا، وغايته استغلال الأمة، ووسيلته سد أبواب العلم في وجه الأمة حتى يتم لها استغلالها، والاستعماران يتقارضان التأييد، ويتبادلان المعونة، كل ذلك على حساب الأمة الجزائرية المسكينة، أولئك يضلّونها، وهؤلاء يذلّونها، وجميعهم يستغلّونها.‏ كنا نتّفق على هذا، ولكننا نجمل الرأي في أي الاستعمارين، يجب أن نبدأ بالهجوم عليه، ولم يكن من الصعب علينا الاتفاق على الهدف الأول للهجوم، فاتفقنا على أن نبدأ بالهجوم على الاستعمار الأول وهو الطرق الصوفية، لأنها هي مطايا الاستعمار الفرنسي في شمال أفريقيا ووسطها وغربها، ولولاها لم يتم له تمام.

 

ولهذا السبب تلطَفَ المؤسسون في تأسيس جمعيتهم، فوجهوا الدعوة  إليها من طرف هيئة مؤسِّسة مؤلفة من أشخاص حياديين ينتمون إلى نادي الترقي غير معروفين بالتطرف، ولا يثير ذكرهم حساسية أو شكوكا لدى سلطات المستعمر، ولا عند الطرقيين، وأعلنوا: أن الجمعية دينية تهذيبية تسعى لخدمة الدين والمجتمع، لا تتدخل في السياسة ولا تشتغل بها. ويذكر الشيخ خير الدين البسكري أن ابن باديس دعا الشيخ محمد عبابسة الأخضري وطلب إليه أن يقوم بالدعوة إلى تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في العاصمة، وكلفه أن يختار ثلة من جماعة نادي الترقي الذين لا يثير ذكر أسمائهم شكوك الحكومة، أو مخاوف أصحاب الزوايا، حتى يتم الاجتماع في هدوء وسلام، وتتحقق الغاية المرجوة من نجاح التأسيس، وأن ابن باديس خطَّط أن لا يلبي دعوة الاجتماع ولا يحضر يومه الأول حتى يقرر المجتمعون استدعاءه ثانية بصفة رسمية، فيكون بذلك مدعوا لا داعيا، ويتجنب ما قد يكون من ردود فعل السلطة الفرنسية وأصحاب الزوايا، ومن يتحرجون من كل عمل يقوم به ابن باديس.

 

وحضر الاجتماع التأسيسي أكثر من سبعين عالما من مختلف جهات الجزائر، ومن شتى الاتجاهات الدينية والمذهبية: مالكيين وإباضيين، مصلحين وطرقيين، موظفين وغير موظفين، وانتخبوا مجلسا إداريا للجمعية يتكون من ثلاثة عشر عضوا برئاسة الشيخ ابن باديس واختاروا البشير الإبراهيمي نائباً له، وعهد ابن باديس إلى الشيخ البشير الإبراهيمي أن يتولى العمل الذي يجري في غرب الجزائر انطلاقا من تلمسان، وإلى الشيخ الطيب العقبي، نائب الأمين العام للجمعية، أن يشرف على العمل في العاصمة وما جاورها، وأبقى ابن باديس قسنطينة وما جاورها تحت إشرافه شخصيا.

 

وبادر الإبراهيمي لما ندبته إليه الجمعية، فأسس المدارس الحرة، وبث روحاً إسلامية جديدة في غرب الجزائر مستخدماً ما آتاه الله من براعة في الخطابة والأدب،وما لبثت الفئات المتنفذة المتعاونة مع فرنسا من السياسيين والطُرقيين أن تنبهت لما يمثله من تهديد، فبدأت في معاداته وسعت وراء إبعاده، ولكن الشيخ استمر في نشاطه، وبرزت المدارس العربية في وهران التي كانت تعتبر معقلاً حصيناً للصوفية الطرقيين.

 

ووجدت الجمعية وبرامجها استجابة شعبية واسعة، لثقة الناس بصدق وأخلاص مؤسسيها والقائمين عليها، وقدم الناس لها التبرعات فاستطاعت أن تؤسس المساجد وتنشئ المدارس والنوادي بأموالها الخاصة، وتفرِّغ العلماء وتيسِّر لهم الاضطلاعَ بمهامهم، ونمت فروعها في الجزائر بسرعة لم يتوقعها أحد، وأقبل الجزائريون على مدارسها ودروسها بأعداد كبيرة، ففي السنة الأولى تم تأسيس 22 شعبة، وفي سنة 1936 كان عدد الشعب 33 شعبة، ووصل في سنة 1938 إلى 58 شعبة، وذلك رغم العقبات التي بدأت توضع في طريقها، وانتشرت مدارسها في جميع مدن الجزائر وقراها، وكان من حكمة القائمين على الجمعية أن جعلوها ذات تصميم معماري واحد لتُعرف به ويقر في نفوس الناس توسعها ونجاحها، وإزاء هذا النمو المبارك بادر ابن باديس بوضع إطار فكري تنظيمي للجمعية لتسير على هديه في نشاطها الإصلاحي والتعليمي، وذلك في سنة1937 في مقال نشره في مجلة الشهاب التي كان يصدرها تحت عنوان: دعوة جمعية العلماء وأصولها. ثم طُبع ووزع على عموم الناس في لفتة ذكية، إذ بذلك أصبح ميثاقاً واضحاً بين الجمعية وبين جمهورها العريض من الشعب الجزائري.

 

وأصدرت الجمعية جريدة الدفاع "La Defense‏" باللغة الفرنسية حتى تصل إلى المتعلمين بلغة الاستعمار ‏وتطلعهم على أهداف الجمعية وأنشطتها، وعهدت برئاسة تحريرها إلى الأمين العام لجمعية علماء المسلمين؛ الشيخ محمد الأمين العمودي المولود سنة 1891=1308 والمتوفى سنة 1377=1957، والذي كان صاحب خبرة عريقة في الصحف إذ قد أصدر عدة صحف قبلها.

 

وأصدرت الجمعية عدة صحف باللغة العربية ينبغي أن نذكرها وهي جريدة السنة النبوية المحمدية التي صدرت في آخر سنة 1351=1933 ثم أوقفتها سلطات الاستعمار في أول سنة 1352=1933،  فأصدرت الجمعية جريدة الشريعة النبوية المحمدية بعدها بثلاثة أسابيع فعطلها المستعمر بعد 7 أسابيع، فأصدرت بعدها بأسبوعين جريدة الصراط السوي التي صدر منها 17 عددا حتى أوقفت في رمضان 1352=1934، فقدمت الجمعية طلب ترخيص آخر وافقت عليه السلطة الاستعمارية بعد قرابة سنتين، وصدرت جريدة البصائر في شوال 1354= 1935، ورأس تحريرها الشيخ الطيب العقبي، وتوقفت بعد 180 عدداً بسبب الحرب العالمية الثانية في أواخر سنة 1939، وعادت إلى الصدور بعد انتهائها في سنة 1947 بإشراف وإدارة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، إلى أن قرر القائمون عليها التوقف في سنة 1956 بسبب احتدام ثورة التحرير الجزائرية وتأزم الأوضاع.

 

وفي سنة 1936دعا ابن باديس إلى مؤتمر إسلامي يضم التنظيمات السياسية كافة من أجل دراسة قضية الجزائر، وقد وجه دعوته من خلال جريدة الدفاع، واستجابت أكثر التنظيمات السياسية لدعوته، وكذلك بعض الشخصيات المستقلة، وأسفر المؤتمر عن تشكيل جمعية سياسية تحت اسم: المؤتمر الإسلامي، تهدف إلى المطالبة ببعض الحقوق للجزائر، وشكل المؤتمر وفداً من الشخصيات الجزائرية سافر إلى فرنسا لعرض هذه المطالب، وضم الوفد ابن باديس والإبراهيمي والطيب العقبي ممثلين لجمعية العلماء، ولكن فرنسا لم تستجب لأي مطلب وفشلت مهمة الوفد، وتوقف نشاط الجمعية بعد ذلك.

 

ومع إرهاصات الحرب العالمية الثانية والضعف الواضح في موقف فرنسا العسكري إزاء ألمانيا، كتب الإبراهيمي في سنة 1939 مقالاً في جريدة الإصلاح التي كان يصدرها الشيخ الطيب العقبي، طالب  فيه ببعض الإصلاحات، فنفته فرنسا إلى بلدة أفلو في شمال الصحراء الجزائرية، وبعد وفاة ابن باديس في سنة 1940 انتخب رئيساً لجمعية العلماء وهو لا يزال في المنفى، ولم يُفرج عنه إلا عام 1943، ثم اعتقل مرة ثانية عام 1945 وأفرج عنه بعد سنة.

 

وفى عام 1947 عادت مجلة البصائر للصدور ورأس تحريرها البشيرالإبراهيمي وكانت مقالاته فيها على قدر من البلاغة ومن الصراحة والنقد القاسي لفرنسا وما يسميهم عملاء فرنسا، يقول عن زعماء الأحزاب السياسية: ومن خصومها (أي الجمعية) رجال الأحزاب السياسية من قومنا من أفراد وأحزاب يضادّونها كلما جرَوا مع الأهواء فلم توافقهم، وكلما أرادوا احتكار الزعامة في الأمة فلم تسمح لهم، وكلما طالبوا تأييد الجمعية لهم في الصغائر - كالانتخابات - فلم تستجب لهم، وكلما أرادوا تضليل الأمة وابتزاز أموالها فعارضتهم.

 

وكان الإبراهيمي في مقالاته يهاجم الفرنسة والمتفرنسين ويؤكد على مكانة اللغة العربية ومستقبلها في الجزائر فيقول: اللغة العربية في القطر الجزائري ليست غريبة، ولا دخيلة، بل هي في دارها وبين حماتها وأنصارها، وهي ممتدة الجذور مع الماضي مشتدة الأواصر مع الحاضر، طويلة الأفنان في المستقبل.

 

وفي ظل ما نراه اليوم في كثير من البلدان قد يستغرب القارئ صدور جريدة البصائر واستمرارها تحت سمع وبصر المستعمر الفرنسي، وتفسير ذلك أن المستعمر على ضراوته في جوانب كان يحافظ على الحد الأدنى من الحرية والمظاهر الإجرائية، ومن ناحية أخرى كان البشير الإبراهيمي يلجأ كثيراً للتلميح لا التصريح وللرموز بدلاً من الحقائق، قال الأستاذ أنور الجندي في مجلة الرسالة: تطرق الحديث إلى الوسائل التي يستطيع بها رجال جمعية العلماء إعلان آرائهم دون أن يقف الاستعمار في وجههم، فقال لنا السيد البشير الإبراهيمي: إن الأدب الرمزي هو الوسيلة الوحيدة لهذا، وإنه قد ابتدع لونا من فنون الأدب هو: سجع الكهان، استطاع عن طريقه أن يفصح عن كثير من آرائه الجريئة الحرة في الكثير من المسائل والأشخاص.

 

ولذا رأينا البصائر تقف مع مصر في سنوات 1951-1952 في أوج فورانها للتخلص من المستعمر البريطاني، بل ويصدر البشير الإبراهيمي عدداً خاصاً من البصائر عن مصر ونضالها افتتحه بمقالة تبين حكمته وتقواه جاء فيها: فلعمرك - يا مصر - إنهم لم يقاتلوك بالحديد والنار، إلا ساعة من النهار؛ ثم بالكتاب الذي يزرع الشك، وبالعلم الذي يمرض اليقين، وبالصحيفة التي تنشر الرذيلة، وبالقلم الذي يزين الفاحشة، وبالبغي التي تخرب البيت، وبالحشيش الذي يهدم الصحة، وبالممثلة التي تمثل الفجور، وبالراقصة التي تغري بالتخنث، وبالمهازل التي تقتل الجد والشهامة، وبالخمر التي تذهب بالدين والبدن والعقل والمال، وبالشهوات التي تفسد الرجولة، وبالكماليات التي تثقل الحياة، وبالعادات التي تناقض فطرة الله، وبالمعاني الكافرة التي تطرد المعاني المؤمنة من القلوب. فإن شئت أن تذيبي هذه الأسلحة كلها في أيدي أصحابها فما أمرك إلا واحدة، وهي أن تقولي: إني مسلمة... ثم تصومي عن هذه المطاعم الخبيثة كلها... إن القوم تجار سوء، فقاطعيهم تنتصري عليهم... وقابلي أسلحتهم كلها بسلاح وهو التعفف عن هذه الأسلحة كلها... فإذا أيقنوا أنك لا حاجة لك بهم، أيقنوا أنهم لا حاجة لهم فيك وانصرفوا.. وماذا يصنع المرابي في بلدة لا يجد فيها من يتعامل معه بالربا؟

 

ولم تقتصر أنشطة جمعية العلماء المسلمين الجزائرية على الجزائر، فقد كانت فرنسا محط كثير من الجزائريين الذين استقروا فيها للعمل أو الدراسة، ولذلك أسست الجمعية مراكز بفرنسا تحت مسمى النوادي، كانت أول مراكز إسلامية في أوروبا، وأرسل ابن باديس ‏الشيخ سعيد صالحي ‏مبعوثا إلى فرنسا سنة 1938 للقيام بسلسلة من المحاضرات في مختلف المدن الفرنسية، يعلم فيها أعضاء الجالية أساسيات دينهم، ويحثهم على تعليم أبنائهم اللغة العربية، ولما زاد عدد الجزائريين في فرنسا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، إذ قاتل كثير منهم ضمن القوات الفرنسية، وكذلك قصدها بعد الحرب عدد كبير من العمال لحاجتها إليهم في البناء الذي أعقب الحرب، أوفد البشير الإبراهيمي في سنة 1947 الأمين العام للجمعية الشيخ سعيد صالحي إلى فرنسا ليدرس الأحوال ويمهد الأمور، وسرعان ما عاد النشاط وتوسع ولم يقتصر على العمال الجزائريين بل شمل حتى طلبة الكليات بفرنسا من أبناء الجزائر.

 

وفي سنة 1952 كلفت جمعية علماء مسلمي الجزائر الشيخ البشير الإبراهيمي بالسفر للشرق والسعي لدى الحكومات العربية لقبول أبناء الجزائر الذين تبتعثهم الجمعية في معاهدها وجامعاتها، وطلب العون المادي من حكومات العرب والمسلمين حتى تستطيع الجمعية أن تواصل أعمالها بقوّة، بعد أن اتسع ميدان عملها، فزار الشيخ مصر ثم باكستان والعراق وسوريا والحجاز.

 

وفي الباكستان التقى الإبراهيمي بالأستاذ أبي الأعلى المودودي أمير الجماعة الإسلامية وأعجب به أيما إعجاب، ويقول في رسالة إليه: ذلك أنني عميق التأمل في تاريخ الإسلام ومراحله المتدرجة في الكون مع الدهر، وطالما وقف هذا التأمل بي على أن البدء تتبعه إعادة، وأن هذا الانحطاط قد بلغ غايته ولم يبق إلّا الارتقاء، سنة الله في الأديان وحامليها، وإذا كانت الإرهاصات مقدمات للنبوة والدين، فإنها كذلك مقدمات لتجديد شباب الدين، ويقيني أن هذه البوارق ستتبعها صواعق، وأن هذه الرعود سيتبعها غيث مدرار، وأن وجودكم ووجود عصبة من أمثالكم، متفرقة في الأقطار الإسلامية، لإيذان من الله جلت قدرته بقرب تبلج الفجر الصادق المرتقب بعد هذا الليل الطويل الحالك.

 

قامت ثورة الجزائر المسلحة في سنة 1374=1954 وتطورت وتوسعت في نضال دام مرير استمر قرابة  8 سنوات لم تترك فيها فرنسا وسيلة إلا واستعملتها لقمعها، ومع انطلاقة الثورة الجزائرية انتقل البشير الإبراهيمي إلى مصر، حيث كانت حكومة الرئيس جمال عبد الناصر من أقوى الداعمين للثورة، والممدين لها بالسلاح والعتاد، ومن مصر أصدر البشير الإبراهيمي بياناته المؤيدة للثورة دون تردد أو شك، في وقت كثر فيه المشككون والمرجفون، وهو موقف جريء تتضح قوته لو استحضرنا الثورات والانتفاضات الجزائرية السابقة التي لم تكلل بالنجاح، وأورد هنا مقتطفات من أحد بياناته التي أصدرها في آخر سنة 1954 تحت عنوان: نداء إلى الشعب الجزائري المجاهد، نعيذكم بالله أن تتراجعوا! وخاطب البيان المسلمين الجزائرين قائلاً:

 

حياكم الله وأحياكم، وأحيا بكم الجزائر، وجعل منكم نورا يمشي من بين يديها ومن خلفها. هذا هو الصوت الذي يُسمع الآذان الصم ... وهذه هي اللغة التي تنفذ معانيها إلى الأذهان البليدة... كان العالم يسمع ببلايا الاستعمار الفرنسي لدياركم، فيعجب كيف لم تثوروا... وكانت فرنسا تسوق شبابكم إلى المجازر البشرية في الحروب الاستعمارية، فتموت عشرات الآلاف منكم في غير شرف ولا محمدة، بل في سبيل فرنسا، وتوسيع ممالكها، وحماية ديارها، ولو أن تلك العشرات من الآلاف من أبنائنا ماتوا في سبيل الجزائر، لماتوا شهداء وكنتم بهم سعداء.

 

اذكروا غدر الاستعمار ومماطلته، احتلت فرنسا وطنكم منذ قرن وربع قرن... فما رعت في حربها لكم دينا ولا عهدا، ولا قانونا ولا إنسانية، بل ارتكبت كل أساليب الوحشية، من تقتيل النساء والأطفال والمرضى، وتحريق القبائل كاملة، بديارها وحيواناتها وأقواتها.

 

ثم حاربتم معها وفي صفها، وفي سبيل بقائها نصف هذه المدة، ففتحت بأبنائكم الأوطان وقهرت بهم أعداءها، ورحمت بهم وطنها الأصلي، فما رعت لكم جميلًا، ولا كافأتكم بجميل، بل كانت تنتصر بكم، ثم تخذلكم، وتحيا بأبنائكم، ثم تقتلكم، وما كانت قيمة أبنائكم الذين ماتوا في سبيلها، وجلبوا لها النصر، إلّا أنها نقشت أسماء بعضهم في الأنصاب التذكارية، فهل هذا هو الجزاء؟

 

طالبتموها من أربعين سنة، بأن ترفق بكم، وتنفس عنكم الخناق قليلا، فما استجابت! ثم طالبتموها بحقكم الطبيعي، يقركم عليه كل إنسان، وهو إرجاع أوقافكم ومعابدكم وجميع متعلقات دينكم، فأغلقت آذانها في إصرار وعتوّ، ثم ساومتموها على حقوقكم السياسية بدماء أبنائكم الغالية التي سالت في سبيل نصرها، فعميت عيونها عن هذا الحق الذي يقرره حتى دستورها.

 

لم تبقِ لكم فرنسا شيئًا تخافون عليه، أو تدارونها لأجله، ولم تبقِ لكم خيطا من الأمل تتعللون به. أتخافون على أعراضكم وقد انتهكتها؟ أم تخافون على الحرمة وقد استباحتها! لقد تركتكم فقراء تلتمسون قوت اليوم فلا تجدونه؟ أم تخافون على الأرض وخيراتها، وقد أصبحتم فيها غرباء حفاة عراة جياعًا، أسْعَدُكُم من يعمل فيها رقيقًا زراعيًّا يباع معها ويُشْتَرى، وحظكم من خيرات بلادكم النظر بالعين والحسرة في النفس؟ أم تخافون على القصور، وتسعة أعشاركم يأوون إلى الغيران كالحشرات والزواحف؟ أم تخافون على الدين؟ ويا ويلكم من الدين الذي لم تجاهدوا في سبيله، ويا ويل فرنسا من الإسلام: ابتلعت أوقافه وهدمت مساجده، وأذلت رجاله، واستعبدت أهله، ومحت آثاره من الأرض، وهي تجهد في محو آثاره من النفوس.

 

أيها الإخوة المسلمون! إن التراجع معناه الفناء، إن فرنسا لم تبقِ لكم دينا ولا دنيا، وكل إنسان في هذا الوجود البشري إنما يعيش لدين ويحيا بدنيا، فإذا فقدهما فبطن الأرض خير له من ظهرها.

 

إنكم في نظر العالم العاقل المنصف لم تثوروا، وإنما أثارتكم فرنسا بظلمها الشنيع وعُتُوِّها الطاغي، واستعبادها الفظيع لكم قرنا وربع قرن، وامتهانها لشرفكم وكرامتكم، وتعديها المريع على مقدساتكم... وقد قمتم الآن قومة المسلم الحر الأبي فنعيذكم بالله وبالإسلام أن تتراجعوا أو تنكصوا على أعقابكم؛ إن التراجع معناه الفناء الأبدي والذل السرمدي.

 

إن شريعة فرنسا أنها ... تنظر إليكم مسالمين أو ثائرين نظرة واحدة،... ووالله لو سألتموها ألف سنة، لما تغيرت نظريتها العدائية لكم، وهي بذلك مصممة على محوكم، ومحو دينكم وعروبتكم، وجميع مقوماتكم، إنكم مع فرنسا في موقف لا خيار فيه، ونهايته الموت، فاختاروا ميتة الشرف على حياة العبودية التي هي شر من الموت.

 

أخلصوا العمل وأخلصوا بصائركم في الله واذكروا دائما، وفي جميع أعمالكم، ما دعاكم إليه القرآن من الصبر في سبيل الحق، ومن بذل المهج والأموال في سبيل الدين، واذكروا قبل ذلك كله قول الله ﴿وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ الله﴾ وقول الله ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾.

 

كان البشير الإبراهيمي على علاقة وثيقة برجال العروبة والإسلام في مصر، وعلى رأسهم جماعة الأخوان المسلمين التي كان يعتلي منبر مركزها العام للحديث عن جهاد الجزائر إزاء الاستعمار الفرنسي وتسلّطه على الشعب الجزائري المسلم، ولما حصلت الجفوة بين جماعة الإخوان المسلمين ورجال الثورة المصرية سنة 1954، بسبب انقلاب جمال عبد الناصر على الرئيس محمد نجيب وبقاء الجيش في الحكم، ظن  الإبراهيمي أن في مقدوره الوساطة بين الطرفين وبدأ يتلمس طريقه للإصلاح والتوفيق، ولكنه وجد الطريق مسدوداً فقد كان عبد الناصر يريد القضاء على الإخوان حتى يستطيع حكم مصر حكماً فردياً مطلقاً لا شورى فيه ولا محاسبة.

 

وقدرت فرنسا في بداية الأمر أنها ستستطيع القضاء على هذه الثورة كما قضت على الثورات السابقة، ولكن خاب فألها فقد اختلفت الظروف المحلية والعالمية، فقد أبدى الشعب الجزائري استعداداً للتضحية والبذل مكن الثورة الجزائرية من الصمود وإنهاك المستعمر، رغم النكسات العديدة التي تعرضت لها، وقام البشير الإبراهيمي وصحبه من رجالات جمعية العلماء المسلمين بجهود مضنية نجحت في توحيد الصف الجزائري والتوفيق بين أطراف الثورة المتنافسة المتناحرة، وقامت الدول العربية التي استقلت حديثاً مثل مصر وسوريا بدعم الثورة بالمال والسلاح، بل منحت الباكستان جواز سفر دبلوماسي لأحمد بن بلة زعيم الثورة الأبرز، ولقيت الثورة تأييداً معنوياً ومادياً من دول العالم الثالث التي تخلصت عن قريب من ربقة الاستعمار، كذلك تغيرت سياسة أمريكا الخارجي بفضل الرئيس الأمريكي الحكيم العاقل دوايت إيزنهاور الذي تولى السلطة في سنوات 1953-1961، فتحولت أمريكا من تأييد الاستعمار إلى تقليم أظافر الدول الاستعمارية مثل بريطانيا وفرنسا والحد من نفوذها في دول العالم الثالث، وكل ذلك جعل فرنسا تدرك أن لا مناص هذه المرة من التفاوض مع الثوار، فدخلت في مفاوضات معهم عرفت بمفاوضات إيفيان انجلت عن الاتفاق على استفتاء سكان الجزائر حول الاستقلال، وانتهت باستقلال الجزائر بعد قرابة 130 من الاحتلال الفرنسي، وفي كل هذه المراحل كان البشير الإبراهيمي يسعى لرأب الصدع ولملمة الشمل، فقد كانت الخلافات لا تكاد تتوقف بين زعماء الثورة بين من هم في الداخل وبين من هم في الخارج، وكثيراً ما كانت تستعين به في هذا الصدد الحكومة المصرية التي تبنت الثورة الجزائرية ورعتها حتى نجاحها، وكان ذلك أحد ردودها على العدوان الثلاثي في سنة 1956 والذي تحالفت فيه بريطانيا وفرنسا وإسرائيل على الهجوم على مصر واحتلال قناة السويس.

 

وعاد البشير الإبراهيمي وصحبه من المشايخ والعلماء إلى الجزائر بعد استقلالها، وفي الرابع من جمادى الآخرة 1382= 2 تشرين الثاني/نوفمبر 1962 ألقى البشير الإبراهيم خطبة الجمعة في جامع كتشاوة بالجزائر العاصمة، وكانت أول جمعة تقام في المسجد بعد 124 عاماً من تحويل الاحتلال الفرنسي هذا المسجد إلى كاتدرائية حملـت اسم القديس فيليب، وقد صرح الإبراهيمي في خطبته ببقاء التبعية الفكرية للاستعمار بعد زوال الاستعمار العسكري فقال: إن الاستعمار كالشيطان الذي قال فيه نبينا صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يُعْبَدَ فِي أَرْضِكُمْ هَذِهِ، وَلَكِنَّهُ قَدْ رَضِيَ أَنْ يُطَاعَ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ. فهو قد خرج من أرضكم ولكنه لم يخرج من مصالح أرضكم، ولم يخرج من ألسنتكم، ولم يخرج من قلوب بعضكم، فلا تعاملوه إلا فيما اضطررتم إليه، وما أبيح للضرورة يقدر بقدرها.

 

وكان من المدعوين للحفل الأستاذ الشاعر الكبير الأستاذ عمر بهاء الدين الأميري والذي ألقى فيه قصيدة حذر فيها من عواقب أن تحيد الدولة الوليدة عن طريق الإسلام، فقال:

 

يجلجل الحق والأكوان آذان... بأن آية هذا النصر إيمان

جزائر المجد، والدنيا لها دُول ... ودولة الحق آباد وأكوان

قالوا: العروبة، قلنا: إنها رحِمٌ  ... وموطن ومروءات ووجدان

أما العقيدة والهدي المنير لنا ... دربَ الحياة، فإسلام وقرآن

وشرعة قد تآخت في سماحتها ... وعدلها الفذ أجناس وألوان

جزائر المجد، غيض الماء وانعقدت ... لك الحياة، ولم يغلبك طوفان

دهر من الظلم، لا عام ولا مئة ... ولا ثلاثون، بل كفر وبهتان

قد انمحى فاسجدي لله شاكرة ... فاليوم عدل، وتوحيد، وشكران

فحاذري أن يحيد السعي عن جَدد ...  الإيمان إن صراط الحق ميزان

وغيرة الله لا تنفك مسلطة ... يقظى، وللحكم عند الله إبّانُ

صلى البشير بكتشاوا وقد خلصت ... شيخاً تهدم، والآمال فتيان

هيهات تقدر أن تجتث ما غرست ... يدُّ الإله طواغيتٌ وأوثان

 

وإضافة إلى نزوع الحكومة الجزائرية إلى سلوك الطريق الاشتراكي، كانت مظاهر الاحتفالات تخفي وراءها أزمة شديدة في أوساط الطبقة السياسية دارت بين الحكومة الجزائرية المؤقتة وبين كبار ضباط الجيش، وانتهت بسيطرة أحمد بن بلة ومن ورائه رجل الجيش القوي هواري بومدين على مقاليد الأمور، وأعقب ذلك تمرد بعض رفاق الأمس من قادة جبهة التحرير الجزائرية ومعهم بعض القطعات العسكرية، ولكن حكومة بن بلة استطاعت القضاء على كل هذه المحاولات، لينتقل الصراع إلى داخل الحكومة بين بن بلة وبين حليفه السابق بومدين الممسك بالجيش، ومحوره: من سيحكم الجزائر، الجيش أم المدنيون في جبهة التحرير.

 

وما لبث بومدين أن أطاح بالرئيس بن بلة في منتصف 1965 لأنه: خرج عن خط الثورة الجزائرية واستأثر بالسلطة وأصبح ديكتاتوراً شوفينياً! وقال بومدين إنه لجأ إلى الانقلاب: إنقاذا للثورة وتصحيحا للمسار السياسي، وحفاظا على مكتسبات الثورة الجزائرية! وبالطبع كانت الديمقراطية آخر شيء يفكر في تحقيقه بومدين الذي أقدم على حل كل المؤسسات الدستورية التي أنشئت في عهد بن بلة، وبدأ في إبعاد من يخشى خطرَهم من الإنقلابيين في تكرار مزر لما حدث قبل 10 سنوات في مصر من انقلاب عبد الناصر على محمد نجيب.

 

ولم يكن البشير الإبراهيم بعيداً عن كل هذه المصائب التي تدور في صفوف طبقة الشباب التي تولت السلطة، ولم تخف عنه ميولها الماركسية الاشتراكية ومآلاتها الكارثية، فأصدر بياناً في أبريل/نيسان من عام 1964 رأى فيه بعين بصيرته ما تقود إليه هذه السياسات الخرقاء، ومما جاء في البيان: كتب الله لي أن أعيش حتى استقلال الجزائر، ويومئذ كنت أستطيع أن أواجه المنية مرتاح الضمير، إذ تراءى لي أني سلمت مشعل الجهاد في سبيل الدفاع عن الإسلام الحق، والنهوض باللغة العربية- ذلك الجهاد الذي كنت أعيش من أجله- إلى الذين أخذوا زمام الحكم في الوطن، ولذلك قررت أن ألتزم الصمت.

 

غير أني أشعر أمام خطورة الساعة، وفي هذا اليوم الذي يصادف الذكرى الرابعة والعشرين لوفاة الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله، أنه يجب علي أن أقطع ذلك الصمت، ان وطننا يتدحرج نحو حرب أهلية طاحنة، ويتخبط في أزمة روحية لا نظير لها، ويواجه مشاكل اقتصادية عسيرة الحل.

 

ولكن المسؤولين- في ما يبدو- لا يدركون أن شعبنا يطمح قبل كل شيء إلى الوحدة والسلام والرفاهية، وأن الأسس النظرية التي يقيمون عليها أعمالهم، يجب أن تنبعث من صميم جذورنا العربية الإسلامية، لا من مذاهب أجنبية.

 

لقد آن للمسؤولين أن يضربوا المثل في النزاهة وألا يقيموا وزنًا إلّا للتضحية والكفاءة، وأن تكون المصلحة العامة هي أساس الاعتبار عندهم، وقد آن أن يرجع لكلمة الاخوة- التي ابتذلت- معناها الحق، وأن نعود إلى الشورى التي حرص عليها النبي صلى الله عليه وسلم.

 

وقد آن أن يحتشد أبناء الجزائر كي يشيدوا جميعا مدنية تسودها العدالة والحرية، مدنية تقوم على تقوى من الله ورضوان.

 

وأنَّى للشباب المغرور بالسلطة وجبروتها، والمستلَب بالماركسية ودعاويها، أن يصيخ لصوت الحق والعدل، أو أن يُعنى بالشورى التي ستطيح به أول ما تطيح، فوضعت الحكومة الجزائرية الشيخ قيد الإقامة الجبرية، وبقي رهنها قرابة سنة حتى توفاه الله في بيته، ورثاه الشاعر الكبير الأستاذ عمر بهاء الدين الأميري رحمه الله بقصيدة منها:

 

قالوا: أتبكي؟ كيف لا أبكي أبًا … وأخًا وأستاذًا فريد زمانه

أبكي المودة والوفاء سجية … والنُّبْل، كان يشعّ من أردانه

أبكي الفضيلة والمروءة والنَّدَى … والمكرمات تسير في ركبانه

أبكي الثقافة والحصافة والحِجا … والذوق وازَى العلم في ميزانه

أبكي بصيرته وحِكْمَةَ فَصْلِهِ … أبكي سَدادَ الرأي في إبَّانِه

 

كان الإمام محمد البشير الإبراهيمي إلى جانب إمامته في في الجهاد إماماً في الشريعة واللغة أديباً شاعراً خطيباً مفوهاً، ولذا اختير عضواً في مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، وعضواً في مجمع اللغة العربية بالقاهرة، وعضوا في المجمع العلمي العربي بدمشق، وله عدد من المؤلفات الدعوية واللغوية، قال بتواضعه: لم يتسع وقتي للتأليف والكتابة مع هذه الجهود التي تأكل الأعمار أكلًا، ولكنني أتسلى بأنني ألفت للشعب رجالًا، وعملت لتحرير عقوله تمهيدًا لتحرير أجساده، وصححت له دينه ولغته فأصبح مسلمًا عربيًا، وصححت له موازين إدراكه فأصبح إنسانًا أبيًّا، وحسبي هذا مقرِّبا من رضى الرب ورضى الشعب.

 

عاش للبشير الإبراهيمي من الأولاد ابنتان وولدان؛ ابنه البكر محمد الذي توفي بعد مرض عضال، والدكتور أحمد طالب الإبراهيمي، المولود سنة 1932، والذي ناضل في صفوف الثورة الجزائرية وتبوأ منصب وزير خارجية الجزائر، وأسس حزب الوفاء.