الأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي في ذمة الله تعالى

-1-

نُعي إليَّ الأخ الزميل الفاضل الدكتور وهبة الزحيلي، وأنا أتامَّل من شرفة منزلي العلوية في تركيا، لحظات غروب الشمس بين أشجار الصنوبر الشاهقة التي طالما تخيَّلت أغصانها وأوراقها أكفاً ضارعة لله تعالى بالتسبيح والدعاء...فسبق إلى خاطري - وأنا أدعو الله تعالى أن يتغمد الفقيد الغالي بالرحمة والمغفرة والرضوان -: أبيات عباس محمود العقاد التي يقول في مطلعها:

ستغرب شمس هذا العمر يوماً=ويُغمض ناظري ليل الحُمام

وقلت في نفسي: نعم ! لقد غربت شمس أبي عبادة، ولسوف تغرب بعدها شموس آجالنا التي قال تعالى فيها: [لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ] {الرعد:38}. 

وقد كان الصحابي الجليل سيدنا معاوية رضي الله عنه خال المؤمنين وأول ملوك الإسلام يقول إذا نُعي إليه أحد أقرانه: أنا والله من زرع قد استحصد (أي: حان وقت حصاده)... وما أقصر الرحلة وأطول الحياة، وأعني: ما أقصر الرحلة لمن عاش لمتاع الحياة وأشيائها، حيث تنتهي حياته كما تنتهي سائر أشياء الحياة. وما أطول الحياة لمن عاش لمعانيها وقيمها ومبادئها... ألم يقل شيخنا الدكتور مصطفى السباعي: (الحياة طويلة بجلائل الأعمال، قصيرة بسفاسفها!).

لقد عاش الدكتور وهبة حياة طويلة حافلة بالإنتاج العلمي الغزير، وبالدفاع عن دين الله وحرماته في عصر ملتهب مُضْطرب سقط في شبهاته وشهواته - وسيفه وذهبه على حدِّ قول أحمد شوقي - كثير من أدعياء العلم والدين، ومن الصغار والمغفلين.

 إن صراحة الدكتور وهبة المعهودة بين أقرانه وزملائه وفي المحافل والندوات، والتي كان يضيق بها بعض الناس بوصفها غير معهودة! تُوجَّت أو بلغت أوجها يوم صدع بكلمة الحق في التشيّع وغيرها في ظروف بالغة الشدَّة والصعوبة... أو حالكة السواد، وأذكر أنني سألته منذ زمن طويل في أحد العواصم الخليجية عن شيخ زميل لنا في جامعة دمشق: ما أخباره؟ فقال لي: إنه وضع قدمه في المنحدر، ولابدَّ أنه بالغٌ قاعه أو نهايته في وقت ليس ببعيد، وقد كان!! أما هو فقد حمد الله تعالى على أنه على حال إن لم يستطع فيها أن يجهر بالحق ، فإنه لن يقول كلمة الباطل بحال ، وقد كان.

- 2 - 

ما قابلت الدكتور وهبة مرة إلا كان في عجلة من أمره، وكأنَّ منازعاً ينازعه أو يهيب به أن يمضي إذا فرغ ممَّا هو بشأنه ولا يضيع دقيقة من وقته، وكان يُخيَّل إليَّ أنه يسابق الزمن أو الحياة، أو يخشى أن يسرقه الزمن أو تسبقه الحياة، وكأنه لا وقت لديه للراحة والتأمل، وقد لا أرتاب في أن عنوان حياته كان قول الله تعالى: [فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ(7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ(8) ]. {الشرح}. فكان إذا فرغ من عمل شرع أو تعب في غيره يرحمه الله تعالى.

وكان هذا دأبه ودَيْدَنه منذ أن كان طالباً في مراحل التعليم يتفوَّق على أقرانه بجدِّه واجتهاده، حتى أصبح عالماً منتجاً وفقيهاً موسوعياً كبيراً، وقد سمعت من شيخنا العلامة الشيخ محمد أبو زهرة في مصر ثناء عليه وعلى رسالته في الدكتوراه، (آثار الحرب في الفقه الإسلامي).

لقد أكبَّ الدكتور وهبة على معين الأمة وتراثها الفقهي دارساً ومنقباً ومؤلفاً، فكان غزير الإنتاج العلمي، بارعاً، في جمعه وتصنيفه، في تسهيل سبيل العلم للطلبة والباحثين، بأسلوب جديد – على حدِّ وصفه – وناجحاً، في تنقيبه واجتهاده، في صياغة النظريات والقواعد... وقد جمع - كما هو معلوم - بين الفقه والأصول، كما كانت له مشاركات أخرى في بعض حقول الثقافة العربية الإسلامية وعلوم الإسلام.

-3-

وفي وسع من يكتب عن الدكتور وهبة من المؤرخين وكُتَّاب التراجم أن يقولوا فيه: كان رحمه الله تعالى عالماً فاضلاً، وفقيهاً كبيراً، وباحثاً دؤوباً، وداعية صادقاً، وكان عالي الهمَّة، نقيَّ السريرة، وكانت سريرته كعلانيته، برئت نفسه من النفاق والرياء، وكان صريحَ القول والرأي، يكره أصحاب الظاهر والباطن، ويجهر بكلمة الحق، لا يخشى في الله لومة لائم. 

ولا يُزكى على الله تعالى أحد، وإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

25شوال 1436هـ

10 آب (أغسطس) 2015م