شيخ علم فقدناه...يحيى حمد الفياض

 

       الحمد لله الذي لا يُحمد على مكروهٍ سواه, والصلاة والسلام علي سيدنا محمد مصطفاه, وعلى آله وأصحابه ومن والاه.

 

أما بعد: فإنَّ إرادة الله شاءت أن يهوي نجمٌ من نجوم العلم في العراق, وعَلَمٌ لامعٌ بين أحبابه وأهله وأصدقائه ووطنه, بعد عمر قضاه بطلب العلم والعبادة والتقوى والصلاح وعمل البرِّ والإحسان, ذلك هو العالم الفاضل صاحب الخلق الرفيع والذوق الدقيق, والجسم الأنيق, الوفي مع الصديق, هو الشيخ الحاج يحيى بن حمد بن عبد الله بن ملا فياض بن ملا مرعي بن عبيد بن حديد بن خليف بن فليح بن حيدر الحيدري الكُبيسي.

 

       وبنو حيدر عشيرة من عشائر كبيسة أصلا ومسكنا وهي من عشائر شمَّر الطائية، نزح منها أُناس إلى قضاء الدور في صلاح الدين.

 

       وعشائر كبيسة كلّها مشهود لها بالكرم والسخاء والشجاعة والإباء والتدين.

 

       و بعد عمرٍ قضاه بالبرِّ والإحسان شاء الله له أن يكتب له الشهادة فقبضه إليه صباح الجمعة غريبا (3/رجب/ 1435 هـ, الموافق 2/ايار/ 2014م) بعد غيبوبة طالت معه خمس سنوات غاب عن هذه الدنا الفانية من مجموع عشر سنوات غُربة؛ لأنَّ الله أراد له أن لا يرى ولا يسمع ما يجري على وطنه وأهله في العراق من مآسي ومِحَن.

 

      أراد الله أن يرفعه درجات عنده بخاتمة حسنة؛ فإنَّه لا يخلو رجل صالح مثله من أن يصاب بمرض في آخر حياته؛ لأجل أن يرتقي إلى درجات لم تنل بالأعمال , بل بالابتلاءات .

 

      الفقيد نشأ في أسرة علمية مشهود لها بالتقوى وحسن السيرة والجود والكرم وحب الفقراء وكثرة الإنفاق.

       تربَّى الفقيد في أحضان الورع الذي تجسَّد في عمِّه –رحمه الله- ذلك الرجل الذي طار ذكره في الآفاق بأنّه الرجل الصالح , والمربي الفالح, والزاهد الناجح, ذلك هو الحاج محمد بن عبد الله الفياض الكبيسي رحمه الله تعالى وأكرم مثواه.

 

وبهذه المناسبة الأليمة أودُّ أن أقول ما يأتي:

 

       1- أكرم الله الفقيد بصحبة العلماء والصلحاء والأولياء , وكان في مقدمة من صحبهم الولي العارف بالله الشيخ محمد أحمد النبهان الحلبي, فقد صحبه مدَّةً مديدة وتأثَّر به كثيراً, وأفاد من سلوكه وأخلاقه دهراً طويلاً.

 

       2- ولد الراحل في كبيسة التابعة لمحافظة الأنبار في العراق عام (1358 هـ, الموافق 1939 م) ونشأ في الفلوجة بعد ارتحال أسرته إليها عام 1942م.

 

       3- تعلَّم القرآن الكريم والقراءة والكتابة في المدارس الابتدائية؛ ولأنَّ أسرته علميَّة رغب والده أن يستمرَّ هذا التراث العظيم في الاسرة، فألحقه بالمدرسة الآصفية الدينية في جامع الفلوجة الكبير التي كانت خاضعة لإدارة العلامة شيخنا وأستاذنا ومربينا  الشيخ عبد العزيز سالم السامرائي -رحمه الله تعالى وأعلى منزلته- وذلك في عام (1953م) واستمرَّ ينهل من معين علمه مدَّةً طويلةً، مضافاً إلى ابن عمِّه العالم الصالح التقي الورع الشيخ خليل الحاج محمد الفياض الذي سبقه في الالتحاق بالمدرسة المذكورة متَّعه الله بالصحة والعافية.

 

       ومن حسن توفيقي أنّي تعرفت على الفقيد وزاملته من عام (1954م) حيث رحلتُ في هذه العام إلى الفلوجة لمواصلة دراستي العلمية هناك التي أسستها في عام (1948م) على يد الشيخ الفاضل أعلاه.

 

       4- بعد فترة من الزمن رغب والده أن يشاطره في عمل التجارة في بغداد المحميّة فانقطع عن التلقي ومارس العمل التجاري؛ لأجل أن يلمع في سوق التجار؛ وليمثل التاجر الصدوق , فكان نبراساً في ذلك السوق أدباً وتعاملاً وأخلاقاً ونصيحة, ومع ذلك لم يؤثِّر عليه السوق في استمراره بالطلب والتعلم والاستفسار عن المهام الشرعية, وفي صحبته لأهل العلم والصلاح، فقد جمع بين الدين والدنيا.

 

      يؤيده إخوة له صالحون تربَّوا على يديه, وهم كلٌّ من: عبد القادر, وعبد الستار, وعبد السلام, وعبد الرزاق, وعبد الوهاب, جعلهم الله ناهجين منهجه وسائرين بطريقه .

 

       5- شاءت إرادة الله أن يترك وراءه نخبةً من أولاده ربَّاهم على التقوى والاخلاق وحبِّ الصدقات, واحترام الناس, وهم: الشيخ صلاح, والشيخ عبد الله, وهما من طلاب العلم الشرعي, والسادة أسامة, وسعد, وأيمن, جعلهم الله خيرَ خلفٍ لخيرِ سلفٍ، وقد أكرمهم الله تعالى بخدمته طيلة مرضه وفاءً له وبَرَّا به، فجزاهم الله كلَّ خير، ولو كان ذلك جزأً من واجبهم تجاهه.

 

       6- أوصافه ومناقبه:

 

       أولاً- الخَلْقيَّة: كان-رحمه الله- مربوع القامة، حسن الجسم، أبيض اللون، بهي المنظر، مُشرق الوجه، له وجهٌ تعلوه البسمة، أبيضٌ مشَّربٌ بحمرة، أشقرُ الشعر، حسنُ الهيئة، جميل المنظر.

 

       ثانياً- الخُلُقيَّة: إضافة إلى حسن منظره فقد كان حسن الأخلاق, كريم النفس، حسن السيرة, صافي القلب، محبا ومحبوبا, لم يصدر منه ما يسيء , سمحاً في التعامل مع أهل الدنيا, لم تدخل الدنيا الى قلبه , بل كانت بيده, كثير الصدقة, مضيافاً، مخلصاً مع أصدقائه, وبخاصَّةٍ معي, فقد كان مُفرطاً في صلته بي وبمحبتي, وذلك من خلال حسن ظنِّه بي لأنه كان يرى فيَّ خدمة العلم والمسلمين، وليس لدنيا يجدها عندي، فهو أخٌ لي لم تلده أمي.

 

       فقد كان لا يخلو شهر إلا ويشدُّ الرحال إلى مؤتة لزيارتي حين كنت فيها, ولا يخلو اسبوع في عمان –بعد رحيلي إليها- إلا قضى أمسية عندي.

 

أخٌ ماجدٌ لم يُخزني يوم مشهدٍ                       كما سيفِ عمروٍ لم تخنه مضاربُه

 

        أرجو الله أن يجعل محبتنا المتبادلة لوجهه الكريم؛ لنستظلَّ تحت ظلِّه –جلَّ شأنه- يوم لا ظلَّ إلا ظله.

 

       7- سكناه :

 

       هو من سكنة الفلوجة التابعة لمحافظة الانبار في العراق.

 

       وبعد أن احتل الكفرة بقيادة أمريكا بغداد عام(2003م) رحل إلى بلده الثاني الأردن، حيث أقام في عمان المحميَّة, فكانت مأواً له حتى بعد وفاته حيث دفن في ثراها في مقبرة سحاب الإسلامية.

 

       هذا هو غيض من فيض فيما يُقال عن يحيى.

 

هيهات أن يأتي الزمان بمثله              إنَّ الزَّمان بمثله لبخيل

 

       فسلامٌ عليك يا أبا صلاح يوم ولدتَ، ويوم نشأتَ، ويوم تعلمتَ العلمَ، ويوم رحلتَ عنَّا، ويوم تحشر حيَّاً مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.

 

محبك ورفيق دربك

أ.د. عبد الملك عبد الرحمن السعدي

14/رجب/1435هـ

13/5/2014م