جوانب الإبداع عند الدكتور عبد القدوس أبو صالح

كلمة الدكتور عبد الباسط بدر في حفل تكريم الدكتور عبد القدوس أبو صالح رحمهما الله تعالى في (الاثنينية) التي أقامها الشيخ عبد المقصود خوجة في قصره بجدة مساء الاثنين 3 من شعبان 1416هـ الموافق 25 كانون الأول 1995م:

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين وآله وصحبه، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين وبعد:

أيها الاخوة: ونحن نحتفي بواحدٍ من المبدعين المكرمين يسرني أن أتحدث عن جانب من جوانب إبداعه عايشته لسنواتٍ تقارب العشرين.

فالدكتور عبد القدوس أبو صالح الذي عرفته منذ سنواتٍ طويلة تتعدد جوانب الإبداع فيه.

هو مدرس بارع، ومحاضر يشدّ الأسماع، وشاعر محسن، وباحث مدقّق، وهو أيضاً رجل قضية وموقف، عَرَفَتهُ قاعات الجامعات، وحفظ له طلابه ما رأوه فيه من تميز، وشهدت له مؤلّفاته وتحقيقاته العلمية الدقيقة، وسمعه قليلون ينشد قصائد وجدانيّة رائعة، فهو شاعر مقل لا يظهر شعره إلا بين إخوانه وفي مجالس متميّزةٍ تهز قريحته، وهو أيضاً رجل قضية وموقف رأيتهما جليين متميزين، في رحلة رابطة الأدب الإسلامي، منذ أن كانت حلماً في خواطرنا، إلى أن أصبحت كياناً ذا فعالية وعطاء.

وسأوجز لكم فيما خصص لي من وقت هذا الجانب المبدع من خلال صور قليلة.

الصورة الأولى: ترجع بنا ثماني عشر سنة إلى عام (1398هـ) كنا في الرياض، وجمعتنا جلسة فيها عدد من أساتذة الأدب في الجامعات، والأدباء أذكر منهم الدكتور عماد الدين خليل، والدكتور محمد علي الهاشمي. والأستاذ حيدر الغدير، وغيرهم، ووصل الحديث إلى حالة الأدب آنئذ، وكانت آثار التيارات الفكرية والفنية المنحرفة فاقعة خارج الجزيرة العربية؛ مدرسة أدونيس تملأ بنتاجها الغريب صفحات الأدب، في كثير من المجلات والصحف، وتيار الواقعية الاشتراكية، ما يزال يمسك بمنابر كثيرة، والشخصية العربية المسلمة تائهة في ركام من التغريب هنا وهناك. يومها تساءلنا عن موضع هذه الشخصية ومستقبلها في أدبنا ونقدنا؛ وإلى السبيل في عمل شيء يحفظ لها وجهها؛ وتعددت الآراء، وبرز الدكتور عبد القدوس يدعو إلى إنشاء كيان أدبي يلملم الأدباء الإسلاميين ؛ الأدباء الأصلاء المغمورين، ويرفع وجه الأدب الصحيح. يدعو إلى إنشاء رابطة للأدب الإسلامي، كانت الفكرة حلماً لدينا جميعاً لكنها أشبه بحلم غائم، وما لبث الحوار أن تمخض عن فكرة عملية، هي إنشاء هيئة تأسيسية من الحاضرين آنئذٍ، وبدأ التخطيط والعمل الجدي؛ لإخراج الرابطة إلى حيز الوجود، وكان الدكتور عبد القدوس المحور الكبير والمهم فيها، يأتينا بالخطط والمقترحات؛ وكأنما ينقل من خبرات طويلة وعميقة، وكان له فوق ذلك كله التصميم والمتابعة، وحض الذين يتعبون من طول الطريق؛ حضهم على الإستمرار، واستطاعت مجموعة الهيئة التأسيسية بعد عمل شاق استمر سنوات عدة أن تصل إلى هيكلية أولية تعرضها على الأدباء والنقاد المهتمين بالأدب الإسلامي، وكان محور المتابعة الرئيسي هو الدكتور عبد القدوس.

الصورة الثانية: عند ولادة هذه الرابطة، فبعد جهود هائلةٍ واتصالات كثيرة، كان للدكتور عبد القدوس النصيب الأوفى منها، كان لابد أن يعقد مؤتمر أول يعلن ولادة الرابطة، وكان من توفيق الله أن وافق سماحة الشيخ (أبي الحسن الندوي) على احتضان الرابطة، وكان لا بد أن يقصده محبو الأدب الإسلامي والمتحمسون لإنشاء الرابطة ليحولوا الخواطر إلى واقع، ولم تكن هناك جهة تدعم القضية، وكان فينا من لا يجد الوقت ومن تكثر عليه النفقة، وبدأت الإعتذارات، وكان دور الدكتور عبد القدوس أن يخاطب كل واحد من منظور القضية، ويريه أبعاد ما تهدف إليه ويقنعه بالتضحية بالوقت، وبالمال، وبالراحة، فالسفر بعيد، والرحلة عمل وإنجاز ، وقد نجح الدكتور عبد القدوس في إقناع عدد كبير، وسافرنا وعشنا أياماً مرهقةً من العمل الشاق والنوازع المختلفة، وظهر دور الدكتور عبد القدوس أيضاً في التأليف وفي الإعداد، وفي المقترحات، وولدت الرابطة واعدةً بعطاء كثير، تحمل خلفها هموماً لا يعلمها إلا الله، مثلما تحمل جهوداً مضنية، كان قسم وافر من تلك الجهود يحمله هذا الرجل.

الصورة الأخيرة: قطعة من يوميات الدكتور عبد القدوس، فبعد أن ينتهي عمله في الجامعة حتى وقتنا هذا، يتجه في المساء إلى مكتب الرابطة، حيث تنتظره قائمة طويلة من الأعمال، رسائل مكدسة من هنا وهناك، قضايا ومشكلات تنتظر الحل، المجلة التي تلوح كتهديد دائم يفتح فمه وبحاجة إلى المزيد، الأعباء المالية، شبكة من الاتصالات بالمسؤولين ورجال الأدب، الاتصال بالأعضاء، كل هذا والمساعدون قليلون، والمطالبون أضعاف المعطين، ويحمل الدكتور عبد القدوس كل هذه الهموم، ويتحرك هنا وهناك، ويوفقه الله بما آتاه من نفاذ الشخصية، وحسن التواصل مع الآخرين إلى أن يحل مشكلات كثيرة، وأن يفتح أبواباً جديدة للرابطة، وأن ينهض بالقسط الأوفى من تدعيم كيانها ودفعه إلى الأمام، لقد رأيته بحق رجل قضية آمن بها فصارت في عروقه ووقف لها مواقف، لا يثبت فيها إلا أولو العزم، وهذه في يقيني ميزات عالية، فالمبادئ تبقى أحلاماً وربما تصبح أوهاماً إن لم ترزق برجال يؤمنون بها، ويضحون من أجلها، وهؤلاء في يقيني أيضاً مبدعون حضاريون ولا شك.أسأل الله أن يجعل عمله خالصاً لوجهه، وأن يسدد خطاه ويثيبه أجر المحسنين.