الأستاذ المحدث حسين سليم أسد الداراني(1)

كلمات لابد أن تقال:

تراجم الرجال لا تكتب عادة إلا بعد رحيل أصحابها؛ وقلت التراجم التي كتبت وأصحابها أحياء يرزقون؛ ولهذا ما هممت يوما بالترجمة لوالدي إلا وانتابني خوف من هذا الخاطر ولكنني أهم الآن بذلك ولساني وقلبي يدعوان له أن يبارك الله له في عمره ويعظم له في أجره، ويورده موارد المتقين العاملين المخلصين دنيا ومنازل الصديقين الأبرار آخرة ‘إنه خير من سئل وأكرم من أجاب

ولعل اتصال الأستاذ الفاضل سعدي أبو جيب وطلبه مني أن أترجم لوالدي كان له أثر كبير في إسراعي بكتابة هذه الترجمة فجزاه الله كل خير.

أترجم لولدي وأنا أدعو الله عز وجل أن لا تدفعني العاطفة والبنوة إلى ادعاء ما ليس فيه من خصال، أو تعميني عن حق يجب أن يقال، أو يأخذني مركب الحب إلى الإبحار في مجالات التضخيم والمبالغة كما اعتاد الكثيرون في هذا المجال.

وحينما بدأت التفكير في هذا الأمر؛ وجدتني أحتار من أين أبدأ؛ ولكنني اهتديت إلى إعطاء صورة موجزة عن المكان الذي ولد فيه والزمان الذي عاش فيه؛ وهذا وحده كاف لمساعدتي في إعطاء صورة عن الكيفية التي ترعرع فيها؛ وعناية الله التي حفته حتى بلغ ما بلغ؛ رغم حلكة الزمان وقسوة الأحوال والظروف السائدة في تلك الأيام.

البلد ومكان الميلاد:

في داريا حاضرة الغوطة الغربية قرب دمشق وفي الربع الثاني من القرن العشرين الميلادي؛ والربع الثالث من القرن الهجري الرابع عشر كانت ولادة الوالد الأستاذ المحدث حسين سليم أسد الداراني .

كانت داريا في ذلك الوقت ولا تزال كبرى حواضر الغوطة الغربية حول دمشق: ولعل قربها منها جعلها تعيش نفس الأجواء والأحوال التي كانت تسودها؛ مع فارق الجو الريفي الزراعي الذي كان يعمها؛ فداريا وهي بلد تحيطها البساتين والخضرة من كل جانب ويأتيها النهر الأعوج من غربها ليروي كل ما في غربها من بساتين ويأتيها نهر بردى من شرقها ليروي كل ما في شرقها من أراضي ولتلتقي فروعهما في بعض نواحيها ليكملا ري البلد بكل أقسامها.

كان سهلها أرضا لا وعورة فيها ولا جبال؛ خصبة معطاء أشجارها طيبة تغطي أراضيها وطرقها؛ حتى أن السائر يمشي الطريق الطويل فلا يرى الشمس أبدا؛ فالظلال وارفة والأغصان ملتفة والمياه العذبة تملأ جداولها وأنهارها والبساتين عامرة بكل ما جاد الله به عليها من نعم وأرزاق. وهي بلد العنب الذي ما عرف الناس أشهى ولا أظرف ولا أطيب منه في كل الديار.

كان معظم الناس في داريا آنذاك يعملون في الأرض يزرعونها ويبيعون محاصيلهم في دمشق وما حولها، ولم تكن الكهرباء قد وصلت إليها، واقتصرت وسائل النقل على الدواب غالبا والدراجات الهوائية أحيانا.

مدارس البلد كانت مقتصرة على مدرسة ابتدائية واحدة، مع بعض الكتاتيب التي كان يعلم فيها مشايخ تلقوا العلم على بعض علماء دمشق، ولهذا السبب رأينا الجهل يعم البلد كسائر بلاد الشام ذلك لأن أكثر الأطفال والشباب لم يتسن لهم دخولها.

وهناك في البلد عدة مساجد يرتادها المسنون فقط أما الشباب فكانوا بعيدين عنها شغلهم العمل أو الجهل أو طيش الشباب.

كما كانت هناك في الحارة الجنوبية بيوت للنصارى تجمعت حول كنيستين قديمتين يعيش أهلها كما يعيش أهل البلد يلبسون كما يلبسون ويعملون في التجارة والنجارة وضمت إحدى الكنيستين المدرسة الابتدائية التي فتحها فيها الفرنسيون إلى أن نقلت إلى بناء جديد نتيجة مطالبة الأهالي .وكما العادة في كل الحواضر كان في البلد عدة مخاتير ووجهاء، وكانت هناك أسرة دمشقية تمتلك أراض كثيرة فيها هي عائلة البكري وكان عميدها أنور البكري الإقطاعي المتنفذ في البلد يجمع للعثمانيين الضرائب والأتاوات واستمر له هذا الأمر في العهد الفرنسي، ولهذا كان الناس يحسبون له كل حساب .

المولد والنشأة:

في هذا الجو، وفي عام1351هجرية الموافق ل 1932 ميلادية ولد الأستاذ المحدث حسين سليم أسد الداراني وما ان بلغ السنتين من عمره حتى توفي والده الذي كان يعمل في تجارة الجملة يبيع الطحين والسكر والحبوب في دكان وسط البلد لأصحاب الدكاكين فيها.

ونتيجة لهذه التجارة ربطته علاقة قوية مع أصحاب طاحونة البوابة في أول الميدان في دمشق واتفق معهم, على أن يرسل طنبرا يجلب أكياس الطحين والحبوب منها كل عدة أيام على أن يضعوا في كل كيس بندقية يوصلها إلى الثوار في الغوطة لمقاتلة الفرنسيين ,ولتقوم زوجته بمرافقة الطنبر عبر حواجز الفرنسيين التي انتشرت على الطريق حتى توصلها إلى محله بسلام . ومع هذا فقد ربطته علاقة خفية مع رجالات الحزب الوطني في الشام، وبقي كذلك حتى عاجله مرض عضال دخل إثره إلى المشفى وتشتد عليه سطوة المرض ويذهب معه المال وقد كان خلفه في محله بعض أصحابه الذين ضيعوا بسوء إدارتهم وقلة أمانتهم ما بقي من مال وليتوفى بعد ذلك ليترك زوجه وأولاده دونما معيل.

أمام هذا الواقع قامت الزوجة أم أستاذنا بتعلم مهنة التوليد ولتصبح قابلة البلد وبذلك وقت نفسها وأولادها محنة الفقر، بل راحت تنفق على المحتاجين والفقراء ولا زلت واخوتي نذكرها حينما كانت تنفق على أرحامها وجيرانها، حيث كانت ترسلنا أحيانا لإيصال كثير من الأمور والمال إليهم في دورهم كما كانت تشتري في المناسبات أثواب القماش توزعه عليهم لخياطته لهم ولأولادهم أيام العيد، وما كانت تسمع بمسجد الا وترسل له ثريا أو سجادة أو مالا حسب استطاعتها في تلك الأيام.

توفي الوالد إذن، فاحتضنته والدته مع أختين تكبره إحداهما بعشر سنين وتصغره الأخرى بعام واحد، ولقد أحاطه حزم أمه وقوة شخصيتها وحكمتها واحترام من حولها لها بعد فقد والده بسياج يحميه من كل ما ينال نفس اليتيم من جراح وآلام.

واستمرت الطفولة هادئة رتيبة، لتضعه أمه فيما بعد في بعض كتاتيب البلد - كما ذكر لنا- التي كان يعلم بها بعض المشايخ الذين كان يكثر من ذكرهم أمامنا مثل الشيخ التقي الورع عبد اللطيف الأحمر، والشيخ ابراهيم أبو حلمي، والشيخ عبد المجيد العبار وشيخ من آل حمودة، ولما كان الجامع الكبير قريبا من بيته، وكان الشيخ عبد اللطيف الأحمر إماما له، فقد كان يمر ويصطحبه إلى المسجد كلما ذهب اليه مما جعله يألف المسجد ويكثر من ارتياده على غير عادة الشباب آنذاك .

انتقاه معلم المدرسة الابتدائية من بين طلاب الكتاب الذي كان فيه ليكون تلميذا في مدرسته - وكان في بداية كل عام يقوم بانتقاء المتفوقين في الكتاب ليدخلهم المدرسة - ليدرس فيها عامين أو ثلاثة، ثم يتركها نتيجة لقسوة المعلمين وشدتهم .

وفي إثر ذلك، فتح قرب منزله دكان حلاقة بعد أن تعلم الحلاقة عند أحد حلاقي البلد، حيث كانت بالنسبة له مرحلة تعلم فيها الكثير من أمور الحياة، لأنه كان يأتيه فيها وجهاء البلد ومخاتيرها الذين اختاروه ليكون جليسهم، يقرأ عليهم من الكتب والقصص التي اعتاد الناس عليها كعنترة والزير سالم وسيف بن ذي يزن، ويردد عليهم الأشعار والنوادر التي ألمَّ بها في ذلك الوقت، ومن هنا اكتسب الخبرة الاجتماعية والشجاعة في الاختلاط بالآخرين حتى صار بعد فترة وجيزة مفتاحا لعقدهم وحلَّالا لمشاكلهم يحترمونه ويستشيرونه في كثير من الأمور، ولعل هذا ما شجعه على العودة إلى إتمام دراسته فجمع الدراسة ليلا مع الحلاقة نهارا وليتم المرحلة الابتدائية ثم الإعدادية في دمشق، ومن ثم الثانوية رغم صعوبة التنقل وبعد الطريق، وكلَّما ازداد علمه، علت مكانته، وزاد حب الناس له، وقربه من وجهائهم، وعظم احترامهم له، واشتغل أثناء ذلك في التعليم لفترة وجيزة، وترك الحلاقة ليدخل الجامعة السورية في قسم اللغة العربية .

لم يكن في البلد في ذلك الوقت إلا القليل من المتعلمين، ولم ينل الثانوية قبله فيها إلا أربعة أشخاص أو خمسة فقط وشكلت الجامعة تحديا كبيرا له أثبت فيها أنه أهل لتجاوز كل الصعاب، فقد انكبَّ على الدراسة والكد حتى أنهاها دون أي تأخير.

في ذلك الحين امتلأت الجامعة بكبار الأساتذة والعلماء الذين كان يذكر فضلهم على الدوام ومنهم الدكتور صبحي الصالح والأستاذ سعيد الأفغاني، والأستاذ عمر فروخ، والأستاذ راتب النفاخ، والدكتور مصطفى السباعي رحمهم الله تعالى وكل هؤلاء وغيرهم من الجهابذة في الجامعة وغيرها كان لهم الأثر الكبير في تحديد بنيانه الفكري وتوجيه دفة سفينته.

نضج قبل الأوان:

قبل أن أسترسل في هذه المرحلة الهامة من حياة الوالد، لا بد لي من ذكر أن كثرة اختلاط الوالد بمشايخ البلد ووجهائها جعله يطلع على معظم أمورهم، فتجاوز بذلك رهبة الكثير من الهالات التي كانت تخدع الكثيرين مما يجعلهم يشعرون بالوجل أمامهم، ولذلك زال هذا الحاجز عنده، بل صار جريئا معهم حتى أنهم صاروا يخشون لسانه ويخافونه لأنه يعرف عنهم الكثير، بل يعرف عنهم أمورا لا يعرفها أقرب الناس إليهم، وجعله ذكاؤه وحافظته وسعة اطلاعه لا ينخدع بمن حوله ولا يعطيه أكثر من حجمه لأنه يعرفه تماما، وهذا كان شأنه مع كبار البلد ومن يراهم الناس كبارا فكبر أكثر في عيون العامة من الناس الذين كانوا يرونه يخالط هؤلاء الكبار ويتعامل معهم ويعاملونه بكامل الاحترام و التقدير، بل راحوا يعيرون أولادهم به ويطلبون منهم أن يكونوا مثله ويحذو حذوه، وغدا بعد عمله بالتدريس عند الجميع معلما ومدرسا كبيرا ووجيها عالما ينظرون إليه بالإعجاب والتبجيل في زمن ساد فيه الخواء والفراغ.

الأمكنة التي علم فيها:

لقد امتدت هذه الفترة (1950 - 1962 ميلادي)إلى بدء ستينيات القرن العشرين تقريبا وتنقل خلالها في التدريس في عدة محافظات سورية، حيث ابتدأ التعليم في محافظة القنيطرة بالحميدية، ثم إلى الكسوة في محافظة دمشق، ثم إلى داريا، ثم إلى تدمر في محافظة حمص، ليعود بعدها إلى مدينة دمشق ليدرس اللغة العربية في مدارسها ومعاهدها ويحط رحاله في إعدادية عباس محمود العقاد، وخلال وجوده فيها درس لفترات قصيرة في عدة معاهد ومدارس أخرى .

وخلال هذه التنقلات كان يزداد خبرة وإدراكا لما حوله، ويزيد معه اعتماده على نفسه بعد أن كانت والدته قد أراحته من معظم عناءات الحياة وعذاباتها ، وما عهدناها حينما وعينا الا راضية عنه، داعية له بأدعية غدت عندنا جميعا نشيدًا ينشر في نفوسنا كل سكينة واطمئنان.

زواجه:

وكذلك كان زواجه في هذه الفترة من شريكة دربه أم سليم، التي كانت السكن واللباس والظل الظليل الذي يخفف عنه مصاعب الحياة ولقد تمَّ ذلك في عام 1956 ميلادية، وأم سليم قريبة له تعلمت قراءة القرآن في أحد كتاتيب البلد على غير عادة الإناث آنذاك، حتى صارت تجيد قراءة القرآن الكري، لكنها لم تتقن الكتابة، إلا أن ذلك لم يقلل من قيمتها في إعداد البيئة التي عاش فيها الوالد وأكمل مسيرته . فقد أعانته على البر بأمه فوق بره بها صابرة مطيعة قريبة من الجميع لا تحسن الخصام مع أحد، أحبتها والدته مثل بناتها وأكثر حتى كانت تفضلها عليهنَّ، وتخصها بأمور لا تطلعهن عليها؛ لكثرة برها بها، وقربها منها، وحُسن تعاملها معها، خاصة بعد أن فقدت بصرها في آخر أيامها. كما أنها حضنت أولادها وربَّتهم معه تربية شهد بحسنها القاصي والداني خلقا ونظافة وذوقا وتعاملا كما لو أنها كانت خريجة أرقى المعاهد وأعلى الجامعات.

لقد خلفته أم سليم في بيته وأهله، فكانت أمًّا رؤومًا لأولاده، وزوجة بارة مطيعة له، بارة بأمه وأهلها بشكل يثير الإعجاب ممَّا أكسبها حب الجميع من أهله وأهلها، لكن هذا لم يمنعها أحيانا من التبرم من كثرة إحضاره للكتب، وطول مجالسته لها دونها ودون أولادها، حتى صارت أحيانًا تتبرم متندرة حينما تتأخر قليلا في الطعام ونسألها عنه، فتقول: سأطبخ لكم الكتب التي جلبها والدكم.

يتبع