في وداع الدكتور مصطفى مسلم

مات أستاذنا الدكتور مصطفى مسلم، أحد جبال العلم في سورية الحزينة، وأحد النجوم المتلألئة في كردستان المسلمة. مات رجل التربية والتعليم، الذي أمضى حياته في تعليم الشباب وتوجيههم وتربيتهم..

وهو من مواليد بلدة عين العرب القريبة من حلب، حاصل على إجازة من كلية الشريعة بجامعة دمشق، وعلى الماجستير ثم الدكتوراه من جامعة الأزهر عام 1394 هـ.

انتقل إلى بلاد الحرمين ودرَّس في المعاهد العلمية بالرياض، ثم في جامعة الإمام نحو (25) عامًا، وصار رئيسًا لقسم الدعوة والاحتساب بكلية الدعوة والإعلام بالجامعة، ثم أعفي من عمله وانتقل أستاذًا في كلية الشريعة بجامعة الشارقة ورئيس القسم بها.

أشرف على رسائل ماجستير ودكتوراه كثيرة، وحكَّم بحوثًا، وقوَّم برامج، وعمل مستشارًا وخبيرًا علميًّا.. وحضر مؤتمرات وندوات إسلامية، وأشرف على دورات تدريبية للأئمة والخطباء، وفي علم المواريث الذي كان ماهرًا فيه، إضافة إلى دورات في التفسير وعلوم القرآن..

وكان عضو لجان ومجالس علمية وتربوية، ومشرفًا ومنسقًا. كما أشرف وشارك في إعداد ونشر موسوعات في علوم القرآن.

أنشأ كلية للشريعة في كردستان العراق، وتوَّج حياته العلمية بإنشاء جامعة الزهراء في مدينة غازي عينتاب، وحصل على الجنسية التركية.

له ما يقرب من (90) أثر علمي، بين كتاب وبحث ومقال، ومن عناوين كتبه: مباحث في إعجاز القرآن، مباحث في علم المواريث، مباحث في التفسير الموضوعي، معالم قرآنية في الصراع مع اليهود، مناهج المفسرين: التفسير في عهد الصحابة، تفسير القرآن العظيم لعبدالرزاق الصنعاني (تحقيق، 3 مج)، تربية الأسرة المسلمة في ضوء سورة التحريم، التفسير الميسر للقرآن الكريم (الجزء التاسع والعاشر).. إضافة إلى أعمال مشتركة، ومقررات ومناهج تعليمية..

وقد عرفته من قرب منذ عام 1401 هـ، بل كنت من خواصّ تلامذته، وكان يثق بي ويستشيرني في أمور ويتصل بي للاطمئنان عليّ وعلى عائلتي، ويستفسر عن أعمالي العلمية، وعندما سكن في إحدى الحارات بالرياض طلب مني السكن بها، فكنت على بعد خطوات من داره، وكانت له دروس علمية في البيت لا تنقطع، فحضرت كثيرًا منها على مدى سنوات، وكان اهتمامه بالفقه وعلوم التفسير، وتعرفت من خلال دروسه وزياراته على كثير من وجهاء الرياض والدعاة وطلبة العلم والأثرياء وذوي المناصب بها.

هذا إضافة إلى كونه أستاذًا لمادة التفسير في المعهد العالي للدعوة الإسلامية، وكنت طالب دراسات عليه به، وقد تحول إلى (كلية الدعوة والإعلام)، واستفدت من محاضراته كثيرًا، بل كان أفضل أستاذ عندي، وذلك لأسلوبه التربوي الرائع، وفصاحته، وكلماته الموزونة والمنمقة المنسقة، التي تستطيع عدَّها.

وكان مليئًا بالعلم، خبيرًا بالأحوال السياسية والاجتماعية، لا يتحرك إلا بحذر، وبخطوات مدروسة، ولا يتكلم كثيرًا، وإذا تكلم فباختصار، فجهوده عملية عميقة.

وكان حريصًا على التواصل بأصدقائه ومعارفه، لا يفقد أحدًا منه، فهو ذو أدب عال، وأخلاق إسلامية رفيعة، ومحبة واحترام..

وكان مطلعًا على أسرار كثير من الشخصيات الكبيرة في بلاد الحرمين، ويقول لي: هل تعرف فلانًا؟ إنه كذا وكان كذا. وكنت محافظًا على أسراره.

وقد صبر واحتسب عندما مات ولده البكر (مصعب) وهو في ريعان شبابه.

وعندما حدثت مأساة حلبجة وضربها بالغازات السامة في كردستان العراق، كانت فرصة عنده للتحرك السياسي، ولكن من خلال تقديم العلم والنشاط الثقافي، فأنشأ (جمعية علماء كردستان)، وكنت أحد أعضائها، ومسؤولًا عن جانب النشر بها، وأخرجنا عدة كتب عن تاريخ الأكراد الإسلامي ومشاركتهم في الحضارة الإسلامية ومأساتهم الواقعية في حاضرهم..

وجمع شباب الأكراد في داره عندما زار الرياض الشيخ علي عبدالعزيز مسؤول الحركة الإسلامية في كردستان العراق.. فكانت فرصة عظيمة للتعارف وتبادل الآراء ومعرفة ظروف العراق والأحوال الدينية بين الأكراد هناك...

لم تنقطع العلاقة بيننا في يوم من الأيام، على مدى أربعة عقود، وكنت إذا تأخرت في الاتصال به بادر هو للاتصال بي والسؤال عن أحوالي... حتى توفاه الله تعالى صبيحة يوم السبت الخامس من شهر رمضان 1442 هـ، السابع عشر من نيسان 2021 م، في مدينة غازي عينتاب، نتيجة إصابته بوباء كورونا.

رحمه الله برحمته الواسعة، وجزاه عنا خير الجزاء.