في وداع الأكابر رثاء العلامة الكبير الدكتور محمود هرموش رحمه الله تعالى

لا يتردد أهل العلم والرأي في ذكر مناقبك وسجاياك، كما لا يشعر أهل الغَيْرَة والدعوة والصلاح بمطلق حرج؛ قليل أم كثير؛ في كشف ما طوته الأيام من فضلك الذي عمَّ، وأثرِك الذي ظهر وبان، وحصادِك الذي قلَّ نظيره وندر في الإطار العلمي والتربوي، وما ساهمت في بنائه ونمائه ونقائه، حتى غدا مناخا أكاديميا مميزا في جامعتك التي أحببت، والتي احتضنتك واستوعبتك، عنيت بها جامعة الجنان، والتي كانت تعتز وتقدر لجهدك العلمي والعقلي؛ لسنوات ربما زادت على العقدين، ولكنَّ آثارها كانت أضعاف عددها والتي تَوّجت وعبَّرت عنه بإقامة حفلٍ تكريمي نخبوي لك، حظيتُ يومها بسعادةٍ وشرفٍ كبيرين حيث كنتُ صاحب الكلمة المعبِّرة عن عاطفتهم وتقديرهم لفضيلتك، فضلا عما يحمله عقلي وقلبي من حب وتقدير وإعجاب لعقلك الأصولي ومنهجك العلمي الذي ما خرج يوما عن دائرة وإطار مقاصد الشريعة وعمومها، فضلا عن إنتاجك لأكثر من سِفْرٍ هو إلى المتون أقرب من سواها، والذي بات يشكل موسوعة علمية مستقلة.
ولئن كان منهجك في فهم النصوص في إطار العموم والمقاصد، فإن ما أُعطِيتَهُ من نعمة صحبة العلماء والأولياء، والتي أكسبتك معرفة الأحكام والحجة والدليل، لتكون عالما، وفقيها، وأصوليا، هي التي أكسبتك صفاء الحال وطهارة النفس واستقامة السلوك والطريق، وهذه؛ وأيم الله؛ صفات العارفين والسالكين الموفقين والمباركين، وتؤتى معها معرفة الحكم وكشف الأسرار والإشارات وتكون الحقيقة عين الشريعة وليست غيرها.
فالعلم عندنا ليس شهادة ولا وظيفة، وإنما عقل وقلب، وفهم وإدراك، واستيعاب وملكة، وسرعة بديهة، لتحقيق المنافع والمصالح للعباد، فضلا عن درء المفاسد والضرر والخطوب، ولذلك قالوا: (حيثما وجدت المصلحة فثمَّ شرع الله).
والحديث عن الحال والأحوال وعلم السلوك والإشارات فذلكم بالأولى لا يُكتسب إلا من أولي النُّهى والبصيرة والألباب، وبالتلقي والصحبة والتجرد، ويرحم الله الإمام الغزالي أبا حامد عندما سئل عن العالم: من هو؟ قال: (العالمُ هو الذي إذا رأيته ذكرتَ الله)، لأن العلم نور، ونور الله لا يُهدى لعاصٍ، ويرحم الله الإمام الشلفعي فيما نُسب إليه من قوله: (ليت شعري أيّ شيء فاته من أدرك العلم، وليت شعري أي شيء أدرك من فاته العلم)، والعلم إن لم تعطه كلك لم يعطك بعضه.
لقد قضيتَ رحلة المائة عام في الطلب بنصفها تحصيلا واستيعابا وفهما وغنى، لذلك كان الكلام في نعيك ورثاء أمثالك محمودا رغم أن الفراق والغياب مألوم.
عرفناك أيها الراحل الرَّضيّ كما عرفك أهلُ بلدك: طيبَ المعدن، أصيل العنصر، صافي السريرة، مستنير العقل، طويل الباع، هادئ النفس، ممدوح السيرة والسلوك، دمِثَ الأخلاق، متواضع المشية، بهيَّ الطلعة، نَضِرَ الوجه، هيِّنًا ليِّنا، كَيِّسا فَطِنا، قريبا أينما كنت، بعيدا عن التكلف والمظاهر، ألِفًا مَألوفا، حاضر الفكر والحجة والبديهة، واسع النظرة، ملكت قلوب تلامذتك وكلَّ من عرفك، ولفتَّ أنظار من سبقك من أهلِ العلم والفضل والرأي، أخذت العلم تلقيا وبأدب الجلوس على الركب، فملكت الزمام والحجة والبرهان، وأصبح ذلك بعضُ سجاياك، ونهلت من بحر العلوم، وسبرت أغوار الكتب الصفراء والمراجع والمجلدات، ولزمت الكبار وتفيأت ظلهم، وما عرف الغرور سبيلا إلى قلبك وعقلك، وازددت شعورا بالحاجة إلى علمٍ شُغل الكثير من أهله بغيره، ولم تكتف باليسير أو المتعارف عليه من معرفة الأحكام، فسلبك نوم الليالي ومنعك من متع الذهاب والإياب، فنحل جسمك وضعُف بصرك، وقويت بصيرتك، فارتويت وتضلَّعت، وأوتيت حسن الإشارة وسبك العبارة، وحظيت بمحبة واحترام حتى المخالفين لك في الرأي وفي المنهج. لم تكن يوما خصما أو طرفا في نزاع سياسي أو ديني أو علمي، رغم تميزك بالرأي والفهم والاستيعاب، ولعلَّ ذلك من أثر فقه السلوك والتعامل، أو فقه الحياة. بل ربما كان من بركة الاسم الذي زينك وجمَّلك، وحفظته وحافظت على مضمونه ودلالته ومعناه، فلنعم الاسم الذي كساك وزينك، وأعطاك وشرفك، حتى غدوت محمودا في مبناك ومعناك.
(محمود) أخي الأعز
فارقتنا وعزَّ علينا الفراق، ورحلت عنا وكم آلمنا الرحيل. بكتك طرابلس. وبكاك محبوك، ولكنهم احتسبوا مصابهم عند من هو أولى بك منك ومنا. فارقتنا أيها الرضيُّ الوفِيّ، وخسر المسلمون عامة وطلبة العلم خاصة هامة لافتة، وقامة آخذة، استحقت لقب العالم والمربي والمثل.
قليلون الذين حققوا وقدموا لأمتهم ومجتمعهم ما وُفقت له من كمٍّ ثري بالعلم أشبه الكنوز، وفيه جرأة العالم المتمكن الذي يعيش زمانه وغده ومستقبله، بل الذي يحمل همَّ وحدة الأمة وسُبُلَ التقريب بين الفرق والنِّحَل، وكل ذلك يذكرنا بالجهابذة من العلماء من الرعيل الذي سبق وترك إرثا لا يُنسى ولا يُمحى.
لقد جاءك المجدُ وحبا إليك. وغمرتك المحبة والثقة، وعُلِّقَت عليك الآمال، ولم يخِب الظن بك، فأُعطيتَ ورُقِّيت، ومُنحت وبوركت، وتركت لنا أبناء بررة: الدكتور عبد الله، والصيدلي عبد الرحمن، والشيخ عبد الرحيم، وشقيقتيهما، كل واحد منهم آية في عمله وتخصصه وسلوكه.
ثم ورث علمك من التلامذة ما لا يعد ولا يحصى، وملؤوا بقاع العالم العربي والإسلامي والغربي، وحسبي أن أفاخر معك باثنين منهم استحقا لقب العالم الثقة الثبت، وقد عاشرتُهم وعاملتهُم وحاورتهُم في مسيرتي الأخيرة يوم أن شرفت بأمانة الإفتاء لطرابلس والشمال، عنيت بهما سماحة أمين الفتوى الشيخ محمد إمام، القائم الآن مقام المفتي، وأنعم به وأكرم، وفضيلة الأستاذ الدكتور الشيخ ماجد الدرويش الذي استحقَّ لقب شامة طرابلس، المدينةِ التي بدأت مسيرة التجديد العلمي والفكري والدعوي. حسبك أيها العلامة هذا الأثر الطيب الذي لا ينقطع به أو معه العمل والثواب والأجر، (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقةٍ جارية، أو علمٍ يُنتفَع به، أو ولدٍ صالح يدعو له). نم قرير العين أيها الطاهر، ولا نزكيك على الله تعالى، تتنزل عليك شآبيب الرحمة والرضوان، والسكينة والاطمئنان، يحفظك الله تعالى بركنه الذي لا يضام، ويحرسك بعينه التي لا تنام. آنس الله وحشتك، ورحم الله غربتك، وأنزلك منازل الأبرار والصديقين والشهداء، وحسن أولائك رفيقا. يمَّن الله كتابك، ويسَّر حسابك، وجعل قبرك روضة من رياض الجنة، وجعلك ممن قال عنهم في كتابه: ﴿يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين﴾.
ثم عزائي إلى أهلك، وأهل بلدك، وعشيرتك، ومدينتك، وتلامذتك، ومحبيك، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا على فراقك لمحزونون. لقنك الله حجتك، وثبت قلبك وجنانك بالقول الثابت، وجمعنا وإياك مع النبي المصطفى تحت لواء الحمد، وعلى حوضه والكوثر، ثم في الفردوس الأعلى، راضين مرضيين، وقد خرجنا من ذنوبنا كيوم ولدتنا أمهاتنا... اللهم آمين.