الشيخ محمد عبد الحميد العلاف رحمه الله تعالى


مأخوذة من مقدمة ثبته المسمَّى " تحفة الأخلاف بِوُصْلة الأسلاف من إجازة الشيخ محمد بن عبد الحميد العلاف".
وقد قرئ أصل هذه الترجمة على الشيخ في حياته وأقرها.
هو الشيخ محمد بن عبد الحميد بن سعيد العلاف ، الحسيني ، الحلبي ، الشافعي ، النقشبندي .
ولد حفظه الله تعالى في حلب عام (1339هـ ) الموافق لعام (1921م) ، لأبوين كريمين شهمين أصيلين، من خيرة المجاهدين في سبيل الله تعالى في وجه الفرنسيين.
قد أكرمه الله تعالى بأب شهم، وأم ما نعتت إلا بأنها صنو الرجال، فقد قدمت بيتها ومالها وراحتها للمجاهدين في سبيل الله تعالى، وكلفها ذلك اعتقال زوجها، وتشتت راحتها، ولكن آثرت الباقية على الفانية، ولم يكن من زوجها إلا حثها ودعمها على ذ لك.
بين هذين الشهمين نشأ الشيخ محمد حفظه الله حاملًا عنفوانًا وحمية دينية، أظهرت ثمارها في حلب والحجاز ومصر والأردن، وسطرت له مواقف خالدة في التاريخ الحديث للأمة.
نشأ الشيخ حفظه الله تعالى في أحلك ظروف مرت على الأمة الإسلامية، من انهيار الدولة العثمانية، واحتلال الغرب للمدن الإسلامية.
امتهن الشيخ منذ كان في السادسة من عمره مهنة الحلاقة إلى أن برع فيها، وفتح عملًا خاصًّا به، وكان يعمل عنده الشيخ محمد الحجار الحلبي نزيل المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة وأتم السلام، وكان كلاهما لا يزال دون الخامسة عشرة من عمره، ولم يكن الشيخ ليظن أنه قد يطلب العلم الشرعي أو يتخصص به في يوم من الأيام.
فنشأ الشيخ حفظه الله تعالى نشأة عصامية، لم يعرف ما معنى الطفولة سوى أنها مسؤولية وجدية .
وكان مع عمله يدرس في مدرسة الاستقلال الابتدائية، وكان الضابط الفرنسي المسؤول عن المدرسة يعجب بذكاء الشيخ وجودة قريحته وخصوصًا في العلوم الحسابية.
النفحة الأولى:
وفي يوم من الأيام دعا الشيخَ حفظه الله صديقه الشيخُ محمد الحجار إلى منزله، وظن الشيخ أن هذه الدعوة كأيِّ دعوة بين شباب ، ليتسامروا ويقضوا وقتًا يروحون فيه عن أنفسهم، ولكن المفاجأة أن الشيخ لما وصل إلى دار أخيه ودخل قاعة بيته وجدها مملوءة بالرجال والعلماء، ويتصدَّر المجلس شيخ كبير وقور مهيب، قد تحلق العلماء حوله، وجلسوا وكأنَّ على رؤوسهم الطير .
فقال الشيخ لصديقه: من هؤلاء يا فلان؟ وما جلوسنا معهم؟ كيف تدعوني إلى هذا المجلس ؟ وهنا يسمع الشيخ من صدر المجلس ومن ذلك الشيخ المهيب صوتًا يناديه، قال: يا محمد، فيقول الشيخ: لا بد أنه ينادي غيري، ثم يكرر النداء ولا يظن الشيخ أنه المقصود، ثم يقول له الشيخ: أنت يا علاف ، تعال ، فهنا يجم الشيخ ويتوجه نحو الشيخ الذي هو ولي الله تعالى القطب الكبير سيدي ومولاي الشيخ محمد أبو النصر خلف ..
فيسلم الشيخ عليه ويقبل يده، ثم يضمه الشيخ ضمة يغيب فيها عن الوجود، ليرجعه الشيخ بعدها ويبشره بشائر بأن له مستقبلًا كبيرًا، وبشارات أخرى تحققت جميعها والحمد لله .
وهنا كان التحول الأكبر في حياة الشيخ، فلقد بعثت ضمَّة الشيخ له روحًا متقدة فيه، ترى جميع مطالب الدنيا صغيرة أمام تحقيق رسالة الله تعالى من خلق الإنسان ، وهو الدعوة إليه ، وتبليغ دينه للناس .
وهذا كان في الخامسة عشرة من عمر الشيخ حفظه الله، ثم انتسب الشيخ إلى المدرسة الخسروية ، وكان في دفعة سيدي الشيخ عبد الله سراج الدين رضي الله تعالى عنه، ومعه أيضًا الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، والشيخ محمد فوزي فيض الله، والشيخ محمد الدباس، رحم الله تعالى الجميع .
الدراسة في الخسروية:
فبدأ الشيخ الدراسة في الخسروية بجد واجتهاد، وحرص وذكاء، وتعلق بشيوخها واتباع لهم، مع ملازمة لحضور مجالس الشيخ أبي النصر قدس سره، بل وخروج معه في بعض أسفاره إلى القرى والأرياف لأجل الدعوة إلى الله تعالى وتعليم الناس وإرشادهم، وقد سافر الشيخ مع شيخه أبي النصر في إحدى المرات إلى قرية السفيرة مشيًا على أقدامهم.
وصور جهاد الشيخ أبي النصر في الدعوة إلى الله تعالى ومكابداته تحتاج إلى كتاب خاص لذكرها.
ومن الكتب التي درسها الشيخ في الخسروية كما ذكر الشيخ فوزي فيض الله في إحدى محاضراته عن سيدي الشيخ عبد الله سراج الدين رضي الله تعالى عنه :
أخذ الشيخ عن الشيخ أحمد الكردي ، علم أصول الفقه في كتاب " المنار " للنسفي ، وكان له معه ذكريات ومباحثات .
وأحكام المعاملات عن الشيخ محمد السلقيني ، في كتاب " اللباب " ، وكانا يتدارسان معًا " شرح التوضيح " في أصول الفقه في زاوية الشيخ محمد السلقيني رحمه الله تعالى في باب المقام ، كما قرآ كتبًا أخرى في جامع الطواشي.
وعلم الصرف عن الشيخ عبد الله حماد في كتاب " متن البناء والأساس " ، وكتاب " المقصود " المنسوب إلى الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى وشروحه ، وعلم النحو عن الشيخ عبد الله حماد أيضًا في شروح " الآجرومية " وحواشيها للشيخ خالد الأزهريّ ، وشروح " الأزهرية " وحواشيها ، عن الشيخ حماد نفسه والشيخ محمد السلقيني ، والشيخ إبراهيم السلقيني الجد ، وعن الشيخ أسعد العبه جي في كتاب " قطر الندى " .
وعلم التوحيد والمنطق عن الشيخ فيض الله الأيوبي الكردي .
وعلوم البلاغة عن الشيخ محمد الناشد .
وعلم الأخلاق والتصوف عن الشيخ عيسى البيانوني ، وكان له به تعلق كبير .
والحديث وعلومه عن الشيخ محمد راغب الطباخ مدير المدرسة الخسروية ، في كتاب " مختصر الزبيدي " و" شرحه" للشرقاوي؛ وكتاب " الشمائل المحمدية " و "شرحه " للباجوري .
وعلم التجويد والقراءات عن الشيخ عمر مسعود الحريري ، في كتاب " هداية المستفيد إلى علم التجويد" .
والإملاء والإملاءات في الأدب عن المرحوم الشيخ مصطفى باقو، مدير الخسروية قبل الشيخ محمد راغب الطباخ .
شيوخه في حلب:
لقد حضر الشيخ حفظه الله بالإضافة إلى شيوخ الخسروية على أركان العلم في حلب، وخصوصًا طبقة الأركان الأربعة الذين تؤول إليهم مشيخة العلماء، وهم:
سيدي الشيخ محمد نجيب سراج الدين الحسيني.
سيدي الشيخ إبراهيم بن محمد السلقيني.
سيدي الشيخ أحمد الشماع.
سيدي الشيخ محمد سعيد الإدلبي. رحمهم الله تعالى.
وكان من أخص شيوخ الشيخ محمد سعيد الإدلبي، وله معه مواقف عظيمة لعلي أذكرها إن شاء الله تعالى في كتاب خاص.
كما أدرك الشيخ الشيخ أحمد الزرقا واتصل به.
وكذلك الشيخ محمد أسعد العبه جي الذي خلفه في إفتاء الشافعية.
ومن ثم الشيخ محمد راغب الطباخ الذي قرأ عليه عددًا من الكتب الحديثية وأجيز منه.
ومن شيوخه: الشيخ محمد الرشيد الحنفي، والشيخ محمد زين العابدين الكردي، والشيخ يحيى الصباغ، والشيخ أحمد الحارون، والشيخ محمد الهاشمي، وغيرهم.
ومن إخوان الشيخ في هذه الفترة: سيدي الشيخ عبد الله سراج الدين رحمه الله تعالى، والشيخ محمد فوزي فيض الله، والشيخ عبد الفتاح أبو غدة، والشيخ حسن رزّوق ، والشيخ محمد النبهان رحمهم الله تعالى أجمعين.
وكان له صحبة مع الشيخ محمد السلقيني رحمه الله تعالى وقرآ معًا جملة من الكتب كما ذكرت .
وقال له الشيح إبراهيم السلقيني مرة: لقد استفدت كثيرًا من تعليقاتك على " التنقيح " في كتابة كتابي (في أصول الفقه) . وهذا إنصاف من الشيخ إبراهيم رحمه الله تعالى.
وكان من إخوانه اللاحقين لهؤلاء ممَّن يصغره بسنوات عديدة الشيخ محمد علي الصابوني، وقد رافق الشيخ في عدة أسفار إلى دمشق والحجاز، وكان الشيخ سببًا في تيسير تدريسه لمادة التربية الإسلامية في حلب بعد أن عين في أقصى الشرق السوري، مما لا يدري معاناة ذلك إلا من قاساه.
وكان للشيخ حفظه الله تعالى عمومًا أيادٍ بيضاء على كثير من إخوانه من طلاب العلم، إما في تعليمهم أو التوسط لهم في تيسير أمورهم في الجامعات والمعاهد العلمية وغير ذلك.
سفره إلى الأزهر الشريف:
ثم سافر الشيخ بعد تخرجه من الخسروية إلى الأزهر الشريف، ودرس هناك على شيوخ أجلاء من الطبقة العتيقة، وكان الشيخ عميد الطلبة الشاميين في الأزهر.
وقدم الشيخ هناك عدة أبحاث علمية رصينة استحق بها درجة العالِمية في الشريعة وفي القانون، ومن أبحاثه بحث في ثمانين صفحة حول حرف الواو في اللغة .
وأثناء إقامته في مصر كان له نشاطات علمية عديدة، منها كتابته في مجلة الرسالة، ومنها اجتماعه بكبار رجال العلم والأدب، ومنها إشرافه على الطلبة السوريين في الأزهر، وغير ذلك.
عودته إلى حلب:
ثم عاد الشيخ حفظه الله ليباشر التدريس بالخسروية، وبسبب بعض القائمين عليها والتضييق على المدرسين فيها، لم يعطوا الشيخ سوى بعض المواد من غير اختصاصه، ومن ذلك مادة الرياضيات التي كان بارعًا فيها ومادة اللغة الإنكليزية.
وممن درس هذه المادة على الشيخ في هذه الفترة الشيخ الرياضي المنطقي الكبير شيخنا الشيخ محمد أمين خياطة حفظه الله ابن الشيخ عبد الرحمن رحمه الله تعالى، ثم درّس الشيخ بعد ذلك الفقه الشافعي وغيره من المواد في الخسروية نفسها وفي الشعبانية وغيرها.
كما درس الشيخ مادة التربية الإسلامية في مدارس حلب العامة كثانوية المأمون، وممن درس عليه التربية الإسلامية في المدارس العامة شيخنا الشيخ جمال الدين الهلالي رحمه الله تعالى.
وأمَّ الشيخ في فترة إقامته هذه في حلب في الزاوية العقيلية، وخطب قليلًا في جامع الطواشي نيابةً عن الشيخ محمد السلقيني، وأم في جامع ساحة بزي (جامع عبيس)، وغيرها من المساجد.
سفره إلى الحجاز:
سافر الشيخ حفظه الله إلى الحجاز ودرَّس هناك المذاهب الأربعة ، والتربية الإسلامية، وكان مشرفًا على كثير من المدارس هناك، وكان له دور كبير في تطوير المناهج وتعديلها، وتطوير النظم الإدارية هناك.
ثم تقاعد الشيخ عن التدريس هناك وعاد إلى حلب.
من طلاب الشيخ:
لقد درس على الشيخ حفظه الله تعالى عدد من العلماء وطلاب العلم خلال تدريسه لعقود في الشام ومصر والحجاز، ومن طلابه في حلب:
الشيخ نور الدين عتر، الشيخ إبراهيم السلقيني، والشيخ أحمد الحجي الكردي، والشيخ محمد أمين خياطة، والشيخ محمد عوامة ، وغيرهم الكثير.
من صفات الشيخ رحمه الله تعالى:
لقد أكرم الله تعالى الشيخ بعاطفة جياشة وحس مرهف، ولطف ولين، مع شكيمة وحزم وتمسك في دين الله عز وجل .
والشيخ رحمه الله كريم النفس حافظ للود، لا ينسى معروفًا أسدي إليه، ويسعى ما استطاع في مكافأته، يذكر أصحاب الفضل عليه ممن لا يعلم أسماءهم إلا هو، ويذكر من أساء إليه ثم ما يلبث أن يترحم عليه ويدعو الله له بالمغفرة والسماح.
وهو حسن المعاشرة لأحبابه ، مكرم لهم، يذكر أهل بيته ويشكرهم على عنايتهم به بعد كبره، ويقول: ليس لأحد عليَّ منَّة بعد أمي مثل منَّة زوجتي علي.
دمث الأخلاق، حلو الحديث، خاشع مخبت، كثير البكاء من خشية الله تعالى، كثير التعبد والتقرب إلى الله عز وجل وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم.
كما أن الشيخ رحمه الله صاحب همة عالية فإنه وقد تجاوز المئة يجلس لسماع الحديث الشريف عليه ساعات دون راحة أو اضطجاع، زاده الله فضلًا وأدبًا وعافية.

آثاره رحمه الله:
لقد كان الشيخ رحمه الله تعالى منهمكًا في طيلة فترة حياته في التعليم والتربية والدعوة إلى الله عز وجل، فلم يؤلف كتابًا أو مؤلفًا خاصًّا، ومع ذلك فقد ترك ثلاثة آثار جليلة:
1- المذكرات: أصيب الشيخ رحمه الله في تسعينيات القرن العشرين بحادث أقعده في بيته، فشرع الشيخ في كتابة مذكراته التي اشتملت على تاريخ كبير للفترة التي عاشها الشيخ، وعلى وثائق هامة وعظيمة وشهادات قويمة لكثير مما جرى في القرن الماضي.
2- المقالات: وهي في غالبها محاضرات ألقاها الشيخ في مناسبات مختلفة في مواضيع متنوعة، من فقه وتوحيد ووعظ وتذكير وإرشاد، وغير ذلك.
3- ديوان شعري: جمعه الشيخ كذلك من قصائد مختلفة ألقاها فيها، وضم إلى ديوانه بعض المختارات الشعرية لغيره.
وقد عهد إليَّ رحمه الله تعالى وأمام سيدي الشيخ أحمد يحيى سراج الدين أن أهتمَّ بهذه الكتب وأسعى في طباعتها، والنيَّة معقودة على ذلك، أسأل الله تعالى تيسيرها بمنِّه وكرمه.
وفاته:
انتقل الشيخ رحمه الله تعالى إلى جوار ربه الكريم ليلة الإثنين، في الثامن عشر من جمادى الآخرة سنة 1442.
رحمه الله تعالى وأحسن جواره، وأكرم نزله ووفادته.